يتمركز فكر الحركة الإسلامية حول مفهوم الحاكمية لله ، كمفهوم فضفضاض ينبثق منه منهج وشعارات وبرامج الحركة . على المستوى التنظيمي وكمدخلٍ للإنتماء للحركة تصبح آيات الحاكمية الثلاث ( 44، 45،47 سورة المائدة ) ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ، ( ومن لم يحكم بما انزل الله فأؤلئك هم الظالمون ) ، ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأؤلئك هم الفاسقون ) ، تصبح هذه الآيات فرمان لتقسيم الناس إلى مؤمنين وغير مؤمنين ، دُعاة لتمثُّل قيم الإسلام في مناحي الحياة المختلفة ، سياسية وإجتماعية وإقتصادية ، وآخرون يرفضون هذه القيم أو يجهلونها على أفضل تقدير . فتصبح هذه الرؤى ايدولوجيا تطعن في دين وعقيدة وقيمة حياة المخالفين . بدأت الحركة ومنذ أن كانت تحمل اسم الأخوان المسلمين في التبشير بهذه الرؤى وأخذت من أخوان مصر كمنشأ وحاضن لدعوة الاخوان المسلمين أساليب الدعوة وبناء التنظيم وهياكله . وفي ظل تطورها وبعد أن أصبح الدكتور حسن الترابي على رأس التنظيم في منتصف الستينات أخذ أخوان السودان في سودنة نهجهم وطرائقهم التنظيمية ، فأخذوا من الحزب الشيوعي بناء الخلايا والوحدات التنظيمية السرية والعلنية ، واستفادتوا من الطوائف الدينية وسطية تدينها فنازعوا طائفتي الختمية والأنصار في قواعدهما التاريخية . اتجهت الحركة للدخول في معترك السياسة خلافاً لما انتهجه أخوان مصر في بداياتهم من اعتكافٍ على نشر فكرهم وسط المجتمع كجماعة دينية تتبنى إحياء الدين . تعقيدات المشهد السياسي في مصر والتي قادت لمطاردة واعتقال أعضاء الجماعة هناك وإعدام سيد قطب أحد ابرز مفكريها ، رسَّخت إيمان الحركة الإسلامية السودانية بصحة توجهاتها نحو السياسة وتطلعها للحكم . عملت الحركة لتحقيق مفهوم الحاكمية لله على مستويين ، الأول أفقي عبر محاولة التمدد في قطاعات المجتمع الحديثة كطلاب الثانوي والجامعات والتنظيمات المهنية ؛ الأطباء والمهندسين والزراعيين وغيرها ، فصممت برامج غلب عليها الطابع التربوي ، وسعت لخلق عضوية ( رسالية )لتنظيم ( رسالي ) سبب وجوده الوحيد ، وفقاً لأفكاره ، هو إعادة المجتمع لجادة الدين كما تفهمه الحركة الإسلامية . فأول ما يتعلمه عضو التنظيم هو أنه قد تم اعداده لمهمة مقدسة ما يجعل منه فرد قائد في المجتمع يتقدم عليه بمعرفته بالله ويتفوق بكونه عضوٌ في تنظيم آل على نفسه تنفيذ حاكمية الله ، فينشأ أعضاءه وهم يشعرون بالتميز والتفوق والأحقية بإطلاق أحكام القيمة على مجتمعٍ هم في مهمةٍ مقدَّسة تتمثل ف إعادة صياغته . ويمكن القول أنه ومن منطلق الإحساس بالأفضلية المطلقة والتفوق ظهرت نزعات العنف الأولى بالجامعات تفسيراً رغائبي لحديث الرسول ( ص ) ( من رآى منكم منكراً فليغيره بيده ) . المستوى الثاني الذي عملت عليه الحركة الإسلامية لتحقيق فكرة الحاكمية لله هو مستوىً رأسي ، فاتجهت لحرق مراحل التطور الطبيعي لأي تنظيم ، حيث بدأت في البحث عن مسوغات أخلاقية تمكنها من المشاركة في الحكم ، فتحالفت مع نظام الراحل جعفر نميرى . انتهزت فرصة وجودها بالحكم لتأهيل عضويتها اكاديمياً عبر البعثات الخارجية ، وبناء مؤسسات إقتصادية ضخمة مستفيدة في ذلك من علاقاتها مع أصدقائها بالخليج والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص . إضافةً لذلك ، أفادت من مشاركتها لنميري الحكم في تدريب قادتها على الإدارة وشئون الحكم فخرجت من التجربة برصيد على صعيد الخبرات والتأهيل الأكاديمي ووضع لبنات لصروح اقتصادية تضخمت لاحقاً . كانت الفترة التي قضتها الحركة في الحكم بجانب نميري بمثابة فتح شهية ، أرسلت لها إشارات خاطئة عن قدرتها على الحكم بالنظر لما حققته من التجربة ، ثم أتت الديموقراطية الثالثة فحصلت على مقاعد برلمانية زادت من معدل ثقتها بمقبوليتها وسط المجتمع ، فقررت أن تحكم منفردة بالإنقلاب على التجربة الديمقراطية نفسها وتفرض ( مشروعها الحضاري ) على المجتمع من على ظهر دبابة هاديها في ذلك ( يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ) ، فبقوة السلطة يمكن فرض مشروعها على المجتمع بأفضل مما يمكن أن تفعل بالدعوة والتبشير به وصناديق الإقتراع ، هكذا يبدو تفسير الحديث من واقع تجربة الحركة الإسلامية . أول ما اكتشفته الحركة بعد الثلاثين من يونيو 1989 أنها وفي ظل سعيها المحموم للوصول إلى السلطة بكل الوسائل ، نست أو لم تجد وقتاً لتضع مشروعاً متكاملاً للحكم ، نظرية اقتصادية تتماشى مع فكر الحركة وتصلح للتطبيق على السودان ، رؤى للحكم في بلدٍ مترام الأطراف ومتهدد الديانات والثقافات ، يعيش في وضعٍ مضطرب منذ استقلاله ، نظرية تبني على قيم المجتمع السوداني وتتوافق مع تنوعه وتأثره بالعولمة وثورة المعلومات . وجدت الحركة نفسها صفر اليدين إلا من شهوة الحكم ، فبدأت في التجريب ، واتخذت من السودان وشعبه حقلاً لتجارب تفشل لتبدأ في تجريب غيرها دون دراسة اسباب فشلها . وجدت ملاذاً في تبنيها لمشروعٍ أسمته المشروع الحضاري ، مشروعٌ في حالة سيولة لا تستطيع أن تدرك ما هي أدواته وما الذي تحقق فيه واين مكامن الفشل وهل تتم مراجعة دورية لتقييمه . قبل عشرة سنوات قال الدكتور عبد الوهاب الأفندي في حوارٍ معي ان ( الحركة الإسلامية حكمت بلا خطة وتفكر حسب الظروف ) ، وعندما سُئل الدكتور التجاني عبد القادر في حواره مع صحيفة الصيحة أواخر سبتمبر الماضي ، عن أسباب انقسامات الاسلاميين عزاها ل ( غياب المنهج وهشاشة الرؤية وضعف قيادة كيانات الإسلاميين ) ، في الحقيقة أن وجود الحركة في الحكم أظهر سوءاتها الفكرية ، فبدت تنظيم يؤمن بفكرة مجردة لا تقوم على سيقانٍ من وعي أو جهدٍ فكري يمكِّنها من تقديم مشروع متكامل قابل للتطبيق . أسوأ من ذلك أن تجربة الحركة الإسلامية في الحكم ، وفي أهم خلاصاتها ، أوضحت أنها حركةً غايتها الحكم وقد توسلت إليه بمفهوم ( الحاكمية لله ) الذي ظل مجرد شعارات جوفاء لم تكن مقصودةً لذاتها . فتصالحها مع الفساد المالي والأخلاقي داخل التنظيم ، وقدرتها التي لا تحدها موانع من دين أو خلق في إقصاء وتصفية الخصوم بأكثر الأدوات دموية ولا إنسانية - كما حدث في حروبها بالجنوب و الأزرق ودارفور وجبال النوبة - ، وما ظلت تتبعه من أساليب قمعية غاية في القسوة مع خصومها السياسيين بمن فيهم عراب الحركة الدكتور حسن عبدالله الترابي وأعضاء حزبه بعد خلاف الرابع من رمضان 1999 ، وتبلد حسها الإنساني تجاه معاناة الشعب وما آلت إليه أحوال سواده الأعظم من ضنك في العيش ، كل ذلك تعود جذوره لفكر الحركة الإسلامية نفسها الذي يصنع قادة يؤمنون بأنهم على حقٍ مطلق وأنهم رساليون لا يأتيهم الباطل من بين يديهم ومن خلفهم ، وأن رساليتهم تحتم عليهم القوامة على الناس رضوا أم أبوا ، فهم لا ينظرون للدمار الذي أحدثته سياساتهم في المجتمع والدولة إلا من زاوية الإبتلاءات التي تعترض الدعاة في طريق الدعوة . ففكر الحركة الإسلامية وممارساتها في الحكم منذ تجربتها مع نظام نميري ، أكدت أن الحكم هو الغاية وأن الوصول إليه و البقاء فيه لا تحكمه قواعد الاخلاق والمنطق ، وأن الدين هو الغطاء الذي لا تعدم الحركة تأوياً لنصوصه ، تبرر بها أفعالها وتستمد منه مسوغات استمرارها في الحكم ، في أسوأ صورةٍ يشهدها السودان والمنطقة للجرأة في استغلال الدين للحكم . يذهب الدكتور التجاني عبدالقادر في حواره الوارد عاليه ، إلى أن إزاحة بعض وجوه النظام مجرد لعبة كراسي لا تمثل تغييراً جذرياً في نظام الحكم القائم . حديثه يؤكده واقع حال النظام ، لذلك واهمٌ من يظن أن الإسلاميين قد ابتعدوا عن الحكم ، ببساطة لأنهم لا يستطيعوا ، ولأن ذلك يتناقض مع فكرتهم حول الحكم . بعد انشقاق الرابع من رمضان كانت الفرصة مؤاتية للحركة الإسلامية لمراجعة جذور الفشل في فكرها ومنهجها ، التي قادت للإنقسام ، وقبله للفشل في حكم السودان ، والاتجاه لإعادة بناء التنظيم على ضوء تجاربها السابقة ، والتي كانت ستقودها حتماً ، ان تمت مراجعة صادقة ، لاعتزال العمل السياسي لسنواتٍ تعتذر فيها لنفسها وللشعب من تقولها على إرادته ومغامرتها بفرض مشاريعها التي لا تدرك كنهها ولا تمتلك أدوات تنفيذها . على العكس عاد المؤتمر الشعبي للحكم من جديد وهو يتكئ على ذات عقلية إيجاد المسوغات والتبرير ، وبالقرآن والحديث ، كعقلية ينتجها فكر الحركة الإسلامية . لتطرح أسئلةٌ ملحاحةٌ نفسها : هل يعلم الإسلاميون إنتهازية فكرهم ، هل يدركون بأنه ، ومن واقع تجاربهم في الحكم ، أنه أصبح فكراً بلا بقيمة لدى الشعب الشعب السوداني ، هل يدركون أنهم استنفدوا فرصهم في الحكم كفكر يعتنقه الناس وتنظيم يختاره الفرد بإرادته الحرة ؟ . سيد قطب أحد أبرز مفكري الاسلاميين والذي ظلت أشعاره مصدر إلهام لمقاتلي الحركة الإسلامية يقول في كتيبه أفراح الروح ( حين نخوض للشط الممرع بركةً من الوحل لابد ان نصل إلى الشط ملوثين .. كذلك الحال حين نستخدم وسيلةً خسيسة فان الدنس سيعلق بأرواحنا ، وسيترك آثاره في الروح ، وفي الغاية التي وصلنا إليها ) ، عندما نحاكم الحركة الإسلامية بكلمات سيد قطب ، يذهب التفكير حول غايات الإسلاميين ، هل يحمل فكرهم غاياتٍ نبيلة ، وكيف سعوا لتحقيقها ، و أين وصلوا ، هل بقي دنسٌ لم يلطخهم ؟ . أواصل عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.