ونبقى مع حديث النهضة ، ونتمثل بأفرب النهضات الإنسانية إلينا زمانياً ، وهي النهضة الأوربية ، ومن لحقها من الأمم العاقلة. نحن في السودان ، نُعجب بنماذج النهضة في رواندا وغانا وماليزيا وأندونسيا وتركيا ، كل هذه الدول إستفادت من تاريخ النهضة الأوربية واستعانت بها ، ولكن لدينا ، ولدى غيرنا من المسلمين ، مَن يقول بأننا لسنا ملزمين بالنموذج الأوروبي ، رغم أن الحضارات منذ فجر التاريخ تتوالد من بعضها ، وتأثر في بعضها ، والحضارة الأوروبية لم تأتي هكذا فجأة ، من لا شئ ، دون مقدمات ، الحضارة الأوربية الأولى قبل عصور الظلام إستفادت من الحضارة الفكرية اليونانية والتي إستفادت من حضارات الآشيوريين والبابليين والكلدانيين ووادي النيل ، وإستفادت أوروبا أيضاً ، قُبيْل النهضة ، بمنتوج الحضارة الإسلامية ، وهكذا فالحضارات متصلة ببعضها البعض ، من الطبيعي أن تقوم الحضارات مستفيدة من تجارب حضارات أخرى قائمة وماثلة وناجحة ، الحضارة الأوريبة ونظام الحُكم فيها قامت على العلمانية ، ومن المؤسف أن نرفض النموذج الأوربي بحجة أنه قائم على العلمانية ، والعلمانية ككثير من المصطلحات الأخرى في السودان ، والعالم الإسلامي ، مفهومة خطأً ، مفهومة خطأً جهلاً بها ، أو وهذا هو الأخطر لأن هناك من يتعمد تجهيل الناس بها وتصويرها بأنها كُفر ، و أنها ضد الدين ، وأنها تحارب الدين ، يتاجر أهل الإسلام السياسي كذباً كالعادة بتضليل الناس عن مفهوم ومعنى وأصل العلمانية ، ليس لأنهم مخلصين للدين ، وليس لأنهم حنفاء ، إنما يودون تضليل عامة الناس بشيطنة العلمانية حتى يبقى الناس مستعطفين لمشروعهم الإسلامي الكاذب والمدمِّر . وليست العلمانية فقط هو المصطلح المُزيف ، فمصطلحات أخرى كثيرة مشوشة ، بما فيها مصطلح الشريعة ، ولا مجال لتفصيلها هنا. إن أخطر ما يفعله الإسلامويون والمتأسلمون هو تصوير العلمانية بأنها ضد الدين وضد الأخلاق ، وأن العلمانية ما هي إلاّ دعوة للإباحية والتحلل الجنسي والتعري وشرب الخمر وترك العبادات ، يعني تخيلوا أن فلاسفة العلمانية ودعاة فصل الدين عن الدولة ، منذ أبيقور في اليونانية القديمة ، إلي فلاسفة النهضة والتنوير مثل ديكارت وكانط وهيوم وجورج هوليوك وتوماس جيفرسون وفولتير وجان جاك روسو وتوماس هوبز وجون إستوارت وغيرهم ممن وضعوا اسس فلسفة الأخلاق والديمقراطية والعلمانية كانوا يدعون إلي الإنحلال وشرب الخمر ، وأن همهم الأكير الذي عملوا فيه فكرهم كان الحرية الجنسية ، علماً بأن الحرية الجنسية التي يتحدث الناس عنها اليوم لم تكن موجودة في ذلك الوقت ، إن من أحدي مصائبنا ، وما أكثرها ، في العالم الإسلامي ، وبالذات العالم العربي ، هو أن فكرنا محكوم بمفردتين (كأس+ إمرأة) وما يتعلق بهما، وأن الإنحلال الخلقي يتمثل في هذين العنصرين الشريرين، وأن وضع دستور يُسمى دستور إسلامي ، وبناء جامع في كل حي ، وقفل البارات ، ووضع المرأة في خيمة سوداء متحركة ، سوف يؤدي إلي صلاح المجتمع ويتحول الحال إلي أحسن حال ، وتتحقق المدينة الفاضلة ، هذا خيال يوتيوبي لا مجال لتجسيدها في الواقع ، فعلى المسلمين العودة من مجاهل الغيبوبة إلي أرض الواقع ، وأرض الواقع فيها تحديات عظيمة ، هذه التحديات العظيمة هي النصف الأول لقانون النهضة ، والنصف الثاني هو الإستجابة ، الإستجابة للتحدي هي طريق النهضة. فإذا عدنا لدراسة مراحل النهضة الأوربية بصورة إجمالية ، فقد تمثلت في المرحلة اليونانية القديمة التي أرتفع فيها شأن المنطق والفلسفة، ثم المرحلة الرومانية البرغماتية التي جسدت أفكار اليونانيين وأنتجت قانون روما ، ثم العصور الوسطى ومركزية الكهنة رجال الدين الذين تسببوا في عصر الظلام ، ثم عصر النهضة ومركزية الإنسان الذي إستجاب لتحديات عصر الظلام ، ثم عصر التنوير بتطبيق العقلانية ، ثم الوصول إلي العصر الرقمي. وقد مر على العالم الإسلامي مرحلة ذهبية ، تُرجمت فيها كتب الفلسفة والمنطق ، وإشتغل بها العلماء والمفكرون ، وهي المرحلة التي ماثلت المرحلة اليونانية ، ثم بدأنا ما يشبه المرحلة الرومانية ، ولكن من ناحية واحدة فقط ، وهي الفتوحات وإتساع الدولة ، وفي نفس الوقت ، دخلنا في عصورنا الوسطى المظلمة التي ما زلنا فيها ، ليس بمركزية القرآن ، إنما بمركزية الفقه والفقهاء الذين ذموا العقل وعطلوا تطلعاته ، ورفضوا المنطق والفلسفة ، وقد حُرّم المنطق في العالم الإسلامي فقط لأن من إبتدعه هو أرسطو المغضوب عليه ، ولأن من ترتجمه هو ابن المقفع المغضوب عليه أيضاً ، وقد صُنف المنطق كعلم بدعي لأنه لم يكن موجوداً في عهد الصحابة ، هذا ، رغم أن المنطق هو العلم الذي يُجَنّب الأفهام الوقوع في الخطأ عند التفكير، وهو واسطة لكشف وتفحص المعلومات ، كما أنه يساعد في دراسة مبادئ الإستنتاج الصحيح ، ويميز القضايا والحجج الجيدة من السيئة ، وجوهر المنطق هو معرفة وتحديد القضية المراد إثباتها أو نفيها ، ثم الإتيان بالبراهين التي تستطيع بها الإثبات أو التفي ، إذن ، فالمنطق بهذا التعريف ليس سيئاً حتى يتم إبعاده ، بل هو ضروري للوصول إلي نتائج صحيحة عبر إخضاع القضايا للخصائص المنطقية ، ومن الشيوخ والعلماء الذين إشتغلوا بالمنطق وأيدوه ، على سبيل المثال ، ابن حزم ، وشيخنا حجة الإسلام الإمام أبوحامد الغزّالي الذي قال قولاً عظيماً إختصر به أهمية المنطق ودوره في فهم القضايا (من لا دراية له بالمنطق لا يوثق بعلمه) ، وقد سمّاه الفارابي ب(رئيس العلوم) وسمّاه ابن سينا ب(خادم العلوم) ، وإشتغل به كثير من فلاسفة الإسلام ومفكريه ومتكلميه ، وإذا كانت الفلسفة هي البحث لمعرفة الحقائق فالمنطق هي الوسيلة ، إذن ، لا بد لنا من تعلّم المنطق ، ودراسة الفلسفات التي وضعت الأرضية الصلبة للنهضة الأوربية ، إذا أردنا نهضة تُخرجنا من دوامة الجهل والتخلف التي تسحبنا إلي أعماق الظلمات. نواصل عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.