نأتي إلي العلمانية وخطأ مفهومها عند الغاليبة ، فهي عند البعض كفر صريح ، وعند البعض فكر إلحادي ، وعند البعض نبت شيطاني غريب ، وعند البعض طريق للإنحلال والتفسخ ، وعند البعض الآخر هي جميع ما ذكرنا ، مضافاً إليه الشيوعية واللبرالية والماسونية ، فالعلمانية هي أسوء ما توصل إليه الإنسان ، وهي جامعة لكل فكر شيطاني منذ فجر التاريخ ، هكذا يتم تخيير الناس بين العلمانية والإسلام كأنهما طرفا نقيض ، فالمسلم لا يكون علمانياً ، والعلماني لا يمكن أن يكون مسلماً ، هذا ، رغم أن العلمانية ليست عقيدة ، وليست إيدلوجيا ، ولا يكون الفرد علمانياً ، كأن يُقال أن فلان (علماني والعياذ بالله) ، إنما هناك من يؤيد أن تكون الدولة علمانية ، فيبقى الفرد من دعاة العلمانية ، ولا يستعمل تعريف علماني مقابل مسلم أو مسيحي أو بوذي أو... إلخ ، وإذا كان للمقيمين في دولنا أعذارهم في هذا الفهم الخاطئ ، فما يعجب له المرء أشد العجب ، هو أن بعض المقيمين من المسلمين في الدول العلمانية ، يرفضونها ، ويعتبرونها ضد الدين ومحاربة له ، رغم أن العلمانية هي التي مكنتهم من الهجرة إليها ، ومكنتهم من البقاء في أراضيها كمواطنين ، ورغم أنهم يتمسكون بدينهم ويمارسون شعائرهم بأحسن مما كانوا يمارسونها في بلادهم ، ويتزوجون ويطلقون ويربون أبنائهم على الطريقة الإسلامية ، ويذهبون إلي الحج والعمرة ويعودون ، ويصومون رمضان ويصلون التراويح ويقيمون الليل في المساجد ، ويتحرون ليلة القدر ، وينحرون الأضحية ، ويحتفلون بالأعياد بإقامة الصلاة في الصالات والساحات العامة ، ويخرجون بكامل ملابسهم الإسلامية ، وينعمون بكامل السلام والحرية في إنشاء المساجد ودور العبادة كغيرهم من أصحاب العقائد الأخرى تماماً ، بل أن منهم من لم يكن ملتزماً بالدبن في بلاده وهداه الله في بلاد الكفر والعلمانية . عندما أسمع كلمة علماني يتبادر إلي ذهني سؤال ، وهو ، هل أصبح من يعيش في الدول العلمانية علمانياً ؟، هل الواحد منهم ترك دينه وأصبح علماني المعتقد؟ ، وهل يستطيع أصلاً أن يَعتنق العلمانية؟ ، وهل العلمانية تُعتنق؟، بالطبع لا ، ذلك أن العلمانية نظام حُكم يتأسس على فصل الدين عن الدولة أو السياسة ، وتؤسِس دستور وضعي يساوي الناس جميعاً بما هم مواطنون ، وإذا كنتَ مسلماً تعيش في بلد علماني ويعيش معك المسيحي والبوذي واليهودي واللاديني، فما يجمعكم ليس العلمانية ، إنما تجمعكم المواطنة ، فأنت مواطن أولاً ، وبعد ذلك أنت مسلم ، وذاك يهودي ، والثالث بوذي ، والرابع لا ديني ، والخامس ربوبي .... إلي الآخر ، وتأتي العلمانية لتساوي بينكم كبشر ، تساويكم جميعاً تحت الدستور في الحقوق والواجبات ، تخضعكم جميعاً لقانون واحد. كل دول العالم الحر تُحكم بالديمقراطية ، وهي بذلك بالضرورة علمانية ، إذ لا تقوم الديمقراطية الصحيحة إلاّ إذا كانت الدولة علمانية ، يقوم دستورها على المواطنة ، وبينما الديمقراطية تستلزم العلمانية إلاّ أنه من الممكن أن يكون النظام الحاكم علمانياً ديكتاتورياً مستبداً ، فالديمقراطية تستلزم العلمانية بينما العلمانية لا تستلزم الديمقراطية ، والديمقراطية تختلف طريقة ممارستها من دولة لأخرى ، فالنظام الديمقراطي الأمريكي مثلاً ليس هو نفس النظام الديمقراطي في المملكة المتحدة ، إذ يختلفان جملة وتفصيلاً ، وكذلك علمانية أمريكا تختلف عن علمانية المملكة المتحدة ، وبينما لأمريكا دستور تفصيلي مكتوب ، فدستور المملكة المتحدة ليس مكتوباً أصلاً ، فهو عرفي ، يلتزم به الجميع دون أن يكون مكتوباً ، وتختلف علمانية فرنسا عن علمانية الدولتين سابقتا الذكر ، فالعلمانية شأنها شأن الديمقراطية ، ليست شيئاً واحداً ، منها نسخ تختلف كثيراً أو قليلاً من دولة لأخرى ، إذ تقومان الديمقراطية والعلمانية على الظروف الإجتماعية والثقافية والإقتصادية والتاريخية الخاصة بالدولة المعينة ، ولذلك تختلف دساتير الدول العلمانية من ناحية الصياغة من دولة لأخرى ، ولكن رغم ذلك فتطبيق قانون واحد يساوي الناس جميعاً مُشترك ، دول كثيرة تشير دساتيرها إلي الديانة الرسمية للدولة ، وربما تم تحديد أن يكون رأس الدولة من ديانة معينة ، وربما من مذهب معين في الديانة ، ولكن تبقى هذه الإشارات رمزية لا تأثير لها في الواقع ، وقد جاء ذكرها في الدساتير كواحدة من الرمزيات التي وضعت لإرضاء الكنيسة حين تم إبعاد الكنيسة ورجالها من السياسة وشئون الحكم ، ورأس الدولة أو الملك في الدول العلمانية التي تحكم بالديمقراطية البرلمانية منصبه تشريفي ، ولا يتدخل في السياسة وشئون الحكم ، وليعجب المرء ، مرة أخرى ، أن المسلمين يعيشون في هذه الدول ويشاهدون الممارسة الفعلية للعلمانية ، ويتمتعون بوقوف الدولة على مسافة واحدة من المعتقدات ، ثم يجادلون بأن الدولة ليست علمانية لأن الدستور يشير إلي ديانة الدولة الرسمية ، أو لأن الرئيس الأمريكي ترامب رفع الإنجيل يوماً ، وهذا يعني أن الدولة دينية ، هذه النتيجية التي توصل إليها البعض إما أنها غفلة ، أو أنها مغالطة ، فترامب في رفعه للإنجيل ليس إلاّ مثل جماعات الإسلام السياسي في رفعهم لشعارات الدين ، ولا يخفى على أحد أنه رفع الإنجيل لغرض إنتخابي في نفس يعقوب ، فمثلما لجماعات الإسلام السياسي مغيّبون يؤيدونهم ، فلترامب مغيّبون يؤيدونه ، ولا يستطيع ترامب ولا غيره أن يمس الدستور الذي يفصل بين الدين والدولة ولو رفع الإنجيل كل يوم عشر مرات ، كل اللغط الذي يدور هذه الأيام عن العلمانية وتعريفاتها ووصف الدول العلمانية بأنها ليست كذلك ، لأن دساتيرها تشير إلي دياناتها ، تزييف للوعي ، وتجهيل للناس ، وكلمة باطلة أريدَ بها باطل ، فالعبرة بالواقع الممارس ، الذي يتمتع به المسلمون المهاجرون بطوع إرادتهم إلي الدول العلمانية ، وهم في مهاجرهم تلك (يموتون في العلمانية) ولا يرضون لها بديلا. يبذلون كل غال ورخيص من أجل البقاء في مراتع العلمانية ، ويتسابقون إلي الحصول على جوازات دولها ، يفرحون بها مثلما يفرحون بمولود جديد ، لدرجة أنهم يحتفلون بها ، ويباركونها لبعضهم البعض ، وهم في غمرتهم تلك ، لا ينتبهون إلي أنهم إكتسبوا مواطنة كاملة لا يجدنوها في أي دولة إسلامية غير دولهم ، ولو وُلدوا في تلك الدول ، وينسون أنهم في إحتفالات إستلامهم لهذه الجوازات تقول لهم الدولة رسمياً أنها ساوتهم برئيسها ، فعليهم مثل واجبات الرئيس ولهم مثل حقوقه ، ومن أعجب ما قرأته مؤخراً ما كتبه أحدهم ، مهاجماً العلمانية وواصفاً إياها بأنها لا تفصل الدين عن الدولة فقط ، إنما تفصل الدين عن الحياة كلها ، تفصل الدين عن التربية والأخلاق والإقتصاد والمجتمع والسياسة ، وأنها تمنع ولاية الرجل على أسرته ، ثم توصل إلي نتيجة مذهلة فقال (أنت علماني إذن أنت ديوث) ، ولا أعرف إذا كان هذا الشخص موجوداً في دولة إسلامية أم أنه يحيى بإستنشاق نسيم العلمانية العليل في إحدى دولها ، ولكن إعتماداً على هذه (الفتوى) الباهرة فقد وجب على كل مسلم يعيش بأسرته في إحدى الدول العلمانية أن يرحل ، ويعود إلي حيث لا يكون ديوثاً ، أقول هذا وأنا أعلم أن أحداً لن يفعلها ، وليس ذلك هو الأمر الذي جعلني أعلق على هذه الفتوى العقيمة ، إنما الأمر هو أن الدول الإسلامية نفسها علمانية بشكل ما ، ولا توجد اليوم دولة خالية من العلمانية في حكمها ، فالسودان مثلاً علماني منذ الإستقلال ، فالعلمانية ، في نسخة منها ، هي أن تَرفع شعار ديني ، أو تشير في الدستور إلي ديانة معينة ، ثم تحكم حكماً دنيوياً ، وهذا الحكم الدنيوي هو ما سارت عليه الدول الإسلامية في تاريخها أجمع ، وهو ما ينطبق حتى على السعودية وإيران كدولتين تدّعيان زوراً الحكم الإسلامي ، وهو ما فعله الإخوان المسلمون في السودان ، وهذا الوضع هو ما يؤكد عدم إمكانية قيام دولة دينية بالمفهوم التقليدي الذي يسيطر على أذهان البعض ، فالحكم دائماً دنيوي وبالتالي علماني بشكل ما ، فتصوير العلمانية على أنها رجس من عمل الشيطان ، ونجاسة لم تتدنس بها الدول الإسلامية فتزييف واعي متعمدْ من البعض ، وغير واعي وغفلة من الأكثرية ، وهذه العلمانية العشوائية مضرة ، إذ هي المسئولة عن التدني الديني والدنيوي الذي تعيشه الشعوب الإسلامية ، ولا بد من أن يتركز الدعوة الآن إلي تصحيح مفهوم العلمانية ، وتخليصها من تآمر ذئاب الإسلام السياسي ، وتصفيتها من شوائب المفاهيم الدينية الخاطئة ، وتطبيقها تطبيقاً صحيحاً ، فالعلمانية نظرية ، وككل النظريات تتعرض في تطبقيها لتجاوزات تفسدها ، والعلمانية الصحيحة والمعافاة المناسبة لشعوبها ، يحتكم إليها الآن بعض الدول الإسلامية ذات الأغلبية المسلمة ، نواصل عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.