هل ثمة هناك من يستشعر الخوف والقلق وهو يشاهد ما يحدث أمام عينيه، ويقرأ ما يرشح من بين سطور الأخبار والصريحات، ويسمع ما تحت الهمهمات التي تخرج من صدور الناس في الشوارع؟. ربما تراكم غبار الإحباط. أو ربما الكسل الفكري، أم هو تشابك خيوط الأزمات ما حال دون قراءة ما تحت السطور والكلمات والهمهمات، ورؤية شرارات الخطر التي يكاد يعصف بالوطن، وهو كل ما نملك. ولا أدري ماذا نملك بعده إذا ما فقدناه تحت أرجل المتصارعين الأغبياء من أجل أرخص ما يمكن أن يكسبه المرء من أثمال طموحاته الشخصية؟. إذ يكاد ما قرأته من أخبار وتصريحات يوم واحد فقط يكفي لزلزلة الأرض تحت أقدام السودان والسودانيين من أقصى البلاد لأدناها. وأزعم أن استعراض كل ما ورد منها في يوم واحد (الثلاثاء 6 أكتوبر 2020) يكفي لملء مئات الصفحات. ولكني سأكتفي بأربعة أو خمسة أخبار وتصريحات منها في مختلف قنوات الإعلام والتوصل، تكفي وحدها لإثارة أعمق مشاعر الخوف والقلق، وتأخذ بتلابيب عقلك "غصباً" للتفكير والتساؤل بجدية – هذه المرة – حول المخارج من هذه "الورطة" (1). * هل فكرنا – على سبيل المثال – في نتائج اتفاقية السلام التي تم الاحتفال بها في جوبا وفي مآلاتها المستقبلية؟. - على صفحته في تويتر غرد منِّي اركو مناوي ما يلي: "اتفقنا مع الحكومة على إنشاء مفوضية مراجعة الجنسية السودانية وذلك لضبط التلاعب والتزوير الذي قامت به العديد من القبائل والشخصيات على مدى الثلاثين عام والتي على أثرها منحت الجنسية لقبائل لا يربطها بالسودان شيء. وقد حددت اللجنة كإجراء أولي مراجعة الجنسية لقبائل البني عامر والفلاتة والهوسا والبرنو والمغاربة والنقادة والجعافرة والرزيقات والمسيرية. وذلك لتلقي اللجنة معلومات مؤكدة عن تعمد تلك القبائل تجنيس ما لا يقل عن ثلاثة مليون شخص خاصة في شرق السودان ودارفور. وكل من يثبت تعاونه من عمد أو نظار أو أمراء من تلك القبائل في منح الجنسية سيتم تقديمه للقضاء وعليه سيصبح المقياس الجديد للجنسية هو التواجد لأفراد تلك القبائل قبل عام 1956 كمقياس لمنح الجنسية" (2). أرأيت؟!. هذا هو منتهى علم وفهم وذكاء ووعي نوع من القادة الذين احتفلنا بتوقيع اتفاق السلام معهم ليكونوا شركاء في مسيرة بناء السودان الجديد !. أرأيت نوع أفكارهم ومشاريعهم لخروج السودان من حالة اللادولة، المتورط فيها، إلى الدولة الحديثة؟!. هل استبان لك إلى أي محرقة يقود خطاب هذه القوى المسلحة، المُفخَّخ، والممعن في عنصريته المضادة، وهو – ونحن بغفلة معه – يرفع، جهلاً، أو كذباً وغشَّاً، لافتات السلام شكلاً ومضموناً؟!. وهل استبانت لك الثقوب الكارثية في هذا التصريح/ الاتفاق الذي يهدد ما تبقى من الدولة بالزوال؟. - إنه يدعو إلى مراجعة من نال الجنسية من قبائل وإثنيات – حددها وحده – في السنوات الثلاثين، في سنوات الإنقاذ، ثم "يمط" الزمن للوراء ويجعل مرجعيته استقلال السودان (1056). ولو اكتفى بالأولى لاتفقنا معه، لأننا نعلم ما فعلته الإنقاذ في سنواتها الكالحة من عبث في جغرافيتنا السكانية. - ولو تأملت القائمة المتهمة بالتزوير وانتحال الجنسية لوجدتها – مثل كل المجموعات الإثنية – تضرب بقدم راسخ في استيطان السودان. ولولا عنصرية متجذرة في نفسه لما زجَّ بمجموعات مثل المغاربة والنقادة والجعافرة في قائمة النفي والإقصاء وهم الذين لم يكن لهم صوت لا في الموالاة للنظام البائد ولا في معارضته كمجموعة إثنية متحدة، إلا من اتخذ قراراً فردياً يتسق وخياراته السياسية. - وإذا كان للواحد من ملاحظة على قائمة مناوي، فإنها لسبب ما استبعدت "الزغاوة"، الذين لم تخطيء العين رؤية بعضهم يشاركون في مذبحة فض الاعتصام، ومن لسانهم عرفهم الناس. رغم أنهم من القبائل المشتركة التي يتقاسمها الانتماء بين دولتين، بمعنى أن انتمائهم ليس خالصاً لأي دولة منهما!. والسؤال هنا: لماذا استثناهم واستبعدهم من لائحة النفي والإقصاء؟!. - والملاحظة الثانية على قائمة النفي والإقصاء تلك أنها خلت من ذكر قبيلة البرتي التي – وبدوافع التصفية العرقية – قامت قواته بشن هجوم على أربعة من قراهم في ولاية شمال دارفور في الثاني والثالث عشر من مارس 2014. "ويعتقد أهالي البرتي، وهم المجتمع المهيمن في القرى، أن مناوي استهدفهم لتصفية حسابات مع عثمان كبير، والي بيرتي للولاية"(3). والسؤال هنا: طالما لم يرد ذكرهم في قائمة المتجنسين زوراً فلماذا نكل بالمدنيين البسطاء منهم ودمر قراهم وشردهم؟!. ببساطة لأن مشروعه وهو يوقع اتفاقية السلام لم يكن مشروعاً وطنياً شاملاً، وإنما هو مشروع عرقي عنصري إقصائي إنتقامي. - وهذا يقودنا إلى التساؤل عن النتيجة المتوقعة لهذا الإقصاء الأحادي، وبالطريقة التي تم الاتفاق عليها بين الموقعين عليه، وما سيحدثه من خلخلة لكامل نسيج الدولة، وما إذا كان السودان يحتاج إلى مزيد من الخلخلة، أم أنه يحتاج على العكس إلى ما يشد نسيجه المهترئ بسبب السياسات الإقصائية التي مارستها كل الأنظمة منذ الاستقلال؟. - إن قرار مثل هذا يكشف عن جهل بأبسط حقائق تاريخ الكيان السوداني وتكوينه وتاريخية تشكيل مكوناته الإثنية والثقافية. وأن عبقرية "المكان" فيه تتجلى في توسطه قلب القارة، وأنه "سهل" كبير تحيطه من أطرافه مرتفعات. مما جعله أقرب إلى "رحم" القارة الذي تتواءم فيه دماء إثنيات وأعراق وثقافات شعوبها. ولتنوع مناخاته. ولوفرة سبل العيش الزراعي والرعوي تعايشت فيه منذ قديم الزمان الأجناس المهاجرة بلا صراعات وحروب على الأرض والمرعى، في سلام وطمأنينة. فالسودان ليس ملكاً أو "حكراً" لقبيلة أو إثنية أو ثقافة .. ولا يمكن أن يكون. ولن يكون. تقف على أبوابه الأربع "عصبية" ابن خلدون عاجزة عن أن تخلق دولة أو عمراناً، بسبب توازن القوى المادية والمعنوية بين مكوناته وشعوبه. وقد أثبت تطور الدولة السودانية منذ سلطنات وممالك عصره الوسيط – في دارفور وسنار وتقلي والمسبعات وممالك الشمال – مروراً بدولة المهدية، وانتهاء بما بعد الاستقلال، بصراعاتها التي انتهت اليوم مع محاولة مجانين الإسلام السياسي، فشل دولة العصبية الدينية والعرقية، بفصل ثلث الوطن. وبالتالي فإن أي محاولة أخرى في ذات الاتجاه ستنتهي إلى المزيد من تقطيع أوصال السودان، وستكون مجرد غباء مطبق. وكما يقول البرت آنشتين: لا يمكننا حل مشكلةٍ، باستخدام نفس العقلية التي أوجدت تلك المشكلة. ومن الحماقة، تكرار الشيء مرة تلو الأخرى وتوقع نتائج مختلفة. إذا كانت هذه هي الحقائق، وتلك هي نتائج الاتفاق مع الحكومة، الذي أعلن عنه مناوي في تغريدته، فما هي أسباب توافق الحكومة عليه مع الحركات المسلحة ؟. وما هي دلالاته. بالنسبة للحركات المسلحة فإن أسبابها وأهدافها تبدو واضحة ولا تحتاج لمزيد جهد أو ذكاء استثنائي للكشف عنها: السلطة، والسلطة المطلقة. تحت غطاء العدالة ورد المظالم على الإقصاء والظلم التاريخي والتهميش. ورغم وجاهة هذه الدعاوى، إلا أنها اتخذت حيلة وذريعة لترسيخ إقصاء وظلم وتهميش مضاد. وقد نجحت بالفعل هذه الحيلة. وواضح فيما أظن أن الحكومة بحكم ضعفها وفشلها في تحقيق ولو الحد الأدنى من أهداف الثورة ومطالب الثوار، لذا تعجلت الموافقة على مطالب الحركات المسلحة لإحراز أي انتصار. وقد عبَّرت قياداتها بأكثر من لسان وعلى رأسهم رئيس الوزراء نفسه، بأنهم على استعداد للمضي إلى أبعد مدى من أجل تحقيق السلام. ولم يعد بخافٍ على أحد اليوم بأن الحكومة ورئيس وزرائها لم يكن أمامهم من خيار للقبول بهذه الصفقة الخاسرة، سوى بالدخول في مواجهة مع المكون العسكري في الحكم الذي يضع العصا تحت عجلات الاقتصاد، ويطلق العنان لماكينة الانفلات الأمني، وهي مواجهة مجهولة النتائج بالنسبة لهم كتكنوقراط يفتقرون لروح المغامرة والصلابة التفاوضية. ورغم أن ملف السلام ومشكلاته من تهميش وتنمية غير متوازنة واستقرار، هو ملف سياسي بامتياز، لا يشكل الهاجس الأمني سوى جانب واحد من جوانبه، إلا أن العسكر احتكروا التفاوض بشأنه تحت ذريعة ساذجة بحجة أنهم كعسكريون أكثر تأهيلاً للتفاهم مع الحركات المسلحة، لأنهم يتحدثون لغة واحدة. وقد أدى هذا إلى تغليب الهاجس الأمني في التفاوض بينهما كعسكر على حساب العملية السياسية الشاملة والمتكاملة مع الجوانب الأخرى. من ناحية. وأبعد عن المشهد التفاوضي القوى الاجتماعية الأخرى صانعة الثورة، كما أبعدت جماهير المناطق المتضررة من طاولة التفاوض، وهي صاحبة المصلحة الأولى وتم تغييب صوتها. وتكفي قراءة سريعة لسطور ما تمخض عنه الاتفاق بين حاملي البنادق لمعرفة ما يحاك لمستقبل الحكم في السودان. هواش (1) والوَرْطَةُ في القواميس هي: الإست وهو مَجَاز. وكُلُّ غامِض وَرْطَةٌ... وَقَعَ فُلانٌ في وَرْطَةٍ وهي الهَلَكَة والهَلاَكُ وكُلُّ أَمْرٍ تَعْسُرُ النَّجاةُ مِنْهُ وَرْطَةٌ من هَلَكَةٍ أَوْ غَيْرِهَا... والوَرْطَةُ: الوَحَلُ والرَّدَغَة تَقَعُ فِيَها الغَنَمُ فَلاَ تَتَخَلَّصُ مِنْهَا. يُقَالُ: تَوَرَّطَتِ الغَنَمُ إِذا وَقَعَتْ في وَرْطَةٍ ثُمَّ صارَ مَثَلاً لِكُلِّ شِدَّةٍ وَقَعَ فِيها الإِنْسَان. وأَصْلُ الوَرْطَةِ: أَرْضٌ مُطْمَئنَّةٌ لا طرِيقَ فيها. الوَرْطَةُ: أُهْوِيَّةٌ مُتَصَوَّبَةٌ تَكُون في الجَبَلِ تَشُقُّ على مَنْ وَقَعَ فيها. والوَرْطَةُ: البِئْرُ، وأَوْرَطَه ُ: أَلْقَاهُ فِيها أَوْ فيما لا خَلاصَ مِنْهُ. (2) مني اركو مناوي @Twitter for Android. Mini Arko Minawi. . 28, sept,20. 07: 35 AM (3) عبد الله علي إبراهيم، حجبته الواشنطون بوست، نشر بتاريخ: 10 تشرين 1/أكتوير 2020. http://sudanile.com/index.php عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.