من طرائف الانتخابات (الحرة والنزيهة)، أن وجدت إبنة شقيقتي ذات الأربع سنوات التي كانت تمارس طفولتها باللعب بعيداً عن تجمع الكبار الملتفين حول التلفزيون، وما أن سمعت إعلان المفوضية القومية للانتخابات الدرامي عن الإقتراع الذي يتصدر بطولته المسرحي جمال حسن سعيد، حتى تركت ما تحت يديها ووقفت أمام التلفزيون وهي تردد في سهولة ويسر الحوار، إلى أن وجدتها تقفز في فرحة وهي تردد "إنتخابات حرة ونزيهة" وبفرحة اكثر "يا خلف الله عذبتنا"، مثلما عذبتنا المفوضية. ومن ما اتاحته لي الانتخابات فرصة ذهبية لزيارة العديد من المناطق في إطار الحملة الانتخابية لمرشح الرئاسة عبدالعزيز خالد. من بين تلك المناطق ولاية البحر الأحمر، ولأن مكانتها خاصة في نفسي، فقد كنت سعيداً بتلك الرحلة التي شملت القضارفوكسلا رغم كل المعاناة ورهق السفر، إذ قضيت فيها (جبيت، سنكات وبرورتسودان) جزءاً هاماً من حياتي، بل الأهم على الإطلاق ففيها بدأ يتشكل وعيي السياسي وبين مدارسها مارست أول نشاط سياسي عملي لم تتوقف مسيرته حتى الآن. حين وقفت ألقي كلمتي في الندوة التي نظمها التحالف الطلابي السوداني بجامعة البحر الأحمر، وبالرغم من التغيرات الكبيرة التي حدثت في المكان وفي الزمان إلا أن روح المدرسة الثانوية تقمصتني وعادت بي الذاكرة سريعاً إلى مدرسة بورتسودان الثانوية (الحكومية). هنا كنت أقف أيضاً في ذلك الوقت وفي ذات البقعة وبجوار مباني داخليات الطلاب التي ربما تحولت الآن إلى قاعات للمحاضرات الجامعية في عهد التشوهات الكبرى. واول تلك التشوهات الكبرى لمستها عندما علمت أن تلك المدرسة الثانوية العريقة تحولت إلى مجرد مدرسة محلية تخص المدينة بعد أن كانت تخص كل السودان، إذ كانت المدرسة (مثلها والمدارس الكبرى الأخرى في السودان، خور طقت، حنتوب، وادي سيدنا وغيرها) وبداخلياتها التي تسع مئات الطلاب من مختلف أقاليم السودان (الشمال، الجنوب، الغرب، الوسط وحتى الشرق نفسه)، وكانت بوضعها ذاك وطلابها في ذلك المستوى من العمر تتيح لهم الفرصة مبكراً في التعرف على السودان بمختلف ثقافاته وعاداته ودياناته وهم يمارسون نشاطهم الاجتماعي والثقافي والرياضي بين ردهاتها. هنا كنت أقف أيضاً فاضحاً نظام مايو وديكتاتورية نميري، هي المأساة حين يعيد التاريخ نفسه. حين انطلقت بنا العربة متجاوزة حدود ولاية كسلا ودخولها المجال الأرضي لولاية البحر الأحمر إنتبهت حواسي وزال تعب رحلة الأيام السابقة. كنت أمني نفسي بتغيرات باينة على طول الطريق إلى مدينة بورتسودان، لكني أصبت بخيبة أمل كبيرة تزداد كلما توغلت العربة في جسد الولاية. ليس هناك جديد، حتى الطريق القومي البري صار مهترئاً منذ آخر مرة إستخدمته فيها، وذات الأشخاص الذين التقيتهم قبل أكثر من عشرين عاماً هم ذاتهم، لم يتغير شيئاً فيهم، بذات ملابسهم واجسادهم الهزيلة التي لا تشي بشيء سوى الفقر والفقر المدقع، والأطفال يتوسلون جرعة ماء ويتسولون قطعة خبز على جانبي الطريق. أول (المدن) التي تستلقي على الطريق هي دورديب.. التحول الوحيد فيها تلك الكافتيريا التي تحول بنيانها من مواد محلية (رواكيب) إلى الطوب اللبن المطلي بدهانات تجمله وتجعله منعزلاً عن بيئته الأصلية. لا شيء جديد إذن منذ أكثر من عشرين عاماً سواى بعض الطلاء ومحطة وقود لا يوحي مظهرها بأنها تعمل منذ أن هجرت أسراب الشاحنات الطريق القومي بين كسلا وهيا إلى الطريق الآخر الممتد من هيا عبر مدينة عطبرة. الطريق المسفلت أصابه الجدري ولا يد تمتد إليه ولا مسئول ينظر إليه، مثل فقير ينتظر العلاج في إحدى المستشفيات العامة حيث لا شيء مجاني هناك. حتى الطريق تبدو عليه معالم الفقر والإهمال كإنسان الشرق تماماً في تلك المناطق، الإنسان المهمل الفقير البعيدة صورته عن أذهان المسئولين وبالتالي كاميرات التلفزيون والفضائيات، فيه تسير حيث يسير المسؤلوون، وهم على هذا الطريق لا يمرون. ما أن تتجاوز العربة تلك المسافة وتصل إلى مدينة هيا حتى تتغير الصورة على الأقل صورة الطريق القومي البري الذي يربطها ببورتسودان شرقاً وبعطبرة في الجنوب الغربي. يبدو الأسفلت زاهياً ولكن أين الإنسان؟ إستفهام كبير يطل من كل أركان الجبال المحيطة بالطريق يبحث عن إجابة لموقع الإنسان من هذا الأسفلت الزاهي، أم هو مجرد شريان ناقل للخيرات إلى آخرين دون أن يكون لأهل المنطقة نصيب من تلك الخيرات؟ علاقة الإنسان بالتنمية علاقة رياضية طردية، فالتنمية البشرية هي عصب حياة التنمية الاقتصادية، وهناك عدة عوامل تلعب دورا هاماً في مسيرة التنمية على رأسها البيئة المحيطة بالمنطقة المستهدفة وطبيعتها وثقافتها. هذا الأمر طرأ على ذهني وأنا أعبر محطة ظلط القريبة من مدينة سنكات حيث أنشأ السيد محمد طاهر إيلا إحدى قراه (النموذجية) فيها، تلك القرى المهجورة التي لا يسكنها سوى الغربان التي تفضح التفكير القسري الذي يحاول إجبار الإنسان على يذهب إلى مواقع يعتقد المسؤولون أنها الأنسب بينما الواقع يقول والحكمة تقول إن عليهم الذهاب إلى حيث إختار أن يعيش اإنسان أصلاً. فهو عندما اختار مناطقه تلك وعاش فيها لسنوات طويلة لم يكن إعتباطاً، كان عليهم بالذهاب بمشروعاتهم التنموية حيث الإنسان لا العكس. الداخل لمدينة سنكات مثلي (لأني عشت فيها سابقاً) يرى بوضوح تلك الشوارع المسفلتة وبعض المباني الحديثة الطراز وتضم مستشفى حديث، ولكن غير ذلك لا شيء، فالداخل إلى سوق المدينة يجدها تلك المدينة ذاتها التي عشت بين حواريها قبل أكثر من ثلاثة عقود، والإنسان لم يحدث له تغيير يذكر. ليبقى السؤال ذاته الذي أين الإنسان؟ في الطريق من سنكات وحتى الوصول إلى مدينة سواكن لا شيء جديد سوى طريق العقبة الجديد، وهي حسنة بالتأكيد أتصور أنها قللت كثيراً من حوادث تلك المنطقة عندما كان الطريق إتجاهين بتعرجاته ومنحنياته الخطرة التي كانت تعرض المركبات والشاحنات لخطر الحوادث في رحلة الذهاب والإياب. وتلاقيك عند مدخل مدينة سواكن ذات القرية (النموذجية) التي مررت بها في منطقة ظلط، وغير تلك الغربان التي تنعق فيها بدأ الملح ينخر في قاعدتها، ولا إنسان فيها. لكن ستصاب بالدهشة –عزيزي القارئ- وأنت تدخل مدينة بورتسودان إذا لم تكن من سكانها ولم تعش فيها يوماً، فما أن تتجاوز العربة تقاطع الشاحنات وتدخل المدينة حتى تدهشك تلك الطرق النظيفة والكورنيش ومناطق الترفيه على الساحل البحري، ولكن كما قال لي محدثي : إن الوالي محمد طاهر إيلا يستخدم كريم ديانا، فقلت له كيف ذلك؟ قال لي في سخرية إنه يحاول أن يخفي عورة التنمية وإهمال إنسان الشرق بمسح حاضرة الولاية بكريم ديانا مثل فتاة تحاول أن تغير لون وجهها وتصر على أن يكون أبيضاً بينما بقية جسدها لا علاقة له بلون وجهها. هكذا تبدو ولاية البحر الأحمر ما تزيل عن عاصمتها تلك المساحيق حتى تكتشف حقيقة إهمال الإنسان فيها في كل مناطقها، فما أن يعود الإنسان إلى منزله ويستلقي على فراشه حتى يكتشف تلك الخدعة الكبرى. Amir Saad [[email protected]]