وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الامارات .. الشينة منكورة    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    شركة توزيع الكهرباء تعتذر عن القطوعات وتناشد بالترشيد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات ثورة أكتوبر 1964 لكليف تومسون: عن شرارات الديمقراطية التي برقت وسمقت في فضاء البلاد التعيسة .. بقلم: الوليد محمد الأمين
نشر في سودانيل يوم 24 - 12 - 2020

يورد المؤلف لهذا الكتاب في مقدمته عبارة أو جملة آسرة وأخّاذة ، بل إنها محملة بطاقة لطيفة من الحس الإنساني الرفيع ، فهو يقول عن ثورة أكتوبر السودانية في العام 1964: " إنها قصة إنسانية جديرة بالتسجيل والترديد . قصة زاخرة غير متوقعة وبأعمال جريئة مقدامة " . ستكون هذه الملاحظة هي عين ما فعله السودانيون مرة أخرى في مارس من العام 1985 حين أسقطوا نظام الدكتاتور جعفر النميري البغيض ثم مرة أخرى في ديسمبر من العام 2018 حين أسقطوا نظام الدكتاتور الأكثر بغضاً ونظامه الأكثر توحشاً وبلا وجه مقارنة مع كل الأنظمة التي حكمت السودان ، عمر حسن البشير .
يقع الكتاب في نسخته العربية في 326 صفحة من القطع المتوسط ، وهي من إصدار دار المصورات في الخرطوم في هذا العام 2020 بترجمة محترفة ومهنية للدكتور بدر الدين حامد الهاشمي . قدم للكتاب البروفيسور عبدالله علي ابراهيم بمقدمة تصلح هي ذاتها مدخلاً لإعادة النظر والتبصر في رؤيتنا لثورة أكتوبر السودانية .
يوفر الكتاب توثيقاً للثورة ونظرة إليها من جهة قلّ أن يتناولها الناس ، النظرة للثورة من حكايات الناس العاديين ، وبالناس العاديين هنا أعني الكتابة من وجهة نظر لا حزبية ولا منحازة . من الصعب على وجه العموم الكتابة دون انحياز ، فالكتابة في حد ذاتها موقف من العالم وانحياز ، كان انحياز كليف هنا لطرف الحقيقة ومحاولة التجرد في نقل الأحداث . وبالنظر إلى أنه قد كُتب الكثير عن ثورة أكتوبر بأقلام السودانيين فالراجح أن ما يمنح كتابة كليف فرادتها أنها كتبت بعين الغريب المعاصر للأحداث . يمنحها الفرادة كذلك ذلك التصوير والوصف الدقيق للأحداث والأشخاص ، فتجده مثلا يصف عبد المجيد إمام بالقول بأن جلده الأسود كان مشدوداً على عظام خديه البارزة ، ثم تجده يصف وصول موكب القرشي للدفن في قريته القراصة وزمن الرحلة وحرارة الطقس ومنزل القرشي وسجادة عنقريب الجثمان وغير ذلك من الوصف الدقيق إنما غير الممل للتفاصيل الصغيرة الذي تجده مبثوثا عبر صفحات الكتاب .
كان كليف وقتها محاضراً حدثاً للقانون بجامعة الخرطوم وكان وقتها في عامه الرابع بالسودان . اندلعت الثورة في النهاية ، ولكنها أول الأمر بدأت في الاشتعال رويدا رويدا ، فقد سئم الناس دكتاتورية الفريق عبود وحكمه العسكري الذي كان ( من النوع الذي لا يقبل أن يشارك المدني حتى عربة الأجرة ) على ما ذكر المؤلف ، ومن الغريب أن هذا الصلف العسكري بلا سند أو في الحقيقة بلا مقابل ما يزال متّبعاً من المؤسسة العسكرية السودانية حتى يومنا هذا . بلا سند لأن ذلك لا تقوم به الجيوش المحترمة ولأنه كذلك لا يشابه طبيعة السودانيين ، وبلا مقابل لأن أطراف البلاد ما تزال محتلة فليس لهذا الجيش ما يقايضنا به من حفظ الحدود وتوفير الأمان وغير ذلك من أوهام جيوش الدكتاتوريات .
انطلقت ثورة أكتوبر من نشاط الطلاب ومن داخلياتهم ، ودارت أولى معارك الثورة في حرم جامعة الخرطوم وفيها ارتقى شهيد الوطن القرشى إلى السماء شهيداً ، ثم بعدها هبت الخرطوم في جنح الدجى في طريق الجامعة كما غنى عبد الكريم الكابلي بعد ذلك ، والكتاب يخبرنا أن عبد الكريم الكابلي كان قد ذهب رفقة شوقي ملاسي إلى دار الإذاعة باسم جبهة الهيئات في محاولة لإقناع العاملين بها لإيقاف العمل والإضراب ، وهو ما قد كان آخر الأمر فتوقف الإرسال .
ثمة ملاحظة جديرة بالاهتمام أشار إليها الكاتب ، وهي أن الضباط في الجيش صعقوا بعد مجزرة القصر عندما رأوا تعلق الشعب بالديمقراطية وأن الأفراد العاديين لا يهابون الموت . ربما جاز لي هنا القول أن المسألة لم تكن تتعلق بالديمقراطية في حد ذاتها ، فالديمقراطية ليست سوى وسيلة ، ما ظل ينشده السودانيون هو قيم الحرية والعدالة ومكتسبات التنمية ، فنحن على طول تاريخنا الوطني لم نحظ بالمستبد العادل أو الدكتاتوري الوطني رغم التحفظ على هذين المصطلحين . ومن المؤسف أن هؤلاء الضباط الذين قال عنهم كليف بأنهم صعقوا ، استعادوا هذه الدهشة مرة أخرى بعد ما يزيد على الخمسين عاماً بعد مجزرة معتصمي القيادة في الخرطوم ، بل كان الوقع هذه المرة أكثر بشاعة وأشد مضاضة : المئات العزل قتلوا بالسلاح وبرميهم أحياء أو أمواتا بعد ذلك في النهر . من المؤسف أكثر أنهم قتلوا غدرة ً في بواكير الصباح عند بوابات قيادة الجيش الذي أحسنوا به الظن وتغنى له المغنون فيما غنوا : الحارس مالنا ودمنا ! إنه لمن المثير والباعث على التأمل كيف يظن القاتل في نفسه الشجاعة وهو يقتل بالسلاح العُزّل إلا من مبادئهم وإيمانهم !
تم تقسيم الكتاب إلى عدة فصول أو أبواب تصدرتها كلمة المؤلف ثم كلمة المترجم ، ثم تلى ذلك تمهيد للكتاب كتبه البروفيسور عبدالله علي ابراهيم الذي كان له فضل كبير في حث المترجم ومتابعته لترجمة الكتاب وقبل ذلك في التواصل مع الكاتب في موطنه الأمريكي .
يبدأ الكتاب بعد ذلك بالمقدمة ، ثم تتالى القصول : نهار وليل الأربعاء: 21 أكتوبر ، الخميس 22 أكتوبر: منتصف الليل إلى الفجر ، الخميس 22 أكتوبر: من الفجر إلى منتصف النهار، الخميس 21 أكتوبر: ما بعد حظر التجوال ، الجمعة 23 أكتوبر ، السبت 24 أكتوبر: من الصباح إلى منتصف النهار ، السبت 24 أكتوبر: منتصف النهار إلى الليل ، الأحد 25 أكتوبر: الصباح إلى الليل المتأخر ، خارج الخرطوم وأمدرمان : الخميس 22 أكتوبر إلى ليل الأحد 25 أكتوبر، الأثنين 26 أكتوبر: من الصباح إلى الظهيرة ، الاثنين 26 أكتوبر: العصر إلى الليل المتأخر، الاثنين 26 أكتوبر: الجبهة العسكرية : الليل المتأخر ، الثلاثاء 27 أكتوبر: من الصباح إلى منتصف النهار ، الأربعاء 28 أكتوبر: من الصباح إلى الليل ، الأربعاء 28 أكتوبر: الليل المتأخر ، الخميس 29 أكتوبر: الصباح إلى الليل المتأخر، الخميس 29 أكتوبر: الليل المتأخر، الخميس 29 أكتوبر : خارج العاصمة ، الجمعة 30 أكتوبر (1) ، الجمعة 30 أكتوبر (2) ، السبت 31 أكتوبر ثم أخيراً : المقابلات .
يذكر المؤلف في المقدمة كيف أن القصة في فصولها الأخيرة بدأت في مساء الأحد العاشر من أكتوبر1964 عندما أقامت اللجنة التنفيذية لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم ندوة عامة عن مشكلة الجنوب في تحد سافر لأوامر الحكومة . كان السيد نائب عميد كلية القانون وقتها الدكتور حسن الترابي قد فجّر قنبلة ثقافية كما وصفها المؤلف في التاسع من سبتمبر وقت أن خاطب اجتماعاً حاشداً في قاعة الامتحانات بقوله إن المشكلة الأساس هي وجود النظام العسكري . بعدها وكما يذكر المولف أيضاً خاطر السيد بشير محمد سعيد رئيس تحرير صحيفة الأيام بنشر كامل حديث الترابي في صباح اليوم التالي في الصفحة الأولى . ربما كان من المثير التأمل في كيف انتهى الأمر بالترابي إلى راعٍ ومنظِّر لانقلاب عسكري بعد خمسة وعشرون عاماً من ذلك التاريخ ، انقلاب عسكري مدعوم بأيديولوجيا اقصائية انتهت باقصائه هو ذاته !
سوف يرد ذكر الترابي مرات عديدة في الكتاب ، كما سترد في الكتاب أسماء أخرى كان لها دور بارز في مسار الأحداث في السودان في الفترة التي أعقبت ثورة أكتوبر بل وما يزال ارتداد تأثيراتها مستمراً حتى تاريخ صدور الكتاب في العام 2020. من تلك الأسماء الصادق المهدي ، اسماعيل الأزهري ، فاروق أبو عيسى ، عبد المجيد إمام ، محمد صالح عمر ، أحمد سليمان المحامي ، حسن الترابي ، بابكر عوض الله وغيرهم وغيرهم . ومن الطلاب كانت هناك أسماء مثل أنور الهادي ، بابكر الحاج ، عز الدين الفاتح بركات ، ومن الطالبات وصال المهدي ، سهام مصطفى صالح و دينا شيخ الدين عثمان ، وهذه الأسماء المذكورة هنا على سبيل المثال لا الحصر ، مما يوفر مادة جيدة لمزيد من الكتابة عن الثورة لمن أراد لذلك سبيلا .
كذلك يرد ذكر السيدة سعاد ابراهيم أحمد التي سقطت مغشياً عليها من شدة الحر وهي تهتف بينما كان من المفترض أن تكون مشغولة بتجهيز عرسها ذلك اليوم كما ذكر المؤلف . كانت هناك أيضاً فاطمة أحمد ابراهيم التي عندما اعترضها رجل الشرطة ملوحا ببندقيته تجاهها فتحت طبقات ثوبها في تحد وخاطبت العسكري : اضرب يا جبان ! فاطمة ظلت بعد ذلك وفية لمبادئها ولاعتزازها بالشعب ، وحتى بعدما قام الجنرال النميري باعدام زوجها الشفيع أحمد الشيخ في العام 1971 فقد واصلت فاطمة طريق الالتزام بجانب الجماهير . بعدها بسنوات طويلة ودرب طويل من النضال أسقط شعب السودان الطاغية الثاني في تاريخه جعفر نميري وكانت فاطمة من الوجوه النسائية البارزة . اختيرت فاطمة في العام 1991 رئيسة للإتحاد النسائي الديمقراطي العالمي وفي العام 1993 حصلت على جائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان . في العام 1996 منحتها جامعة كاليفورنيا الدكتوراة الفخرية لجهودها في قضايا النساء واستغلال الاطفال . توفيت فاطمة في العام 2017 في لندن ولكن سيرتها لا تزال ملهمة للعديدات من نساء السودان بل وربما العالم .
أما سعاد ابراهيم أحمد فقد توفيت في العام 2013 ، وسعاد ظلت على طول خط حياتها وفية لمبادئها وحريصة على حقوق السودانيين خاصة النساء منهن . اعتقلت سعاد لسنتين ونصف في زمن النميري بعد محاولة انقلاب 19 يوليو 1971 ، واضطرت لمغادرة السودان عام 1990 بعد انقلاب الإنقاذ وواصلت نضالها في المهجر بتنظيم الندوات والتظاهرات وغير ذلك ، ولكنها عادت للبلاد في العام 2005 بعيد توقيع اتفاقية السلام .
كانت الثورة وقتها في وجدان السودانيين وكان تصورهم لما ينبغي أن تكون عليه البلاد وتوقهم للحرية باعثهم الأكبر لمناهضة حكم الرئيس عبود . كان الوقت وقت الستينات ، وقت حركات التحرر الوطنية وحركة عدم الانحياز، ولم يكن صراع الهويات قد أطل بوجهه كما هو الحال بعدها ، غير أن السودانيين كانوا قد دخلوا في صراع الهوية باكراً ، باندفاع غير محمود وبإيمان بقضايا الآخرين الخاسرة منها والمرجو ربحها تحت شعارات التحرر وحق الشعوب . كانت حلفا وقتها قد تم إغراقها لصالح مشروع الرئيس جمال عبد الناصر المصري في السد العالي دون مقابل ورغم ذلك فقد كانت رؤى غالب السياسيين السودانيين هي هي ، ففي أثناء صياغة البيان المشترك بين المجلس العسكري والمدنيين أصرّ بابكر عوض الله على تضمين جملة : لصياغة قوانين تتماشى مع الأعراف والتقاليد العربية ! المثير للدهشة أن من عبّر عن رفضه لإدخال كلمة " عربية " كان الدكتور حسن الترابي ! لقد كان الترابي براغماتيا بامتياز على كل حال ، وربما وجب هنا أقلّه على سبيل الإنصاف القول وسياسيا ذا نظر بعيد .
لم يكن الجنرال ابراهيم عبود دكتاتوراً رحيماً كما تحاول بعض الكتابات المتأخرة تصويره في حنين كاذب لعهد الرخاء السوداني النسبي الناتج عن قرب صلة البلاد بخروج الانجليز . ولم تكن الشرطة السودانية مهنية بما يكفي كما تحاول بعض الكتابات الآن تصويرها متباكية على ما آل إليه حال بوليس السودان بعد تطاول عهود الحكم الوطني لا سيما سنوات حكم الاسلاميين فيما عرف بعهد ثورة الإنقاذ الوطني . لقد مارست الشرطة السودانية في أكتوبر ضد الطلاب ومن ثم ضد المواطنين بعض القمع الذي تمارسه اليوم ضد الطلاب العزل ، إنما بتشف أكبر الآن وبلا مهنية لا تقارن ، ربما كان الفرق هنا أن البلاد وقتها كانت قريبة عهد بالانجليز وبمفاهيم المحاسبة والمسؤولية ولكن المحاسبة لم تتحقق على أي حال ، ما أدى إلى ما نحن فيه الآن من استرخاص العساكر للدم السوداني .
أطلقت الشرطة الرصاص بلا مبرر كاف فاخترقت الطلقة رأس واحد من الطلاب قرب حاجبه الأيمن وخرجت من مؤخرة جمجمته ، كان ينزف من مؤخرة جمجمته وسال خيط من الدم من بين شفتيه ، نبض قلبه لم يكن قد توقف بعد ، ولكن ذلك كان إيذانا بتوقف نبضات قلب أيام الدكتاتور ودخولها في العد التنازلي بارتقاء الطالب اليساري من أيام دراسته الثانوية كما يصفه المؤلف ، أحمد القرشي ، شهيداً أولاً لثورة الطلاب العزل .
لم يكن القرشي شهيد الثورة الأوحد وإن كان أشهرهم ، ففي الأيام التالية أصابت إحدى الطلقات أحد التجار وهو يهم باغلاق متجره فقتل من فوره ، وبانتصاف نهار الجمعة 23 أكتوبر يذكر المؤلف أن هنالك ست ضحايا كان قد تم دفنهم في مقبرة بين الثورة وأمدرمان . وفي مساء ذات الجمعة كان قد قتل مواطن آخر في الفاشر بغرب البلاد . كذلك قتل مواطنون آخرون في الخرطوم لعدم التزامهم بحظر التجوال الذي كان قد أعلن . كما قتل مواطنون آخرون في أماكن مختلفة من البلاد لأسباب مختلفة هي الأخرى ، فقد قتل أحد المارة في شارع الصاغة وأصيبت امرأة خرجت للبحث عن طفلتها من قبل جنود كانوا يقومون بحراسة محطة شل للوقود في أمدرمان ، وتم إطلاق النار على طفل قرب حديقة الخرطوم 3 ، غير أن المقتلة الأكبر والأكثر بشاعة وقتها كانت ما عرف بمجزرة القصر ، حيث تم اطلاق النار بكثافة على عدد محدود لا يتجاوز المائتين من المتظاهرين العزل عند بوابات القصر الجمهوري فحصدت آلة القتل النظامية ما لا يقل عن الثلاثين سودانياً أعزلاً في أفضل التقديرات المتحفظة بذخيرة من نوع دم dum المحرمة دولياً أو من النوع الرخيص المستخدم في التدريب .
يعيد التاريخ نفسه ولكنه يفعل ذلك في بعض الأحيان بأثمان غالية ، ففي فجر وصبيحة الثالث من يونيو من العام 2019 أطلقت قوات سودانية النار على المواطنين العزل المعتصمين عند بوابات القيادة العامة للجيش السوداني فحصدت آلة القتل السودانية ما لا يقل عن المئات في أفضل التقديرات هذا عدا حالات الاغتصاب والإخفاء القسري .
عمّدت الجماهير القرشي شهيداً أشهر لثورة أكتوبر ، وفي ميدان عبد المنعم بالخرطوم حيث أقيمت الصلاة على القرشي قاطعت الجماهير المتحدث الذي أشار عبر مكبر الصوت للقرشي بالفقيد بهتافها لأكثر من مرة " الشهيد الشهيد " مستنكرة وصفه بالفقيد . ووصفُ تفاصيل موكب التشييع وسيل الجماهير الهادرة مما لن يتمكن من تجاوزه القاريء بسهولة دون أن يستعيد هيبة تلك الأيام والساعات بوصف كليف السينمائي لها .
الكتاب غير سرده للأحداث يشرح كيف كان لأساتذة الجامعة دور فاعل وكبير في التخطيط وقيادة الثورة بعد ذلك بالتوافق مع قطاعات المهنيين الأخرى من القضاة والمحامين والعمال وغيرهم ، ثم تكون جبهة الهيئات التي قادت الثورة آخر الأمر حتي نهايتها . يشير الكتاب كذلك إلى المشاركة اللافتة للنساء فيما سماه بالحدث السياسي العظيم . في الحقيقة سيتضح بعد سنوات عديدة أن أكتوبر كانت بذرة الثورة التي لن تموت ، بل و سيتم بعثها بأساليب جديدة في كل مرة .
يتضح من تسلسل الأحداث وتفاصيلها كذلك كيف لعبت الكاريزما لأشخاص محددين دورها الفاعل والهام في مسيرة الثورة وربما في نجاحها ، فالمقولة الحاسمة من عبد المجيد إمام للضابط الذي كان يهم بأمر جنوده باطلاق النار على العزل : " أنا آمرك ورجالك بالانسحاب وسأتحمل المسؤولية ...وكقاضي محكمة عليا في الخرطوم فلدي المسؤولية النهائية عنك وعن رجالك . اذهب في حفظ الله " ، كان لها وقع السحر والمهابة ، كان حرياً بهذه الكلمات أن تتناقلها ألسنة الناس إلى يومنا هذا ، وكان حرِياً بعبد المجيد ومستحَقاً له تصفيق الناس الحاضرين وهتافهم بعدها : عاش عاش عبد المجيد إمام ، ويذكر المؤلف أن تلك الكلمات لعبد المجيد سرت بين الناس وتناقلوها بل وعدوها من المعجزات . في الحقيقة وبالنسبة لما آل إليه حال السودان والمهنية فيه فلا يسعنا اعتبار ذلك التصرف وتلك الكلمات إلا من قبيل المعجزات ! ربما كان ينبغي هنا كذلك الإشارة إلي اسم الضابط الذي نفذ الأوامر وانسحب برجاله ، قرشي فارس . لقد كان السودان وقتها ما يزال يتمتع بالخدمة المدنية المنضبطة والمهنية التي أرسى قواعدها الانجليز الذين كان قد مضى على خروجهم من البلاد نحو السنوات التسعة . توفي عبد المجيد إمام في العام 1999 ولكن منصبه لم يتولاه رجل بمهنيته بعد ذلك وافتقد الناس مهنيته وشجاعته في ابريل من العام 1985 ثم في ديسمبر من العام 2018 وما بعده .
في معسكر النظام الحاكم كان الحال مرتبكاً بعض الشيء ولكن مستشاري الفريق عبود بعد نحو ساعة من النقاش قرروا التزام جانب الصرامة والتشدد ، ومن الغريب ولعله من المحزن أن الأستاذ أحمد خير المحامي وكان وقتها وزيراً للخارجية كان قد اقترح أن يتم اعتقال القاضي بابكر عوض الله وعبد المجيد امام وإعدامهما ، أقول من المحزن لأن الأستاذ أحمد خير المحامي هو أحد رعيل مؤتمر الخريجين الذين نادوا وناضلوا لخروج الانجليز من السودان . يرِدُ في الكتاب كذلك أن بعض العسكر في صف الفريق عبود كانت لهم نواياهم في استغلال الوضع بإزاحة عبود واستلام الحكم ولكن الشعب فوّت عليهم تك الفرصة . جرب السودانيون في أكتوبر سلاح الإضراب واختبروه بنجاح ، نجاح لم يكن سهلا وكان وراءه جهد كبير وعظيم ولكنه استحق ذلك . ومن الأكيد أن ذلك الجيل من الناس لم يدُر بخلدهم وقتها أنهم يضعون في عقول السودانيين ووجدانهم بذرة المقاومة السلمية بالاضراب كسلاح فعال وناجع أثبت جدواه بعدها مرتين على الأقل في تاريخ شعب السودان .
مرت على ثورة أكتوبر الآن ست وخمسون عاماً وقت طباعة الكتاب في هذا العام 2020 . توفى السيد الصادق المهدي في نوفمبر منه وهو الذي تولى رئاسة الوزراء في السودان لمرتين ، كانت الأخيرة منهما في 1986 بعد انتفاضة الشعب في مارس أبريل من العام 1985 . أظهر الصادق جسارة ضد الحكومة وأمَّ الناس في صلاة الجنازة على الشهيد القرشي وبعدها طفق يعبيء الأنصار لمواجهة ضد الجيش ولكنه بالمقابل كان حريصا على أن لا تنجر البلاد للفوضى أو للحرب الأهلية ، ويورد الكتاب أنه رفض عرض مجموعة من الضباط بالقيام بانقلاب لصالحه في أكتوبر 1964 . ستكون تلك الموازنات ديدن الصادق في بقية حياته على كل حال . يرى كليف أن الصادق كان رجلا مغرما بالتدبر في المفاهيم الكبيرة ذات النتائج الضخمة .
أما الرئيس الأسبق للبلاد ، والسابق وقتها أيام ثورة أكتوبر ورافع علم استقلال البلاد ، اسماعيل الأزهري رئيس الحزب الوطني الاتحادي وقتها فقد توفي في العام 1969 في أيام حكم الدكتاتور التالي للبلاد جعفر نميري ، وكان الأزهري قد اعتقل عند قيام انقلاب مايو 1969 م بسجن كوبر وعند اشتداد مرضه نُقل إلى المستشفى إلى أن توفي بها . وعند وفاته أذاعت الإذاعة السودانية خبر وفاته : " اليوم توفي إسماعيل الأزهري، وكان الفقيد معلما بالمدارس الثانوية " . كتب كليف أن اسماعيل الأزهري تأثر جداً بما سمع من أنباء مقتل الطالب ومضى يردد عبارة " وين ممكن ندي الفاتحة ؟ " . ذلك على كل حال متسق مع بساطة الأزهري ونزاهته وهو الذي تحفظ له أدبيات السودانيين الكثير من القصص المشابهة .
حسن الترابي قصة صعوده معروفة وكذلك ما انتهى إليه أو الصحيح ما انتهى هو به للسودان . غير أن بذل الترابي في الثورة ودوره فيها مما لا يمكن تجاوزه . وعن الترابي يرى كليف إنه وعلى الرغم من أنه ، أي الترابي ، أخ مسلم ، فإنه لم يكن محباً للقطعيات ، بل كان منفتح العقل وكان رجل منطق ، إن رفض لك رأيا فإنه يتبع ذلك بتعليل وتفسير .
عبد المجيد امام توفي يوم الأربعاء 20 أكتوبر من العام 1999 ، في مصادفة عجيبة مع ذكرى الثورة التي كان له فيها موقف مشهود . وكان الرئيس نميري قد أحاله للتقاعد في العام 1969 ثم عاد فتم تعيينه النائب العام في العام 1975 لعام واحد . وبعد انتفاضة الشعب في مارس أبريل رأس عبد المجيد وأسس رفقة آخرين جبهة القوى الديمقراطية التي ضمت حزبه حزب المؤتمر الوطني وتنظيمات أخرى .
فاروق أبو عيسى توفي في أبريل من العام 2020 ، وكان أبو عيسى قد شارك في حكومة مايو1969 وتولى فيها عدة مناصب منها وزارة الخارجية. ظل طريدا من نظام الرئيس عمر البشير حتى العام 2005 عند توقيع اتفاق السلام . أبوعيسى لمع نجمه أكثر وارتبط بالثورة فيما عرف بليلة المتاريس ، وتلك ملحمة أخرى من ملاحم ثورة أكتوبر كان مسرحها في نوفمبر من العام ذاته . في إطار منفصل ذكر السيد ابراهيم منعم منصور في مذكراته أن فاروق أبو عيسى كان أحد بل أهم المتسببين في فشل المصالحة الأولى التي كان مأمولاً لها أن تنتظم بين انقلابيي مايو والأنصار بقيادة الصادق المهدي مما أضاع على البلاد فرصة ثمينة لا لشيء إلا المشاكسات الحزبية .
محمد صالح عمر أصبح وزيراً للثروة الحيوانية ممثلاً لجبهة الميثاق الإسلامي في وزارة سر الختم الخليفة في الحكومة التي خلفت حكومة الفريق إبراهيم عبود . هؤلاء السودانيون شعب عجيب ، آمنوا بقضايا الشعوب العربية والشعوب المسلمة والشعوب المستضعفة ولكن العرب على وجه التحديد لم يبادلوهم هذا الوداد ، لقد استقال محمد صالح لاحقاً من وظيفته كمحاضر بجامعة الخرطوم والتحق بالمقاومة الفلسطينية الجناح العسكري لحركة فتح ، بعدها رجع الي السودان في عام 1969 بعد وصول جعفر نميري إلى السلطة ثم انضم إلى الجبهة الوطنية و قتل في مارس 1970م أثناء المعركة بين الأنصار وجيش الحكومة بمدينة ربك علي النيل الأبيض . كان محمد صالح من المخلصين لفكر الاخوان المسلمين ، وقد ورد في وثائق أمريكية عن السودان القول بأنه يعتبر من أكثر السودانيين تعليما، ومن الاخوان المسلمين المعتدلين ، وأنه جاء الى السفارة ( الأمريكية في جدة بالسعودية ) ليتكلم عن الحكومة "اليسارية" التي يقودها جعفر نميري وعن تاثيراتها على الوضع السياسي في السودان وأن الشيوعيين يسيطرون على الحكومة .
أما أحمد سليمان المحامي فقد توفي في العام 2009 . وقد كان أحد وزراء حكومة أكتوبر وزيراً للزراعة وممثلاً الحزب الشيوعي فيها ، بل وممثل الحزب الوحيد ، ولكنه بعد ذلك وبعد سقوط النميري في العام 1985 انضم للاخوان المسلمين في السودان كعضو في الجبهة الإسلامية القومية ، وبعد انقلاب الاسلاميين في السودان في 1989 تبوأ منصب مندوب السودان في الأمم المتحدة . تلك سيرة عجيبة من التقلبات ، وعلى كل فقد كان أحمد سليمان انقلابياً بامتياز ، فقد انضم لانقلابيي مايو 1969م وأصبح بعد نجاح الانقلاب سفيرا للسودان بالاتحاد السوفيتي ، ثم وزيراً للاقتصاد الوطني والتخطيط في ما بعد حيث قام بتأميم البنوك والشركات الاجنبية بجانب بعض الاستثمارات السودانية .
بابكر عوض الله توفي في العام 2019 بجمهورية ايرلندا . كان بابكر عوض الله كما اتضح من اصراره على ادخال العروبة سياسيا قوميا عربيا . أصبح رئيساً لمجلس الوزراء في الفترة ما بين مايو وأكتوبر 1969 . كان عوض الله من أصول مصرية ومن الداعين للاتحاد مع مصر بل أنه بذل مساع كبيرة في ذلك ، وهو الذي قال ذات مرة إن كان الولاء لمصر سبة فأنا العميل المصري الأول بالسودان !
على كل حال كانت ثورة السودانيين تمضي قدما في طريقها إنما بتؤدة ، لعب فيها بعض الناس دوراً مشهوداً بحكم مناصبهم ثم باختيارهم جانب الشعب ، إنما كان لكل فرد شارك في الثورة وقتها دوره المحفوظ ، كان ذلك في الستينات وقت لم تتوفر للناس وسائل الاتصال الحديثة ووقت كانت وسائل الاعلام كلها تخضع لسلطة الدولة .
استمرت المفاوضات بين جبهة الهيئات والعسكر واحتشدت تلك الأيام بالتفاصيل التي أحسن المؤلف بذكرها . وفي خضم ذلك كان ثمة فعل ثوري عجيب يتخلّق في شرق البلاد . ففي صباح الخميس 29 أكتوبر قرر مواطنوا كسلا ركوب قطارين متجهين للخرطوم بعد سماعهم لأحداث الخرطوم وأمدرمان ، ورغم أن الجبهة الوطنية التي تضم عدداً محدوداً من الأفراد لا يتعدى الخمسة وقامت بتنظيم أمر القطارين ، رغم أنها رفضت عرض جبهة التحرير الإرترية بتقديم الأسلحة لركاب القطارين ، رغم ذلك ، فإن الركاب كانوا على قناعة بأنهم سيدخلون في صراع مع قوات الخرطوم فحملوا العصي والهراوات والمدى والسيوف وأسياخ الحديد . باكراً امتلأ القطاران بآلاف الركاب واحتشدت المحطة بالمودعين وعلت زغاريد النساء ونحيب بعضهن حزناً على الذين هم ذاهبون إلى الموت وربما لن يعودوا مرة أخرى . وفي رحلته الطويلة كان ينضم لكل قطار المزيد من أهل السودان المساكين الحالمين بديمقراطية تعيد لهم قيم العدل الذي لم ينعموا به حتى أنهم في ديسمبر من العام 2018 خرجوا للشوارع مرة أخرى يشقون عنان السماء ملء حناجرهم : حرية سلام وعدالة ، الثورة خيار الشعب !
الزغاريد التي ألهبت حماس الجماهير في محطة القطارات بكسلا كانت قد فعلت ذلك قبلاً في معركة الطلاب الأولى مساء 21 أكتوبر بعد ندوتهم المشهودة وهجوم العساكر ، فالصبيات من طالبات الجامعة أطلقن زغاريدهن التي كان لها أثر لا يخفى في إثارة الحماس . مرة أخرى سيتم اختبار ذلك إنما بصورة أكبر وبجسارة لا تضاهى في ديسمبر من العام 2018 وما تلاه من أشهُر ثورة ديسمبر المجيدة حيث كان القمع أكثر قسوة بما لا يقارن .
في العام 2019 و في أبريل منه وبعد سقوط الطاغية الثالث في تاريخ السودانيين ما بعد الاستقلال ، عمر حسن البشير ، شهدت الجماهير المعتصمة عند بوابات القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة بالخرطوم ذات المشهد مرة أخرى ووثقته الكاميرات ووسائل التصوير هذه المرة فشاهده الناس في كل السودان بل والعالم : الآلاف من الناس قدموا من عطبرة في شمال البلاد عبر السكة الحديد مستقلين القطار الذي عرف بعدها بقطر عطبرة . وعلى كل حال فقد كانت عطبرة من أوائل المدن التي شهدت انطلاقة ثورة ديسمبر 2018 ومثلت حدثاً فاصلا في تاريخ الثورة .
يعرض الكتاب في تسلسل واضح لسير المفاوضات بين العسكر والمدنيين وللخلافات التي انتظمت المعسكرين وإن كانت الخلافات أكثر وضوحاً في جانب المدنيين ، وكيف أن هناك رأياً كان قد تكون لدى بعض المهنيين بضرورة إقصاء الأحزاب ولكن ذلك لم يكن ممكناً آخر الأمر . يذكر الكتاب كذلك الكثير من التفاصيل المهمة للاجتماعات التي انتظمت في أماكن مختلفة تبعاً لتطورات الأحداث ، من القاعة 102 بجامعة الخرطوم إلى دار الأساتذة بالجامعة ثم بقبة المهدي بأمدرمان وأماكن أخرى يرد ذكرها في الكتاب.
الكتاب مرجع مهم لكل من أراد الكتابة عن ثورة أكتوبر ، وهو كذلك مصدر مهم لكل من أراد التبصر فيها . كذلك ، هو مرجع مهم للقرّاء العاديين الذين يودون معرفة الثورة من باب القص والحكاية غير المملة ، فهذا كتاب كتب بمهنية رجل القانون ولكن بحس أدبي لا يخفى ، ميّزته وضبطته الصرامة القانونية لرجل تبوأ بعد ذلك عمادة كلية القانون في جامعات أميركا .
لا يخلو الكتاب من التعابير أو الأوصاف الشاعرية أو قل الأدبية ، من ذلك تشبيهه للجماهير التي وصفها بالموج الهادر من البشر وهي تفسح الطريق لأساتذة الجامعة لقيادة موكب تشييع القرشي بمعجزة سيدنا موسى عندما انشق له البحر ، ثم الريح التي هبت لتحرك العلم وتجعله يرفرف عاليا في ميدان عبد المنعم بينما كان الصمت يخيم على المكان .
لا يخلو الكتاب كذلك من ذكر بعض طباع السودانيين ومآثرهم ، فركاب قطاري كسلا كانوا قد استهلكوا مؤونتهم حتى قبل وصولهم للخرطوم فتكفل تجار الخرطوم بتزويدهم بها دون مقابل وكذلك كان يفعل أهل القرى التي مر بها القطار ، وغير ذلك من الحكايات . غير أن بعض سائقي التاكسي كان لهم رأي مغاير فزادوا من قيمة المشاوير يوم مقتلة القصر لثلاثة أضعافها .
الكتاب هو ثمرة جهد أكاديمي كبير لأكاديمي مرموق كان في بداية حياته العملية بالسودان حين اندلعت الثورة . يذكر البروفيسور عبدالله علي ابراهيم في كلمته كيف أنه وجد كليف عند لقائه به في العام 2001 مفتونا بعبد المجيد امام الذي قاد إضراب القضاة وأمر الضابط المسؤول بفض كردون البوليس بلغة القاضي العدل الثائر . بدأ كليف كتابة المخطوطة في العام 1975 وكان ما يزال يعمل عليها في العام 2001 عند لقاء عبدالله علي ابراهيم به . في العام 2007 يذكر المترجم بدر الدين الهاشمي أنه قام بنشرها منجمة في صحيفة الأحداث السودانية ثم مجمعة بعد ذلك في " كتاب في جريدة " في ذات الصحيفة في العام 2009 . لم أجد ذكراً للنسخة الانجليزية من الكتاب بالبحث في شبكة الانترنت ، ولم يتسن لي التحقق من كون الكتاب قد صدر باللغة الانجليزية أم أن مؤلفه لم يفعل ذلك بعد ، وكنت قد راسلته على بريده الالكتروني وقت بدأت كتابة هذه المراجعة للكتاب قبل نحو الأسبوعين ولكني لم أحظ برد منه ( استعملت البريد الالكتروني لحضرته المثبت على صفحته بموقع جامعة وسكونسن بالولايات المتحدة الأمريكية ) .
أود في ختام هذه الكتابة أن أشير إلى مسألة عنّت لي ربما لملامستها بعض اهتماماتي الأكاديمية ، فقد كتب البروفيسور عبد الله في تمهيده للكتاب عن كيف أنه يبدو أن الذي بين كليف وثورة أكتوبر مما لا يستنفده مداد كلمات . بدا لي ذلك شغفاً بالمعرفة وبقيم العدالة مما ينبغي لأكاديميينا في المجال التعرف إليه والأخذ منه . ذلك أن كليف قام وربما لا يزال يقوم بتدريس مقرر عن ثورة أكتوبر بقاعات جامعة وسكونسن لطلاب الدراسات العليا في القانون ، والمقرر الرئيس للكورس هي مسودة كتابه عن ثورة أكتوبر ، وعن سير الدراسة فإن الفصل يجتمع لساعتين أسبوعياً ( ذكر كليف أنه قد يمددها لثلاث ساعات ) ويوفر كليف لكل طالب نسخة من المخطوطة ويقرر للقراءة فصلا كل أسبوع ثم يطلب من كل طالب أن يعيد الفصل نهاية الأسبوع وعلى هامشه تعليقاته . بعدها سيحللون ما وقع من أحداث ويحدسون ما سيقع من حوادث في الفصل القادم . أما عن امتحان هذا الكورس فيقول كليف إنه سيكون مما يؤذن فيه للطالب باصطحاب المخطوطة إلى غرفة الاختبار والرجوع إليها في الإجابة ! ثم سيقرر إن كان سيطلب من طلابه كتابة مشروع بحثي عن ذلك !
فتأمل يا هداك الله عناية أولئك الناس بالأكاديميا من حيث هي ، وتدبر في كيف يهتم الأستاذ منهم بتجويد صنعته . أقول ذلك وفي البال حال مقرراتنا في الدراسات العليا التي لا تخرج في غالب أحوالها عن تكرار مقررات البكلاريوس ( الضعيفة هي ذاتها في غالب الأحوال) ببعض التوسع الطفيف إنما دون إبداع ودون تطوير وشحذ لملكة التفكير لدى طالب العلم ، بل ودون حتى لاختبار لقدراته في البحث والتحليل .
أختم أخيراً بكلمة للمؤلف الذي قال عن السودان أنه وبالرغم من أن جيفري روبرتس قد وصفه في كتابه المعنون تاريخ بنجوين للقرن العشرين بأنه " تلك البلاد التعيسة " ، فإنهم صنعوا ثورة أكتوبر التي " كانت انتفاضة شعبية لمدنيين عزل أرادوا إزاحة الدكتاتورية العسكرية وغدت تلك الثورة مصدر فخار لمن انضم لركبها وبقيت للكثيرين في السودان منارة مضيئة ، ولأي فرد من الناس يؤمن في طماح الجماهير وسعيها من أجل نيل حق تقرير مصيرها " .
1- وثائق امريكية عن نميري (15): الأخوان المسلمون ، محمد صالح علي ، سودانايل ، www.sudanile.com ، نشر بتاريخ: 04 شباط/فبراير 2009
2- مذكرات ابراهيم منعم منصور ، الجزء الثالث ، من إصدار مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي ، 2018 ، الفرص الضائعة ، ص 160 .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.