كلمة (بلو) في النوبية المحسية تعني، دهليز، ردهة، ممر في المنزل، بهو، صالة. وفي اللغة المصرية القديمة (الفرعونية) فان كلمة بو تعني أيضا منزل أو مكان، ويمكن بالنظر للكلمة المصرية الاستنتاج ان أصل الكلمة المحسية هو بو-لو. والكلمة موجودة لدى سكان مملكة الفونج، جاء في الطبقات وهو يتحدث عن كرامات الشيخ الزين بن الشيخ صغيرون، ان الشيخ قدوره ود عثمان قتل مراسيل الملك وخاف منه، وطلب من الشيخ الزين وحسن ود حسونة الذهاب معه للملك لطلب العفو، ولكنهم لم يفعلوا، وفوجئ عند دخوله في حوش الملك بانه (شاف الفقيه الزين شايل عكازه يمشي في وجهه وشاف اسداً بارك عند البلو)، وان الملك أراد ان يتحدث معه بغلظة ولكن خرجت من فمه كلمات العفو. وفي ترجمته للشيخ حسن ود حسونة قال ود ضيف الله: (ان حوش بلواته قطاطي على عدد بلوات حوش ملك سنار، كل بلو مختص بناس، ودكة الديوان قدام الحوش) (محمد النور بن ضيف الله، ص 139). والبلو كما فسرها يوسف فضل؛ وجمعها بلوات؛ هي حجرة الضيوف، (وتسمى خلوة الضيفان، وتشيد امام غرف السكن او في فسحة او في فناء الدار تبنى خصيصا لاستقبال الضيوف وإقامتهم). ويتحدث برتشارد عن قبيلة سيلوك في دار فونج، والتي تقع في إقليم الانقسنا عند الحدود السودانية الاثيوبية، وعموم المنطقة يدعى دار بورون، يقول أنه قد زار هذه الأماكن عام 1926م، ((وللزعيم كوخ كبير معد للاحتفالات يسمى البلو وفيه تقام بعض الطقوس الخاصة، وهذا الكوخ يجدد سقفه كل عام، وتجدد ارضيته كلما دعت الحاجة لذلك، وهو الآن قد تهدم وهناك شكوكاً في إعادة بناء كوخ جديد، والاحتفال الوحيد الذي جرى فيه وشهدته هو أن الشبان غير المتزوجين ذهبوا للكوخ في الفصل الممطر وأقاموا هناك لمدة سبعة أيام وقد أخُبرت بأن بعض الطقوس تُجرى هناك، حيث يجلس جمع الشبان في منتصف الكوخ حول النار ويقومون بإذكائها بأيديهم دون أن يتكلموا، والبلو (ويبدو ان بلو تشير للشباب المتجمعين هناك) لهم أيضا كوخ للفصل الجاف بالقرب من بركة كبيرة في أسفل التل، وهم ينامون عند رف صخري أعلى الحوض، وعندما تصبح المياه شحيحة ويأتي العرب لسقاية جمالهم فهم يقومون بطردهم)( ). في هذا النص يوضح بريتشارد أن كلمة بلو أصبحت تشير للشباب المجتمعين عند الكوخ الكبير، وأن لهم مهمة عسكرية إلى حد ما هي طرد الغرباء الذين يزاحمونهم في مصادر المياه. وفي مملكة الفونج كانت الثكنات التي يأوى إليها الجنود عبارة عن أكواخ كبيرة من القش أو رواكيب ممتدة، ويصف بروس واحداً من هذه الثكنات: (وقريبا من السور كانت هناك مظلات (رواكيب) يستلقي تحتها الجنود وجيادهم مربوطة بجانبهم، رؤوسها متجهة نحو المظلات، واعلافها امامها على الأرض، وفوق مرقد كل فرد من الجنود كانت تعلق حربة ودرقة صغيرة بيضاوية وسيف كبير عريض، وكانت مراقدهم مسقوفة ومفتوحة الجنبات) ( ). ويبدو نص بريتشارد كمفسر جيد للعلاقة بين البلو وبين من يستخدمه، وقد سُمِىَّ الشبان الذين كانوا يستخدمونه بلو، وإذا كان من يستخدمه جنوداً كما في مملكة الفونج فهم أيضا (بلو)، وأصبح للكلمة بالتالي معنيين: معناها النوبي الأصلي الذي جرى ذكره أي منزل وما شابه ذلك، والمعنى المجازي المكتسب من طبيعة الاستخدام العسكري وهو في هذه الحالة (الجنود). وبعبارة أخرى هم (جنود السقيفة) أو جنود الثكنات. ومن وجود ظاهرة تخصيص المهام في علوة التي أشرنا إليها يمكن النظر لجنود الثكنات باعتبارهم الجنود النظاميين الذين لا عمل لهم سوى الجندية. فهم وخيلهم وسلاحهم تحت هذه السقائف أو هذه المظلات وفي حال استعداد دائم. لتفسير ظهور البلو كقوة ضاربة في المنطقة الشرقية في عهد مملكة علوة ومملكة الفونج يجب النظر إلى نقطتين جوهريتين هما: النظام الاقطاعي لمملكة علوة ونظام تخصيص المهام. 1-النظام الاقطاعي لمملكة علوة كان النظام في مملكة علوة (نظاما اقطاعياً مركزياً كنظام القنانة الذي كان فيه المزارع مملوكاً لصاحب الأرض، إذ كانت كل الأراضي ومن يعملون بها ملكاً لملوك النوبة وبالتالي فان علاقة الإنتاج كانت عبودية) ( )، وقد أورد ابن سليم الاسواني عن علوة ما يؤكد هذا المعنى من أن ملكهم (يسترق من شاء من رعيته) كما جرت الإشارة إليه سابقاً 2-نظام تخصيص المهام اضافة لنظام تخصيص العمل الزراعي، كان هناك مجال آخر جرى فيه التخصيص هو المجال الدفاعي، إذ وُضعت الاستراتيجية الدفاعية لمملكة علوة على أساس ان الخطر يأتي بدرجة كبيرة من الشرق (الحبشة) وبدرجة أقل من الشمال (مصر)، واثبتت حملة عيزانا والتي حدثت في العام 350 م تقريباً صحة هذه النظرة، أو ربما كان تبني هذه الاستراتيجية الدفاعية ضد الشرق واحدة من النتائج والدروس المستفادة من تلك الحملة، وقد انطلقت الحملة من أكسوم في الحبشة وسارت بمحاذاة نهر عطبرة ووصلت حتى ملتقاه بنهر النيل وقامت بتدمير العديد من القرى النوبية في المناطق الحدودية وقتلت ونهبت من كان في طريقها، ولمجابهة هذه الحقيقة أي ان الخطر الشرقي هو الماثل على الدوام؛ فقد عُهد لإقطاعي المناطق الشرقية بتكوين فرق عسكرية من الخيالة النظاميين (البلو)، وليس لهؤلاء البلو من مهام أخرى سوى العمل العسكري وحماية الجبهة الشرقية التي يأتي منها العدو، وبمعنى آخر يمكن النظر لهم باعتبارهم قوات حرس الحدود، وكانت خير وسيلة للتحرك السريع بين المناطق الحدودية هي الخيل. ويشير سليقمان الى منطقة انتشار البلو، ويقول انهم موجودون في (سهول القلابات والى الشمال بين نهر عطبرة وسيتيت ومارب، وشرق هذه المنطقة في سراوح، ومرة أخرى في الشمال الشرقي في ضواحي مصوع وأخيرا في سواكن في الشمال) ( )، وواضح ان هذه المناطق تقع في سلسلة حدودية طويلة مما يعزز الافتراض ان البلو كانوا كتائب عسكرية مهمتها حماية حدود مملكة علوة الشرقية. كان الاقطاع في سوبا مبنياً على أسس رأسية وأسس أفقية، فالرأسية هي على المستوى الاجتماعي حيث توجد طبقتين، الطبقة العليا والطبقة الدنيا، والأفقية على المستوى المهني أي التخصيص، فهناك جنود نظاميون ومزارعون للحبوب وآخرون للأعلاف والفاكهة وهناك مربون للماشية، وفي الأفقية تجد الرأسية حسب التخصص، حيث تجد في المجال الزراعي السيد الإقطاعي ومزارعوه، وفي المجال العسكري تجد السيد الإقطاعي وجنوده، وفي مجال الماشية تجد السيد الإقطاعي ورعاته. ويساند هذا التصور؛ أي أن (البلو) كانوا جنوداً نظاميين تحت أمرة حاكم اقطاعي ومهمتهم هي حراسة الحدود الشرقية لمملكة سوبا، الحقائق التالية: 1-الوجود القديم لكلمة (بلو) وتحديداً بعد حملة عيزانا. 2-ان المصادر التاريخية تشير دائما للبلو باعتبارهم مجموعات من الفرسان لها وجود في شرق السودان، مكونة من عدة قبائل ينتمون لنفس الإقليم أدرجوا جميعا تحت مسمى واحد بحكم المهنة. نبدأ بالوجود القديم لكلمة بلو، حيث يقول الياس نقلا عن سيريغو هابل سلاسي: ((أقدم إشارة-عثرت عليها -إلى هذه القبيلة جاءت في القرن السادس الميلادي أي قبل نحو ألف سنة من اشتهار اسمها في المنطقة. جاءت تلك الاشارة في آثار الملك الاكسومي كالب Caleb، فقد ورد أن الملك كالب قاد في القرن السادس الميلادي حملة ضد (Belew Kelew) بيلو كيلو، الذين كانوا يعيشون حول امبامترا (في ارتيريا الآن) وكان لهم جنودهم ونظمهم، ولم يكونوا قد اعتنقوا المسيحية، وحطم الملك مدينتهم مترا Matara)) ( ). ويمكن ملاحظة ان هذا التاريخ يتماشى مع تاريخ دخول المسيحية لمملكة سوبا والتي دخلت في العام 580م، وفترة حكم كالب من 520 إلى 550م تقريباً. ويتحدث الياس عن ورود إشارة موجزة إلى البلو في نقش في مدينة فيلة جنوبأسوان جاء فيه ("أغارت بلو Belleu عام 373 م على منطقة النوبة السفلى "والنوبة السفلى هي المنطقة الواقعة بين أسوان وحلفا" ويبدو أنه لم ترد معلومات عن البلو في النقش، فقد وضعت سامية التي أوردت النص علامة استفهام أمام كلمة البلو). ويمكن القول بان (البلو) المذكورين في هذا النص ربما كانوا نواة الفكرة، وواضح ان تاريخ الهجوم كان بعد حملة عيزانا بأكثر من عشرين سنة، ثم انتقل العمل بعد ذلك للجبهة الشرقية وضمت أفراداً من قبائل تلك المنطقة. البلو مجموعة من الفرسان من عدة قبائل: تنوع الخلفية العرقية للبلو يمكن استخلاصها من كرافورد وهو يشير إلى كونهم فرسان؛ حيث ذكر ان (استعمال كلمة بلو أطلق أولا على تلك القبائل الحدودية التي اشتهر افرادها كفرسان، وما زالت القبائل التي ورثت البلو في منطقة القاش وما جاورها مثل بني عامر والكميلاب وبعض فروع الهدندوة تشتهر باقتناء الخيل وإجادة القتال على ظهورها). ويقول المعتصم أن هؤلاء البلو مذكورون في (تراث البجة وفي روايات متشابهة رصدت عند الحباب والحماسين وكذلك عند الهدندوة والكميلاب والأمرأر وبني عامر وحتى عند المرغماب في شمال البطانة) ( ) وأنهم (جماعات من العناصر المحلية في منطقة البجة ذات قرابة وصفات متشابهة استطاعت الاتحاد وفرض سيطرتها على منطقة واسعة من ارض البجة الجنوبية وامتد نفوذهم بما في ذلك ميناء سواكن ومنطقة شمال ارتيريا وحوض بركة والقاش وامتد نفوذهم حتى نهر عطبرة، وقد اشتهر البلو في المصادر بأنهم محاربون ممتازون). ويقول أحد الجيسوت وقد عاش سنوات عديدة في بلاد الحبشة والانديز: (ان جزيرة سواكن يقطنها حوالي مائة من الاتراك، وهي مقر الباشا إلا انها خارج حدود الإمبراطورية (العثمانية)، والحقوق الطبيعية فيها تعود لملك قوى محارب تسمى مملكته (البلو)( )، ويؤكد الأب (لوبو) فيما كتبه في القرن الثامن عشر أن (مملكة البلو الإسلامية نشأت في القرن السادس عشر قبالة سواكن، وأن البلو بعد صراع طويل مع الأتراك اضطروا في نهايتها لتقاسم دخل الجزيرة معهم)، ويصف لوبو البلو " بانهم شجعان ومحاربون اشداء ولهم شهرة كبيرة كفرسان)، ويصفهم بييز بأن لهم معرفة جيدة بالخيل وان خيلهم احسن من خيل التقراي)( )، اما روزيني فيفيد أن البلو في القرن السادس عشر كانوا يدفعون ضريبة لمملكة الفونج، ومن إفادة روزيني وما ذكره لوبو يبدو ان البلو قد تمددوا واصبحوا قريباً من سواكن تحت النفوذ الأسمى لملك الفونج. البلو والنظام الطبقي لعلوة أشرنا آنفا للنظام الطبقي الرأسي والأفقي في مملكة علوة، ويمكن القول إن البلو خير نموذج يمثل هذا الطرح، فقد استمروا في العمل بهذا النظام الإقطاعي حتى بعد زوال مملكة علوة، ويقول روزيني ان البلو كان لديهم نفوذ اسمي على كل قبائل البجة، وانهم انقسموا لقسمين شمالي وقيادته في سواكنوجنوبي في ميزاغا، وميزاغا- لدى بعض المؤرخين - قد تكون بين نهر ستيت ونهر عطبرة ومارب، ثم فقدوا بعد فترة قوتهم، وتفكك القسم الشمالي وخضع لسيطرة النابتاب، ورغم خضوعهم للنابتاب إلا أن النابتاب ورثوا منهم النظام الإقطاعي، وان هذا حدث بصورة لا مجال للشك فيها في القرن السابع عشر حسب أقوال روزيني، (ومن الإشارات التي أمكن جمعها عن نظم الحكم التي ورثها النابتاب في البني عامر والأسر الحاكمة عند الحباب نصل إلى أن هذا النظام كان يقتضي وجود فئتين تمثلان طبقتي الحكام والرعايا، ويتم فرض التمايز الاجتماعي بينهما من خلال قواعد سلوك واعراف تحدد حقوق الاحترام لطبقة السادة؛ عبر طقوس الاختلاف في الزي؛ وفي المكانة الاجتماعية والقانونية، والحق في الحركة؛ وحمل السلاح؛ واقتناء الخيل والإبل، بينما تحدد هذه الأعراف واجبات طبقة الرعايا وانماط سلوكهم نحو طبقة الحكام)( ). وهاتان القبيلتان أي بني عامر والحباب من القبائل التي كان افرادها يشكلون عساكر البلو مع غيرهم من بقية أبناء القبائل الشرقية. كذلك كانت قبيلة الحلنقة من ضمن القبائل الشرقية التي كانت تشكل كتائب البلو، ففي حوالي العام 1317م؛ ارسل السلطان المملوكي حملة لتأمين طريق سواكنعيذاب نتيجة لاضطرابات داخلية في مملكة علوة، جاء هذا حين ارسل ملك الأبواب للمماليك رسالة تفيد ان (بلاد الانج تغلب عليها ملك غير ملكها)؛ وانه بصدد إعادة الملك السابق لملكه، والقصد من الحملة إعادة تثبيت النفوذ المملوكي على سواكن، ثم اتجهت الحملة لمنطقة القاش، حيث واجهتهم مقاومة عنيفة وصفها النويري بان (طائفة من السودان تسمى هلنكة قد اجتمعوا لقتال العسكر)، وقد تمكنوا من صد هذه الحملة، ويستطرد المعتصم ويقول (ان اسم الحلنقة يختفي في القرن الرابع عشر ويحل محله اسم (البلو) في نفس المنطقة)(). وفي عام 1853م؛ ورغم تفكك البلو واضمحلال نفوذهم إلا ان مانسفيلد باركنز أشار لوجود بعض البلو في منطقة ايلات قرب مصوع وقال عنهم: (يغلب عليهم الطبع العسكري بالفطرة، إن أردنا وصفهم، ويمكن تمييزهم بسهولة عن رفاقهم المسالمين من رعاة الماشية بواسطة زيهم، واهتمامهم بحلاقة شعر رؤوسهم بصفة مستمرة، واحتفاظهم بطبيعة الرعاة الخالصة، فهم يأكلون في الصباح قليلا من الخبز واللبن ونفس الوجبة البسيطة يكررونها مساءً يصحبها الرضاء والشهية المفتوحة) ( ). هذا النص يعزز الاعتقاد ان البلو كانوا كتائب عسكرية مكونة من عدة قبائل من قبائل الشرق. ولا عمل لهم سوى العمل العسكري. وان هذا الطبع العسكري (بالفطرة) لا بد انهم ورثوه عبر قرون طويلة منذ اول ظهور لكلمة بلو عام 377 ميلادية بعد حملة عيزانا. ويمكن إجراء مقارنة بين عمل هؤلاء المحترفين من الجنود النظاميين (البلو)؛ وعمل الجيش غير النظامي في امر مواجهة حملة المماليك العسكرية السابق ذكرها، يقول المعتصم: ( ومما يلفت النظر ان الحملة المملوكية التي وصلت حتى منطقة القاش في عام 1317م؛ واجهتها قوات الهلنكة بشراسة وأجبرتها على مغادرة المنطقة، ولكن عندما اخذت نفس هذه الحملة طريق الأبواب وكانت في حالة مزرية (أي الحملة نفسها)، فان ملك الأبواب خاف ولم يأت للعسكر، ونهب العسكر ما وجدوه بتلك الجهة من الذرة وتوجهوا لمنطقة دنقلة، وملك الأبواب يصل به الضعف بحيث لا يستطيع الدفاع عن منطقته في وجه حملة وصلت اليه منهكة، وفي المقابل نرى روح التصدي التي قابل بها الهلنكة في منطقة القاش نفس الحملة)( ). مما يعني أن هؤلاء الهلنكة كانوا كتيبة من البلو المحترفين، لذا فالقول (ان اسم الحلنقة يختفي في القرن الرابع عشر ويحل محله اسم (البلو) في نفس المنطقة)، يشير إلى أن الكثير من ابناء الحلنقة أصبحوا عساكر في كتائب البلو. تميزت طبقة البلو عن الآخرين (وقد استفادت مجموعة البلو بطبقتها الارستقراطية ونظامها الاقطاعي من سيطرتها على سواكن وكذلك من السيطرة على مناطق القاش وبركة واعالي نهر عطبرة والتي تمثل مصدرا هاما لسلع التصدير) ( ). وصارت الكلمة في التراث البجاوي تعني السيد او الحاكم، وقسمت السكان الى حصص وبدنات تكون تابعة لسيد من الاسرة الحاكمة يكون له حق التصرف في هؤلاء الرعايا، أو حتى تقديمهم كهدايا في مناسبات الزواج، كما قاموا بتجريد القبائل من أسلحتها والحد من حركتها، كذلك قاموا باحتكار بعض السلع، كما أصبح لهم نصيباً في جمارك سواكن ( ). ورثت مملكة الفونج بعضاً من مظاهر هذا النظام الطبقي لعلوة وإن كانت حدته بدأت تخف بانتشار المفاهيم الإسلامية، (وقد دُعِّمَت التفرقة الاجتماعية في سنار بين النبيل والفرد من الرعايا بقواعد سلوك تحدد وجوب اظهار الاحترام لطبقة النبلاء. وفي نهاية القرن السابع عشر كان الرحالة والمسافرون يتلقون تحذيرا قبل ان يبلغوا سنار بان السلطان وحده يلبس طاقية (غطاء رأس) وان من يلبس القميص لابد ان يكون حاكما كبيرا، وبعد سنوات قليلة أكد زوار كثيرون انه لم يكن ثمة شخص يلبس أي شيء على راسه الا إذا كان من الطبقة العليا من النبلاء او السلطان، ولا ترى الملابس المخيطة إلا على أجساد الأشخاص ذوي الأهمية) ( ). يؤدى هذا النوع من التمايز الطبقي والتعسف في تطبيقه، إلى ظهور بعض الجماعات المتمردة على النظام ولجوؤها للقوة للتحرر منه أو على الأقل التخفيف من قيوده، أو الاستفادة من لحظات ضعفه، فتظهر الثورات والمجموعات المسلحة ومحاولات الانقلاب على الحكم ومحاولات انفصال الأقاليم، وغيرها من الاضطرابات، حيث أن التقسيم الطبقي الحاد (سواء بموجب قوانين رسمية، ام نتيجة للممارسة الفعلية للطبقات الموجودة في المجتمع، أو كان سببه تصور يؤدي إلى نظرة استعلائية إزاء إحدى الفئات أو الطبقات ستكون محصلة هذه الاثار المترتبة على التقسيم الطبقي وجود طبقة متضررة تعبر عن معارضتها للأوضاع القائمة بأكثر من وسيلة)( ). ففي عهد سوبا رصد المؤرخون العرب ظهور كيانات تدعي لنفسها الاستقلالية، وتشير مراسلات المماليك مع الممالك السودانية في منتصف الفرن الرابع عشر لهذا: (وفي العشرين من ذي العقدة في هذه السنة جهز علم الدين سنجر رسولا الى ملك النوبة أدر وملك الأبواب والى صاحب بارا والى صاحب التاكا والى صاحب كدروا والى صاحب بفال والى صاحب الانج والى صاحب كرسة) ( ). وكل هذه المناطق عدا منطقة ملك النوبة -والمقصود بالنوبة هنا مملكتي نوباتيا والمقرة بعد اتحادهما-هي مناطق تابعة لعلوة، وواضح من النص وجود تفرقة بين ملك وصاحب، وأن مخاطبة المسؤول عن مملكة الأبواب باعتباره ملكاً يؤكد أن مملكة الأبواب قد انفصلت تماما عن علوة، وأن حاكمها أصبح يشار إليه في المراسلات مع الدول الأخرى بلقب (ملك)، بينما يبدو وضع بقية المناطق غير مؤكد، فربما كانت لا تزال ذات تبعية ولو اسمية لملك علوة؛ لهذا اشار المماليك لحكامها بلقب (صاحب). وبالعودة لمراسلات علم الدين سنجر مع الممالك والأقاليم المذكورة لا يظهر أسم البلو ضمن القائمة لا باسم ملك ولا صاحب، بل يظهر اسم صاحب التاكا، وهي منطقة من مناطق وجود إقطاعيي البلو وعساكرهم، وهذا يدل على ان صاحب التاكا قد أصبح له وجود شبه مستقلٍ، ربما اعتمادا على قوته بوجود فرق البلو لديه وهم قوة ضاربة، لكن بعد فترة يبدو أن إقطاعيي البلو أنفسهم أصبحوا غير معترفين لا بنفوذ صاحب التاكا عليهم. ولا حتى بنفوذ مملكة الفونج، وقد شملت مملكة الفونج إقليم التاكا، واتبرا، وخشم البحر، وقري، وكردفال، واليس، والقربين، وبيلة، وكان البلو يؤدون لها التزاماتهم السنوية في السابق. وفي فترة لاحقة نجد أن الزعيم الإقطاعي للبلو قد أتخذ لنفسه صفة الملك حسبما أشار إليه كروفوت: (ان بداية ملك النابتاب جاءت عندما تزوج على بيلاس من ابنة ملك البلو ولكن هذا الرجل قتل صباح يوم زواجه نتيجة لخطأ تافه في قواعد الاتيكيت ارتكبه في بلاط هذا الملك)، ويورد كاتب الشونة قصة أخرى يشير فيها (لملك البلو) عامر؛ ويطلق عليه لقب مك، حسب التسمية الفونجية للحكام، وجاء هذا الوصف في معرض الحديث عن شجاعة بادي ود رجب المتصرف في ملك سنار من الهمج: (واما شجاعته فقد حكوا انه قاتل ثماني عشرة مقتلة ما رئي منهزما ووقائعه مشهورة بالغرب، وقيل: انه في بعض قتالاته أرسل له عامر مك البلي، وقال له انت فارس وانا فارس ولكن ليس عندي سيف مثل سيفك، فلما قامت الصفوف اتخذ سيفا غير سيفه وارسل سيفه اليه (أي ارسله لعامر) وقال وحياة رجب ما تركت افضل منه، فلما التقيا اعانه الله عليه فقتله وجاء بسيفه) ( ). ولا ندري مدى صحة الواقعة لكن في إطارها العام تشير إلى أن منازلة قادة البلو؛ باعتبارهم عساكر محترفين؛ أمر يعتبر شرفاً حتى للملوك. ويمكن القول أن فكرة التقسيم الطبقي الأفقي وتخصيص جنود محاربين يقيمون بصفة دائمة داخل معسكراتهم لحماية الحدود الشرقية باستخدام أداة تنقل سريعة هي الخيل، وتمتع قادتهم بمزايا النظام الطبقي الرأسي كانت ناجحة للغاية، فلم تُظهر المصادر التاريخية أي غزوات قادمة من الحدود الشرقية منذ غزوة عيزانا في العام 350 م وحتى هجوم اياسو على مملكة الفونج عام 1644م، وشح المصادر التاريخية لا يمنع تخيل وقوع نزاعات حدودية ومعارك واختراقات متبادلة تحدث هنا وهناك، لكن المحصلة الأخيرة والدليل القاطع على نجاعة هذا الحل؛ هو أن الحدود الشرقية ظلت في مأمن لحوالي الف ومائة وخمسين سنة، تمتعت فيه مملكة علوة بهذه الحماية، وجاءت نهايتها على يد عوامل داخلية وليست خارجية، ثم استمرت الحدود آمنة مائة واربعون سنة أخرى في ظل مملكة الفونج، ويمكن ملاحظة ان هجوم الملك اياسو جاء بعد ان انغمس البلو في الغنائم التجارية والسيطرة على سواكن وطرق التجارة واحتكارهم لبعض السلع، ويبدو ان هذا الانغماس في التجارة أدى لإهمالهم واجباتهم العسكرية. وقد وصُف ملك البلو بانه كان ثريا ويملك الكثير من الذهب والفضة وله تجارة واسعة في الثياب، كما ان سلاطين سنار استعاضوا عن البلو بعد أن فقدوا السيطرة عليهم بفرق الأرقاء والتي كانت تشكل العمود الفقري لجيش السلطنة، ونتيجة لغياب البلو فقد تمكن جيش اياسو من اختراق مساحة واسعة من أراضي مملكة الفونج واقترب من سنار كثيراً، الأمر الذي لم يكن يحدث من قبل، ولولا وجود الأمير الفوراوي خميس جنقل المنشق عن مملكة الفور واللاجئ لسنار لتغير مسار المعركة لصالح الغزاة، فقد اندحر الغزاة وهٌزموا في معركة الزكيات. فرق الأرقاء النظامية التي اعتمد عليها ملوك الفونج لم تكن مثل فرق البلو التي اعتمد عليها ملوك سوبا، وهذا من عدة نواحي: فقد كانت المهمة القتالية لفرق البلو واضحة المعالم وهي حماية الحدود الشرقية، وباستخدام وسيلة محددة هي الخيل يتدربون عليها في كل الأوقات تحت قيادة اقطاعية، ويعمل الجنود ضمن مجموعة قبلية تؤمن نوعاً من التجانس، كما أن كل كتيبة (بلو) تعتبر مسؤولة عن قطاع عسكري معين، وشهدنا الأثر الإيجابي لذلك في قتال الحلنقة الشرس ضد المماليك رغم أن الخطر جاء هذه المرة من الشمال، وكانت غارة واحدة لم تتكرر. وفي المقابل كانت المهمة القتالية الأساسية لفرق الأرقاء في سنار هي حماية النظام، وهو نظام تتغير قيادته الفونجية باستمرار، ثم سيطر عليه الهمج بعد ذلك. وفي عهد الفونج واجه الاقطاع الموروث من علوة مشكلة كبرى نتيجة لانتشار القيم الإسلامية؛ والتي لا تعترف في جوهرها بالتقسيمات الطبقية؛ الرأسية على وجه التحديد، وبالتالي بدأت سيطرة الاقطاعيين على جنودهم تضعف واخذت روح عدم الانضباط تسري. ومن أمثلة عدم الانضباط أنه عندما تزايدت اعداد الجنود لدى الفونج وكانت كل مجموعة منهم قد تكون تابعة لاحد نبلاء الفونج، أدت هذه الزيادة لعجز النبيل عن اطعامهم والتكفل بنفقاتهم، بينما نجد ان مملكة علوة قد حلت هذه المشكلة عن طريق التخصص في المهام وفي الإنتاج، فكان هناك اقطاعيات الكرسا لإنتاج الحبوب على المستوى الواسع، وتفلين للإنتاج الحيواني، ومرنكة للأعلاف والخضراوات والفاكهة، وفُرغ جنود (البلو) للقتال، يقول سبولدينق متحدثا عن الفونج: (وكان سادة ذلك الزمن يطلقون عنان فرق جنودهم الجائعة على أراضي منافسيهم السياسيين، وكان شيخ قري عبد الله أكثر من وجد الثناء لأنه قضى على النهابين الذين كانوا يعرفون بالعكاليت؛ وقبض عليهم عصابة بعد عصابة؛ وقطع رؤوسهم وبذلك محى السرقة والنهب في أيامه، والعكاليت على كل ليسوا نهابين بالمعنى البسيط، وانما هم من الوحدات المتجولة من فرق جنود الوزير/الشيخ، وعاشت هذه الوحدات لفترة طويلة بعد ان مات الشيخ عبد الله) ( ). والوزير الشيخ الذي أشار إليه سبولدينق هو الوزير المتصرف في سنار من الهمج. أي أن فرق النهب هذه كانت تابعة لأعلى سلطة في الدولة. من كتابي (مملكة مروي سياحة تاريخية ولغوية بين حلقات الذكر والإنداية). الناشر دار المصورات للطباعة والنشر. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
