ما بين (سبَاكة) فلوران و(خَرمجَة) ربجيكامب    ضربات سلاح الجو السعودي لتجمعات المليشيات الإماراتية بحضرموت أيقظت عدداً من رموز السياسة والمجتمع في العالم    قرارات لجنة الانضباط برئاسة مهدي البحر في أحداث مباراة الناصر الخرطوم والصفاء الابيض    غوتيريش يدعم مبادرة حكومة السودان للسلام ويدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار    صقور الجديان" تختتم تحضيراتها استعدادًا لمواجهة غينيا الاستوائية الحاسمة    مشروبات تخفف الإمساك وتسهل حركة الأمعاء    منى أبو زيد يكتب: جرائم الظل في السودان والسلاح الحاسم في المعركة    نيجيريا تعلّق على الغارات الجوية    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    بالصورة.. "الإستكانة مهمة" ماذا قالت الفنانة إيمان الشريف عن خلافها مع مدير أعمالها وإنفصالها عنه    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية مغمورة تهدي مدير أعمالها هاتف "آيفون 16 برو ماكس" وساخرون: (لو اتشاكلت معاهو بتقلعه منو)    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    ناشط سوداني يحكي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين شيخ الأمين بعد أن وصلت الخلافات بينهما إلى "بلاغات جنائية": (والله لم اجد ما اقوله له بعد كلامه سوى العفو والعافية)    منتخب مصر أول المتأهلين إلى ثمن النهائي بعد الفوز على جنوب أفريقيا    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان شريف الفحيل يفاجئ الجميع ويصل القاهرة ويحيي فيها حفل زواج بعد ساعات من وصوله    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية غير مسبوقة على مواقع التواصل.. رئيس الوزراء كامل إدريس يخطئ في اسم الرئيس "البرهان" خلال كلمة ألقاها في مؤتمر هام    لاعب منتخب السودان يتخوّف من فشل منظومة ويتمسّك بالخيار الوحيد    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    صلوحة: إذا استشهد معاوية فإن السودان سينجب كل يوم ألف معاوية    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    عقار: لا تفاوض ولا هدنة مع مغتصب والسلام العادل سيتحقق عبر رؤية شعب السودان وحكومته    البرهان وأردوغان يجريان مباحثات مشتركة    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثمة عيوب خلقية في ولادة الدولة السودانية .. في مناقشة الدكتور عبد الله علي إبراهيم .. بقلم: عزالدين صغيرون
نشر في سودانيل يوم 22 - 01 - 2021

يعاني كثير من المثقفين السودانيين من "حوَّل" في بصيرتهم الفكرية والسياسية يجعلهم يرون الشيء الواحد اثنين، وهذه الرؤية الازدواجية تحول دونهم واتخاذ الطريق الواضح لدى صاحب البصيرة السليمة. وينكبون طرقاً تدور بهم في حلقة دائرية لا يغادرونها، وهم يظنون أنفسهم يتقدمون. فهل أتاك حديث المثل الإنجليزي عن الكلب الذي يدور حول نفسه جاهداً وهو يطارد ذيله؟!.
وهذا داء يعاني منه المثقف دون سائر خلق الله من السودانيين "العاديين". الذين يعرفون الفرق بين هوياتهم الصغرى والكبرى. وتجعله حين يردد مع الكاشف "أنا سوداني، أنا أفريقي" يتسامى على هويته القبلية مرتقياً إلى هويته الكبرى المرتبطة "مكانياً" بأرض قارته الأم.
وهذا التسامي على الهويات الصغرى (القبلية، الجهوية، الإثنية، الثقافية) هو الذي يجعل "كشة" الجعلي يخاطب علي عبد اللطيف النوباوي الدينكاوي ب "يا ريِّس"، في معمعة حراكهم الوطني لاستقلال السودان في "جمعية اللواء الأبيض" تحت لافتة قومية موحدة.
وكانت تلك واحدة من تجليات الوعي السودانوي الباهرة. التي على قاعدتها كان يمكن أن تتأسس الدولة السودانية الحديثة، التي لم تقم لها قائمة حتى اليوم. لأن "مثقفينا" لم يرزقهم الله هذه الرؤية الكلية لمفهوم الدولة. وما زالوا يتعثرون في حبائل ما تلقفوا من مصطلحات العلوم الإنسانية، دون أدنى محاولة – عند تطبيقها لتفسير واقعنا الاجتماعي التاريخي – لتفحُّص محتوى ومضمون مفاهيمها، ومعرفة مدى مطابقتها ل..، أو اختلافها عن..، مفهوم المنشأ.
(2)
ابتدر الدكتور عبد الله علي إبراهيم مقاله بعنوان " يوم حظرت دولة النوير إذاعة أغنية "اب ذوق عشا أمو" من راديو أم درمان" برواية تقول بأن: " للأستاذ فاروق جاتكوث فيديو ذائع. وفيه يأتي بخطاب باكر للزعيم إسماعيل الأزهري يقول فيه إن السودان بلد عربي إسلامي حر. ويعلق عليه فاروق قائلا شوف ديل قرروا أن السودان عربي وإسلامي حتى قبل أن يستقل. وانفجرت القاعة صفقة وضحكاً سخرية ممن سموا الوليد قبل وضوعه".
كلنا يمكن أن يضحك على البداهة مع الضاحكين من تسمية جنين في بطن أمه لم يُعرف بعد جنسه أذكر أم أنثى؟. ماذا لو أسميناه زينب،، وطلع محمد على سبيل المثال؟!.
إلا أن الدكتور الفاضل يفاجئكم مقرعاً، بأنه: " لو علم فاروق وجمهوره حق العلم بما استنكروه لكان ضحكهم كالبكاء. فالأصل في تشكيل القومية هو صفوة الجماعة التي نهضت بأمرها مثل مؤتمر الخريجين. فهي التي لا ترى الوطن المنتظر إلا في صورتها. وهذا علم نشأة القومية لمن ألقى السمع وهو شهيد. ويسمي أهل العلم العملية التي استنكرها جاتكوث وأضحكت جمهوره ب"تخيل الأمة". فهذه الصفوة الناهضة بالقومية تتخيل الأمة وهي في رحم الغيب عربية مسلمة ما نسبوا أنفسهم هم عرباً مسلمين. ولهدا يقال إن القومية الصغرى مثل الشمالية تتخيل وطنا مصنوعاً من ثقافتها الضيقة ليغطي ثقافات القوميات الأخرى في الوطن التي ستنتظر الدخول في بوتقة الجماعة ذات الشوكة لتخرج منها على صورتها كما تشتهي. وهذا تلخيص ركيك مني لأشهر نظرية في حقل نشأة القومية عرضها بنديكت أندرسون في كتابه "الأمم المتخيلة" قبل أربعة عقود".
"شفت كيف" يمكن "علمياً" أن تكون البنت محمد، والولد زينب، "لمن ألقى السمع وهو شهيد" ؟!!.
(3)
نتفق مع الدكتور عبد الله على أن " الأصل في تشكيل القومية هو صفوة الجماعة التي نهضت بأمرها مثل مؤتمر الخريجين. فهي التي لا ترى الوطن المنتظر إلا في صورتها". ونزيد بيته شعراً بأن "القومية" و "الأمة". وهما الأساس – حسب هذا المفهوم الذي تقوم عليه "الدولة " – هي كيانات مصطنعة من صنع البشر.
ولكن، في الاجابة على السؤال عن العناصر البشرية المُكوِّنة للدولة يتداخل بشكل تلقائي مفهومي "القومية" و "الأمة"، وذلك انطلاقاً من افتراض خاطئ بوجود قومية مسبقة، تُشكل أمة معينة، باعتباره شرطاً أولي لازم لقيام الدولة.
وهذا الشرط يتأسس في الواقع على فرضية أسبقية الوجود القومي، كمعطى بديهي راسخ. في حين أنه ما من وجود حقيقي أو "طبيعي" لما يسمى بالقومية، كتاريخ ووعي إندماجي، فهي مجرد وهم .
ولكن هذا الوهم – مثلما يقول الفضل علي شلق – يعكس إرادة سياسية، ويشكل مشروعا لفئة، أو نخبة تؤمن به، وتحمل لواءه، وتقيم علاقة مع مجتمعها، وتعمل على غرس وترسيخ هذه الإرادة في مفاصل مجتمعها(1).
فهل استوفي الأزهري وجيله من رواد مؤتمر الخريجين هذا الشرط بغرس هذا الوهم وترسيخ هذه الإرادة في مجتمعهم؟.
هل تم الإجماع على عروبة وإسلامية السودان بين كافة المكونات السودانية فيما يشبه العقد الاجتماعي اللازم لقيام دولة حديثة؟.
الواقع أن كل الشواهد التاريخية تنفي ذلك. إذ أن استقلال السودان شهد خلافاً حاداً، وواجه صعوبات لتحققه، ليس بين القوى الوطنية والمستعمر، بل بين القوى الوطنية ذاتها. وذلك حين اشترط المستعمر أن يشمل الاستقلال شطري الوطن الجنوبي والشمالي... وإلا فلا استقلال. وكان رأي الجنوبيين أن عدم التكافؤ بين الشطرين سيكرس هيمنة الشماليين، ما يجعلهم تحت استعمار آخر. وبالتالي طرحوا صيغة الحكم الفدرالي للجنوب عند إعلان الاستقلال، وبالطبع كان هذا الشرط يتناقض مع مخطط الاستعمار في سودان موحَّد مستقل. فوعد الشماليين الساسة الجنوبيون بإرجاء مطلب الحكم الفدرالي، لينالوه فور إعلان استقلال السودان. وبالطبع نكص ساسة الشمال المتلهفون للحكم بوعدهم. لينشأ أول تمرد جنوبي مسلح حتى قبل أن يعلن استقلال السودان.
(4)
ما ينبغي التركيز عليه هنا هو: أن الأمة نفسها مؤلفة من قوميات. أي من عدة عناصر عرقية، وتكون ثقافتها مستمدة من تراث ثقافي مشترك بين عدة شعوب. والحروب والفتوحات والهجرات وتغيرات الحدود تجعل دم كل أمة خليطاً من دماء عدة شعوب، تماماً كما هو حال الأمة السودانية التي تداخل عناصر نسيجها الاثني والثقافي. كما أن الاتصالات والاستعارات الثقافية تجعل ثقافتها مؤلفة من عدة ثقافات.
إذن فالقاعدة في نشوء الأمم وقيام الدول هو التنوع والاختلاف العرقي والثقافي وليس التماثل. وكما يقول روبرت ماكيغر فإن "الحضارات المعروفة ازدهرت في مناطق التقاء الشعوب، كما ترعرعت المدن الكبرى في مراكز التقاء المواصلات. والثقافة اليونانية وهي أوج الازدهار الثقافي الذي بلغه العالم، لم يكن ازدهارها من صنع دولة دون الأخرى، بل من صنع شعب منتشر بين عدد من الدول الممتازة.(2).
وإذن حينما قال إسماعيل الأزهري أن "السودان بلد عربي إسلامي حر" فهو بذلك قطع مسبقاً بهوية الدولة التي لم تنل بعد استقلالها. وهذا هو جحر الضب الذي أدخلت فيه كل الشعوب السودانية.
فالسودان الذي وحَّد مكوناته المتناثرة حاكم مصر الشركسي محمد علي باشا لم يكن حينها بالفعل بلد عربي إسلامي؟.
كان مستعمرة تحت التاج المصري، وعملته النقدية تحمل اسم وصورة الملك فؤاد "ملك مصر والسودان". وكونه مستعمرة مصرية لا يجعل "هوية" شعبه أو دولته أو قومياته مصرية، أو إسلامية وعربية (إذا كانت مصر كذلك). اللهم إلا إذا كان الماليون والتشاديون والمغاربة فرنسيو الهوية !.
كما أن مؤتمر الخريجين، أو الأزهري، لم يكن يعبِّر حينها عن نخبة متماسكة متحدة استحقت الشرعية التاريخية التي تخولها الحق في تحديد هوية الدولة ؟. فقد كانت هناك قوى اجتماعية وسياسية أخرى، لم تكن مضادة لها، أو تنازعها ربما، فقد كانت تتفق معها في الهدف المشترك الجامع: الاستقلال، ولكنها تختلف معها بالضرورة في تفاصيل تحديد هوية الدولة التي لم تتحدد بعد. فبعضها مسلم غير عربي، وبعضها لا هو بالمسلم ولا بالعربي.
(5)
أفلا يحق أن تنفجر القاعة صفقة وضحكاً سخرية بعد تعليق فاروق جاتكوث على مقالة الأزهري، ممن سموا الوليد قبل وضوعه؟.
وعلى رأي الدكتور عبد الله لقد انتصرت صفوة الجماعة التي نهضت بأمرها القومية العربية الإسلامية بمؤتمر الخريجين في فرض رؤيتها للوطن المنتظر على صورتها، والذي تجسده دولتنا القائمة الآن منذ الاستقلال.
إلا أن انتصارها كان هزيمة للدولة الحديثة المرجوّة.
وهنا كما قال الدكتور يأتي البكاء في باطن ضحك القاعة الصاخب !.
لأنه بانتصار جماعة شعار عروبة وإسلامية هوية الدولة السودانية تم تغييب ثقافة النوير وكل أغانيهم بالفعل، لا افتراضاً، يمثله عنوان مقاله.
لقد كانت رؤية "المهزوم" علي عبد اللطيف القائمة على القومية السودانية، هي الأقرب لتحقيق دولة المواطنة الحديثة، من رؤية "المنتصرين" القائمة على هوية قومية مزعومة.
وها نحن إلى اليوم نخوض في وحل هذا الانتصار المشؤوم الذي كلفنا انفصال ثلث الوطن ، ويهدد بتشرذم بقيته شرقاً وغرباً، وجنوباً جديداً بعد الجنوب الذي انفصل.
(6)
هل تريد أن تعرف أين العلة والسبب الأعمق لفشل قيام دولة سودانية حقيقية حتى اليوم رغم كل الثورات والانتفاضات ؟.
إنهما سببان مترابطان عضوياً:
الأول – ببساطة، فيما نعتقد - يعود إلى غياب مفهومي "الأمة" و"الدولة" في الوجدان السياسي للسودانيين، أو مكونات الكيان السوداني، وخاصة بين نخبه السياسية والثقافية والاجتماعية، التي، ولضعف، أو لغياب وعيها بمفهومي الأمة والدولة في فكرها السياسي، ظلت تقوم بتقديم "الآيديولوجية" على الأمة والدولة معا !!.
ذلك أن العقل السياسي السوداني لازال يدرج في مراحل الوعي القبلي والطائفي والعشائري ، أي أنه ما يزال يشتغل في مستويات "ما قبل" الوعي السياسي، العقلاني، الموضوعي. ولهذا تتعامل مع الأيديولوجيات باعتبارها من هويات ما قبل الحداثة، فالكيان الأيديولوجي هو المرادف في تلك العقلية للكيان الطائفي والقبلي والإثني.
ويمكنك أن تستنتج ببساطة وسهولة بعد ذلك إن تمدد هذا الوعي ال "ما قبل" الحداثي ، إنما يتم خصما على مساحات الوعي الحداثي السياسي المفترضة ، والتي تنكمش وتتقلص إلى مستوياتها الدنيا، كلما تمدد وعي ال"ما قبل".
ليس ذلك وحسب
بل أكثر من ذلك، وفي ظروف تاريخية معينة، يمكن أن يتخذ هذا الوعي ال "ما قبل الحداثي" مسارا مضادا، فيقوم بتوظيف الرصيد المعرفي للفرد أو الجماعة في خدمته لتحقيق مصالح مجموعته الإثنية، وهنا تكون الكارثة التي لا محيص عنها.
أما السبب الجوهري والأساسي الثاني فيكمن في أن هذه الدولة تأسست على مبدأ زائف لهويتها. وهذه علة ظلت تلازمها قبل أن يتوحد السودان في دولة مركزية، ترجع إلى تاريخ السودان الوسيط. وترجع إلى لحظة قيام الممالك الإسلامية المستعربة في كل من سنار ودارفور وكردفان (1450-1504 م) ، التي كرست بصورة كاملة هيمنة المجموعات الإسلامية /المستعربة ، وسيطرتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية على المجموعات السودانية الأخرى.
(7)
إن قيام هذه الممالك/السلطنات ، كان واحداً من نتائج وإفرازات اتفاقية البقط، وصيغتها الهلامية. إذ كانت أقرب إلى اتفاقيات الهدنة الأمنية التي ترجئ وتؤجل حسم الصراعات، منها إلى اتفاقيات السلام التي ترتب الأوضاع بين المتقاتلين على صيغة نهائية يرضى بها الطرفين المتنازعين..
كانت اتفاقية أمنية..
أو قل اتفاقية هدنة أمنيَّة.. فرضتها ظروف الطرفين.
لقد أوقفت القتال والاعتداءات المتكررة بين الغزاة العرب الآتين من الشمال المصري، المُسْتَعَمَر – عربياً – وبين النوبة المستقرين والبجة المنفلتين من كل قيد.
ولكنها لم تضع حلولا نهائية متفقا عليها بين طرفي النزاع، وإنما كانت صيغة هلامية تركت الباب مفتوحا ليحسم الصراع ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، بعد أن أعطت الغزاة حرية التجارة في الأراضي السودانية، وألزمت الأهالي، أصحاب الأرض التعهد بصيانة وحراسة مساجدهم... و..
وباقي القصة بالطبع معروف للجميع.
وبدون الدخول في التفاصيل، فإن كافة هذه المعطيات التاريخية أفرزت أوضاعا لا يمكن أن تتمخض عنها "أمة" بالمعنى الصحيح، يمكن أن تتأسس عليها "دولة" بالاشتراطات الحديثة للدولة.
ولذا فإن أي حديث الآن – قبل حسم هذه الاشتراطات – عن الديمقراطية والتنمية الشاملة المستدامة، يصبح كلاما "فارغا" من أي مضمون أو معنى. أو كما نقول في اللسان الدارج "كلام ساكت".
أي كلام "غير متكلم".
وهو الكلام الساكت الصامت الذي لا يقول شيئا.. مجرد هواء.
(8)
والحال أن مسألة تكوين "أمة" وبناء "دولة" يحتاج إلى "وعي" جديد ومختلف نوعيا، يعالج هذا الخلل في معادلة الاجتماع السوداني. يحدد الهوية الحقيقية للدولة، بما يعبر عن مكوناتها شعوبها المتعددة الأعراق والمتنوعة الثقافات الحقيقية.
لأن أهم اشتراطات قيام واستدامة الدولة الحديثة تتمثل في انتقال مشاعر الولاء من العائلة والقبيلة والجماعة المحلية أو الطائفة الدينية لصالح الدولة. وأن تحتل مصالح الدولة مكان الصدارة، بما يسند بنيتها المؤسساتية وتفوق شرعيتها، لأنها تضمن السلام والاستقرار والأمن والرفاه على نحو أفضل مما تستطيع الروابط الأخرى تقديمه.
هل تعرف إلى أين قاد انتصار نخبة عروبة وإسلامية السودان مؤتمر الخريجين فجر الاستقلال، بل ومنذ ما قبل انبلاج الفجر، إبان مراحلها النضالية السلمية؟.
لقد تسلل إليها فيروس النزعات القبلية والعنصرية القاتل ومزق نسيج وحدتها، وإن كان خالد حسين الكد يعتبر أن الانقسام الذي نشأ داخل جمعية الاتحاد بين فريقي سليمان كشة وجماعته وبين علي عبد اللطيف وعبيد حاج الأمين والطيب بابكر، كان "في الواقع تعبيراً عن تعارض مصالح مجموعات متباينة داخل طبقة الأفندية .. ويمكن شرحها في محورين أساسيين، اقتصادي واجتماعي" وفي أحد وجوهها "كانت مواجهة بين مصالح (أولاد القبائل) وتلك العناصر (المنبتة) التي لا تعرف لها أصولاً خارج إطار هذه التركيبة الحضرية الجديدة" ويسمي الأخيرة في مكان آخر (عديمي الأصل) (3).
ثم انقسمت نفس هذه الطبقة/ النخبة التي حددت مبدأ هوية الدولة السودانية بعد الاستقلال في نادي الخريجين، بين الحزبين الطائفيين: الأمة والختمية، تحت مظلة السلطتين الاستعماريتين:
- البريطانية/ الأمة/ السودان للسودانيين.
- المصرية/ الختمية/ الاتحاد مع مصر.
بينما اتخذت القِلَّة الباقية اتجاهات شتى، لم يكن لها دور في إعادة توجيه وتعديل اتجاه بوصلة هوية الدولة وقومية شعبها الزائفة المنحرفة، ألا وهي عروبتهما وإسلاميتهما المقترحتين..
(9)
خلاصة ما يمكن أن يقال حول لدحض الحجة القائلة بأن "القومية الصغرى مثل الشمالية تتخيل وطنا مصنوعاً من ثقافتها الضيقة ليغطي ثقافات القوميات الأخرى في الوطن التي ستنتظر الدخول في بوتقة الجماعة ذات الشوكة لتخرج منها على صورتها كما تشتهي" على يدي النخبة أو الصفوة (سمها ما شئت)، سواء قال بها بندكيت أو غيره من علماء الأنثروبولوجيا السياسية، فإنها يمكن أن تنجح في تأسيس دولة، ولكنها دولة قائمة على "العصبية"، دولة العصور الإسلامية الوسطى، ولكنها لن تنجح في إقامة دولة قومية حديثة قابلة للبقاء والتطور والاستدامة.
ولكي تصير دولة مثل هذه دولة حديثة جديرة بالبقاء والتطور والاستدامة، لا بد أن يعاد تأسيسها (من أول جديد)، وشرط قيامها هو أن تتأسس على تعاقد اجتماعي جديد كدولة مواطنة، تضمن الحرية والمساواة والعدل بين مواطنيها، وتعاد هيكلتها بحيث تكون السيادة فيها للشعب أولاً، وليس للنظام الحاكم كما هو سائد في كافة دول العالم الثالث.
إن القاعدة التي يجب تستقر في وعينا اليوم هو أن الدولة التي تنشئها قومية مهيمنة أو أي عصبية كانت، لا مستقبل لها، فهي تحمل بذور موتها وفنائها داخلها، لأنها دولة شقاق، (طال الزمن أو قصر) لا بد أن تستيقظ القوميات والاثنيات والمكونات الأخرى وتتمرد على السلطة المركزية وتنازعها السلطة، مطالبة إما بحقوقها في إطار الدولة القائمة، أو بالانفصال عنها وتأسيس دولها هي الأخرى. والقوانين الدولية ستمنحها حق تقرير المصير ، وسيبارك المجتمع الدولي قيامها حينها، (ولا عزاء للبواكي) يومذاك.
ويطول إذا شئنا الحديث عن المسارات الصحيحة لتحديد هوية الدولة الحديثة، وعلاقتها بالهويات الصغرى، وعن العقد الاجتماعي الذي ينبغي أن تتأسس بموجبه وظيفتها وهيكلة مؤسساتها الدستورية.
ألا نتحدث نحن هنا الآن عن الدولة السودانية القائمة، ومساراتها المستقبلية؟.
مصادر وهوامش
(1) الفضل علي شلق، "الوعي والمأزق: تجليات الفكر في مشكلات العرب"، الدار العربية للعلوم، بيروت/ لبنان، الطبعة الأولى 1425ه - 2005م.
(2) روبرت م. ماكيغر، تكوين الدولة، ترجمة د. حسن صعب، دار العلم للملايين بيروت/ لبنان، الطبعة الثانية يناير 1984م، ص 437.
(3) خالد حسين الكد، الأفندية ومفهوم القومية في الثلاثين سنة التي أعقبت الفتح في السودان 1898 – 1928، مجلة الدراسات السودانية، معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية، جامعة الخرطوم للنشر ومعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية، مجلد (12)، العدد الأول أبريل 1992م، ص: 61..
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.