في اللغة اليونانية ‘أنثروبوس-' تعني ‘الإنسان' و ‘- مورفي ' تعني ‘الشكل/الصورة'. إذاً، مصطلح ‘أنثروبوس – مورفي' يعني ‘في شكل إنسان'. التجسيد في لغة المجاز هو إسناد السمات، أو النوايا، أو الأفعال البشرية، إلى كيانات غير بشرية. أما التجسيد في أطار العقائد والأديان هو إسناد سمات الإنسان إلى كيان إلهيٍ سامٍ، متعال. لذلك، كانت للآلهة القديمة أسماء ذات مغزى، وصور وأشكال ذات معنى، وكانت تتقبل التضحيات، تأكل الطعام، تقع في الحب، تُغار، تغضب، تكره، تتزوج، تنجب الأطفال، ، تخوض الحروب، تموت وتبعث من جديد. في أساطير حضارة المايا القديمة وقع رجل معدم فقير في حب إمرأة مُترفة، جميلة، هيفاء، شقراء، فأخبرته أنه إذا أراد أن يرى شعرها، يتجدد، ينعم، ويطول، وجب عليه أن يمسكها من شعرها ويسحبها فوق أرض محروقة فتنبت له محصولاً من الذرة الشامية شهيٌ، طاعم، ووفير. لم يتردد الرجل المتيم فأضرم ناراً في حطب من عظام وجَرَّ معبودته فوق الأرض المحروقة حتى تتمكن من النهوض مجدداً، من تحت الرماد، وإلى تصعد السماء لتصير إمرأة - إلهة، أصغر سنًا، وأكثر فتنة، وخصوبة، وجمال؛ تهبه الحياة الدنيا، وتنير له جنبات الطريق إلى حيث الجنان، والراحة، والخلود. يُعتبر تمثال لوفينمخك (الرجل الأسد) المنحوت من العاج في شكل إنسان برأس لبؤة ، والبالغ من العمر أربعين ألف عام، والذي وجد في كهف هولنشتاين- استاديل الذي يقع في جنوب وادي لونيتال، في المانيا، أقدم تجسيد عرفته البشرية حتى الآن. أما كهف تغوا - فغيغ (الأخوة الثلاثة)، المتعدد الحجرات، في منطقة أريج ، في فرنسا، فقد إحتوى مجموعة من اللوحات والنقوش من العصر الحجري عمرها ألف وأربعمائة عام من قبل الميلاد. على جدران غرفة تسمى ب - ‘الحرم' في ذلك الكهف العتيق توجد رسوم لحيوانات مختلفة منها الخيول، و الوعول والماموث، والبيسون، بجانب اثنين من الكائنات النصف بشرية - نصف حيوانية، وصورة مركزية في شكل إنسان مركب من أعضاء حيوانات مختلفة أطلق عليه إسم الساحر، أو ‘الإله ذو القرنين' والتي فسرت على أنها نوع من الروح العظيمة، أو رب للحيوانات. في عصور الحضارات الكوشية القديمة مثلت عين الشمس التي لا ترمش، وترى كل شيء، إلها واهبا لدورة الحياة الأبدية من هواء، وماء، ودفء، وتنوير، ونور. ففي رحلتها المهيبة بين الشروق والغروب، كان إله الشمس فيها يسطع مع نور الصباح ويصعد ليصير الإله ‘رع – خبري' عند قائظة الظهيرة، و‘أتوم – رع' عند حمرة المغيب - المهيب. هكذا كانت الشمس وصفاتها الكونية لنظم الأديان والمعتقدات التي إتخذت منها أيقونة تقف خلفها طريقٌ يقودها نحو التوحد في العبادة، والصلاة، والقنوت. فعند بدايات الهداية خرج الإله اتوم من عمق الينابيع القديمة، ثم إعتلى جبلا شاهق ليستوي على قمته ويصبح إلها للشمس وشعاع لنورها الساطع، لكنه تَبدَّى للإنسان في صورة رجل باهر- إنسان، يرتدي تاجا بلونين، أبيض – أسود في إشارة لثنائية سلطته في أعالى وأسافل وادي النيل، الخالد، العظيم. أما الإله رع، فأيضاً، كان في شكل جسم إنسان برأس صقر، ومن فوقه قرصا للشمس يشير لملكوته في السماء. إقترن الإله رَعْ بنظيرته الأنثى، الإلهة رأيت - تاوي، ومعاً أنجبا سَخْمت، وبَسْتْت، وحَتحْور، الذين مثلوا طبيعة التريث والحكمة، وأيضا نذق التهور والإنتقام، في أبيهما، سيد الخلق والخالقين. ففي تطوره التاريخي، اللاهوتي، الأسطوري، نحو إله كامل القدرات، سرمدي الحضور، في البداية، إكتسب الإله رع النصف الآخر من قوة الشمس من الإله أتوم ليصبح ‘أتوم – رع' إلها للشمس قادر - كامل. من بعد ذلك اندمج رع مع ‘آمون' ، إله الريح الصرر العاتي، ونسيمها العليل، ليصبح الإله ‘آمون- رع' ؛ ومع ‘خبري' ليصبح إله الشروق ‘رع - خبري' ؛ ومع ‘خنوم' ليصبح إله الغروب ‘خنوم- رع'. أما مع الآلهة -الأم ‘موت، فقد أنجبا ‘خونسو'، إله القمر الذي يشع نوره في سماوات الدجى الحالك فيضيء للمسافرين طريقهم في الدياجر ويفرد عليهم جناح حمايته من الخطر الكامن في الحالك من زوايا الظلام. على جرف جبل عرف ببعده عن مياه النيل فأطلق عليه إسم النقعة، قامت معابد للكنداكة شناكداخيتي، والإلهين أبيدَماك وآمون. على جدار معبد شناكداخيتي حفرت نقوش لثالوث طيبة المكون من الأله آمون، ومَوْت، وخُونْسو. أما ابديماك، إله الحرب، الذي حقق الانتصارات وهزم الأعداء، فقد جُسِّد في واجهة المعبد الذي يحمل أسمه على شكل ثعبان يخرج من زهرة لوتس، وبجانبه االملك ناتاكاماني، والكنداكة أمانيتوروهما يمارسان سطوتهما على السجناء. أما على الجانب الآخر من المعبد فقد ظهر الآلهة آمون وبجانبه حورس، إله السماء وهو في صورة رجل برأس صقر، جارحٍ، كاسر. عند اليونان القدماء كانت الإلهة أفروديتي مرآة لكوكب الزهرة على الأرض، وأم لكل الكائنات، وإلهة للحب، والخصوبة، والزواج، والإنجاب. في العديد من الأعمال الفنية من صور وتماثيل، مثل لوحة بريمافيرا ل- بوتيتشيلي، وثلاثية تيتيان ل - فينوس دى أوربينو، ومع كيوبيد، ومع عازف الأرغن، وتماثالي براكسيتيل الرخاميين ل- فينوس دي كنيدوس، وفينوس دي ميلو، تم تجسيد أفروديتي في صورة إمرأة في غاية الحسن، والجمال، والإغواء، والإغراء. في قصة "الإلياذة" الشعرية خرجت أفروديتي من مياه البحر وسارت حافية الأقدام على طول ساحله لينبت في أثر خطاها زهور الغار، والبنفسج، والياسمين، والأقحوان، كتجسيد لقدها في التحكم في الطبيعة، ولتضمينها طبيعتها في الخصوبة والجمال. أما حُبُها الجارف ل - آريس، إله الحرب، الفارس، الفارع، الوسيم، فقد أشعل أُتون نار حرب طروادة، وأحكم العداء بين الآلهة المشاركة بنفسها في وطيس المعارك الدائرة. ولأن ذات أفروديتي فيها طعم ماء البحر المالح، وملمس زبده الطافح، فقد كانت في بعض الأحيان تتبدى للعالمين كمخلوق ثنائي الطبيعة، نصفه الأسفل سمكة والأعلى منه إنسان؛ حورية للبحر تغري للحب المقدس والحرام. في الأساطير الصينية القديمة كان يُنظَرُ إلى السماء على أنها مكان لكل الخير، ولغاية الجمال، ومعبداً لأسمى ما في الروح والأخلاق، وواهبا معطاء لكل أسباب الوجود والحياة. ففي إتجاه الشروق من فضائها الفسيح شقت النجوم دربا للتبانة مناراً يقود إلى حيث عرش ملكوت الأرض والسماء. أما غربها الذي كان نجم ‘ ألتر' يضيء جنبات فَوْهاته السوداء، فقد كان مزاراً تصعد إليه أرواح الموتى لتقوم بدور الوسيط بين أهلهم على الأرض وربهم في أعالي السماء. وبين المقامين كان نهر مياه الفضة المعلق في فضاء الكون الفسيح تجري مياهه في سلاسة، وهدوء، وإنتظام. وبعد كل هذا البعد في المكان، والتعالي والتسامي في مواقيت الزمان، كان ملك السماء في مقام التواضع والبساطة بحيث يتنزل لأديم الأرض ويقترن بآلهتها المرأة – الأنثى، ويأتي منها ب - زينا، ربيبة ملكوت السماء. فعندما كانت زينا تتنزَّل على حبل مفتول من أنسجة السحاب لتستحم وتغتسل في لجة مياه نهر، أرضي، ساحر - أخاذ، كان نيولانج، راعي البقر - الإنسان، يختبيء خلف الأحراش والأشجار لمشاهدتها حتى وقع أسيراً في حبها. وفي ذات يوم قرر نيولانج إمتلاكها لنفسه، وللأبد فتسلل خلسة وإستولى على ردائها الفضي، وحبلها السحري، حتى يمنعها من من الصعود تارة أخرى إلى السماء. خرجت زينا من النهر كشلال من ضياء ولم تجد ما يسترها من لباس فما كان لها غير الإستسلام لراعي البقر الذي حملها إلى دارهِ فكساها وأطعمها وجعل المقام لها كله دفء وراحة تستطيب. مع مرور الوقت وقعت أميرة الحسن في حب نيولانج فأقترنت به وله صارت زوجاً حميم. كبر حنين زينا لرؤية والدها، وذات يوم، وبصدفة بحتة، وجدت رداءها وحبلها مخبئان فصعدت لرؤية والدها. وعندما علم الإمبراطور بزواج ابنته من راعي البقر - الإنسان، أمر نهر الفضة بالتدفق والسيلان حتى يحول بين إبنته والعودة إلى زوجها. لكن، عندما رأى الأب الحنون حزن وتعاسة ابنته، وسمع منجاة نيولانج يتردد صداها بين جنبات الكون الفسيح، أمر النجوم أن تَنْتصِب وتَرتَصَّ، شعاعٍ - بشعاع، لتصبح جسراً فوق النهر من ضياء، ومكانا فريداً يلتقي فيه العاشقان عند كل تواقيت إكتمال هلال قمر السبوع. أما الأديان الإبراهيمية، السماوية، الثلاثة: اليهودية، المسيحية، والإسلام، فعلى الرغم من إختلاف رسالة أنبيائها، إلا أنها توحدت حول قصة الخلق الإلهي لآدم الذي نفخ فيه من روحه فكان أن "خلق الإنسان على صورته"، ثم أخرج إمرأته حواء من صميم ضلع خليقه الأنسان - آدم. من بعد ذلك، وفوق قمة جبل في صحراء سيناء، تبدى الله ل- نبييه موسى ناراً من تقابة، ثم كلمه تكليماً، وبعثه رسولاً يهدي شعبه المختار من اليهود إلى طريق الخلاص، والصلاح، لتأتي عقيدة الثالوث المسيحية لتوحد بين نييها عيسى وخالقه الإله ليصبحا مع بعضهما ناسوتا تكون فيه روح من القدس ثالثة. أما في دين الإسلام فقد ترتقي نفس الإنسان وتصعد إلى جوار عرش ربها في أعالي السماء كلما زاد ونور معرفته وصلاح قوله وأفعاله. لكل ذلك، فإن التجسيد في الأديان الإبراهيمية يتأصل في وحدة طبيعة الخلق نفسها، لأن الإنسان فيها من روح خالقه، فكيف لا يماثله، وإليه يتقرب ليكون له ظلاً على الأرض، ورسولاً يبعثه لعباده المؤمنين. وللمقال بقية. د. عثمان عابدين عثمان عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. https://www.facebook.com/notes/osman-abdin-osman