لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    احتجز معتقلين في حاويات.. تقرير أممي يدين "انتهاكات مروعة" للجيش السوداني    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اوراقي الافريقية (3) .. بقلم: السفير فاروق عبدالرحمن
نشر في سودانيل يوم 04 - 02 - 2021


بسم الله الرحمن الرحيم
من زنزيبار إلى زائير:- كنت متوجساً و غير مطمئن .. ولكنه الحذر الذي جبلت عليه فعندما هبطت بي طائرة خطوط شرق أفريقيا- المملوكة لثلاث دول متجاورة تتعامل بعملة نقدية واحدة وسكك حديدية مشتركة .. هيأت نفسي لبعض المفاجآت دون ان تكون لدي المعلومات الكافية للمواجهة .. فهذه بلاد شبه مستقله حتى وان كانت جزءاً من تنزانيا الهادئة الودودة .. فمنذ اندلاع ثورتهم في 1964 التي ذبحوا فيها أكثر من خمسة آلاف من العرب وهروب السلطان ، تباهي الثوار بقيادة زعيمهم عبيدي كروم ان تحرير القارة كلها قد انطلق من زنزيبار .. وان المرحلة الثانية ستكون جنوب السودان لطرد العرب تجار الرقيق ..
كنا في ذات العام قد أشعلنا في السودان ثورة اقتلعت حكماً عسكرياً كانت اكبر مآخذنا عليه ان أشعل حرب إبادة في الجنوب ولكننا كسودانيين متهمون بأننا عرب تجار عبيد .. وهي تهمة لا زالت تلاحقنا حتى اليوم .. أهم معلم سياحي في تلك البلاد هو سوق البشر.. شيد الأوربيون في مكانه كنيسة في مفارقة مقصودة ومتعمدة بين ما يرونه رحمة النصارى وقسوة المسلمين .. ولا تملك وأنت المؤمن المعتدل الا ان تحزن .. لكن الطريف في هذه الورطة هي إن لوننا السوداني يجعل منا ضحايا( اي العبيد) وليس القتلة المغتصبين خاصة أن السلطان وحاشيته ( من العرب والشركس والفرس ) بيض البشرة بشكل واضح .. لازلت حتى اليوم أتذكر تلك الكنيسة وذلك السوق واتحمل دون ذنب مني وزر ذلك الظلم الذي تكرر في أسواق النخاسة في أم درمان والقاهرة وبغداد واسطنبول و الجزائر و اوروبا وامريكا .. تنجانيقا نفسها حاول البعض تغيير اسم عاصمتها دار السلام الى اسم اخر ولما فشل المسعى نقلوا العاصمة الادارية الى دودوما داخل البلاد بعيداً من الساحل ..
وهكذا تركت جزيرة القرنفل ذات الأزقة الضيقة المتعرجة والخضرة الكثيفة وغادرتها في يونيو من العام 1969 ولم ارجع إليها ثانية حتى الآن إلا في الكتب والمقالات التي تراوحت بين هوس عبيدى كروم الذي طرد منظمة الصحة العالمية من بلاده لانه لايؤمن بان التطعيم مفيد للأفارقة وبين قصة الاميرة العربية المنشورة اولا باللغة الألمانية وترجمت فيما بعد للعربية وغيرها وكان قد لفت نظري اليها اخي العزيز عمر مكي الفحيل الإعلامي والمترجم لوكالة الأنباء القطرية عندما جئتهم في الدوحة مطلع تسعينات القرن الماضي . وقد كانت الاشادة منا جميعاً لوزارة الثقافة والتراث بسلطنة عمان التى نشرت ووزعت الترجمة العربية فقد تميزت السلطنة قبل كل شئ بالشجاعة والواقعية في نقل قصة أميرة عربية مسلمة أبوها سلطان زنزيبار وساحل عمان تخلت عن عرقها ودينها وهربت مع شخص الماني كان يعمل في الجزيرة عندما كان والدها سلطاناً على مساحات واسعة في البر والبحر وصدر الكتاب في ألمانيا اولاً .. وتعجب وأنت تقرأه ان المؤلفة تدافع عن الاسلام دفاعاً مستميتاً بالرغم من هجرانها له ..
ما الذي اتى بي الى زنزيبار ؟ انه طريق ستانلي بالمقلوب :-
رحلتى الثالثة والاخيرة مع الزعيم اسماعيل الازهري له الرحمة اخذتني الى مدينة ستانلي فيل وسط الكونغو وتحت خط الاستواء تماماً .. وعلى ضفاف النهر الرهيب الذي يقول لنيلينا الابيض والازرق مجتمعين " زحوا كدا " وفي وقت لاحق سأحكي لكم عن نهر أكثر ماءاً ، وكما هي العادة في تلك الأيام ( أواخر ستينات القرن الماضي ) فإن السفر داخل القارة الافريقية مشقة كبيرة حتى بين الدول المجاورة كالسودان والكونغو..تم اختياري كما في الرحلة السابقة |( للنيجر عام 1968) عضواً في وفد المقدمة ولكي نسافر لكينشاسا التي تقع جنوبنا بالاف الكيلومترات كان علينا ان نسافر اولاً شمالاً آلاف الكيلومترات لنعود بعدها بالآف اخرى الى الجنوب . وهكذا طرنا بالايطالية الى روما ثم عبرنا السودان كله مرة اخرى الى كينشاسا لننام بضع ساعات ونواصل بسفرية داخلية الى ستانلي فيل التي أصبح اسمها الآن كسنقاني .. مدينة محطمة وشبه مهجورة أراد الرئيس موبوتو ( جوزيف ديزيريه قبل أن يصبح سيسيسيكو كوكو انقبندو واذاكا بانقا ) أن يعيد إليها الحياة فدعي للاجتماع الثلاثي بين بلاده والسودان و يوغندا أن يتم على أطلالها .. وحيث ان مطارها لم يكن يصلح لهبوط طائرات كبيرة كالكوميت السودانية التي سافر عليها الرئيس الازهري فكان عليه تركها في مطار عنتبي اليوغندي والمجيء بطائرة صغيرة الحجم.. وكنا - نحن وفد المقدمة مع السفير السوداني فضل عبيد ( له الرحمه) في استقباله .. لم تكن لنا جاليه بالرغم من انه كانت لنا قنصلية عمل بها بعض الدبلوماسيين والملحقين العسكريين الا انها قفلت بعد ان تم اختطاف آخرهم ( السفير فيما بعد ) حسن الامين البشير من قبل المتمردين الكنغوليين ليضمنوا به عبور الحدود إلى السودان وهكذا ولاول مرة يكون الخاطف رهينة في يد المخطوف الذي ضمن لهم اللجوء في السودان .. شيء مقلوب فعلاً ..
ستانلي الذي سميت المدينة عليه هو البريطاني ( وتحديداً من إقليم ويلز ) هنري مورتون ستانلي صحفي ومستكشف استأجره ملك بلجيكا ليوبولد الثاني سنة 1878 ليحوز له أكبر قطعة من الارض في افريقيا ونجح في ذلك أيما نجاح حيث حصل له على ما يماثل 1/13من مساحة القارة الافريقية او ما يماثل مساحة بلجيكا 75 مرة .. وليست المساحة هي الاهم بل الثروات الموجودة في باطن أراضيها هي الأثمن في كل القارة بل والعالم . ليوبولد أطلق اسمه على العاصمة ليوبولد فيل ( كنشاسا حالياً )ومنح ستانلي مدينة كسنقاني ( وهي المدينة الثالثة حالياً بعد اليثبت فيل عاصمة كاتنقا المسماة حالياً لممباشي ولكن ستانلي الذي اصبحت مدينته تسمي كسنقاني احتفظ لاسمه ببحيرة ضخمة قرب مصب نهر الكونغو تفصل بين عاصمتي الكونغو زائير والكونغو برازفيل وتعرف باسم بحيرة ستانلي Stanley Pool عرضها يزيد عن 10 كيلومترات تتلاطم أمواجها طوال العام ..
ما يهمنا في هذه المرحلة هو أن ستانلي قد بدأ رحلته من زنزيبار متجهاً غرباً الى الكونغو زائير بينما جئت أنا وبعد 90 عاماً من رحلته تلك من الكونغو لزنزيبار وكان ذلك بعد أسبوعين من انقلاب 25 مايو في السودان 1969..
بعد قمة ناجحة بين البلدان الثلاثة وكان للرئيس الازهري الاكبر سناً والاكثر خبرة الدور القيادي في ذلك سافرنا من كسنقاني بطائرة إير كونغو من طراز فوكرز إلى عنتبي حيث كان في استقبالنا الرئيس اليوغندي ميلتون أوبوتي وكان قد سبقنا إليها بدقائق . وكان من المشاع أن الزعيم الازهري سيبقى في يوغندا يوماً او يومين ولكنه قرر المواصلة الى الخرطوم في نفس النهار وكانت طائرتنا الكوميت رابطه في انتظاره فغادر على بركة الله لكنها كانت للاسف آخر رحلة له في حياته ..
موبوتو الشاب كان يعامل الرئيس أزهري كوالده ويخاطبه بتلك الصفة الكريمة .. كنت اجلس بينهما مترجماً وشاهداً على الاحترام والمودة التى نالها من صاحب الدار وزميله الآخر رئيس أوغندا .. ولكن بعد ذلك بأقل من ثلاثة أشهر كنت استشعر الحزن والحرج وانا اقوم باعمال السفارة السودانية في عاصمته كنشاسا التى عدت اليها بسبب انقلاب 25 مايو الذي أودى بالازهري الى السجن والغى نقلي انا من بلجيكا الى الكنغو (البلجيكي) غير المرحب فيه بمن يمثل الانقلابيين الجدد الذين تسببوا في رحيل الرئيس الزعيم الازهري الصديق لموبوتو وآخرين من الرؤساء الأفارقة..
وزارة الخارجية في ذلك الزمان الجميل كانت تعمل بنظام اداري واضح المعاني معيارها الاساسي الدقة والحزم والانصاف .. ومن أهم علاماته جداول التنقلات والترقيات .. ففي مارس من كل عام يصدر كشف التنقلات وفي يوليو يتم التنفيذ .. لا مجال للقفز او التراخي فأنت قد التحقت بهذه الوزارة بعد أن اجتزت الامتحانات واديت قسم الولاء وأعربت بالصوت والصوره عن استعدادك للخدمة حيث ما يقرر رؤسائك لك الذهاب وليست المسألة كلها امريكا الشمالية او اوربا الغربية .. كما ليست المسألة كلها سجاير وويسكي بالمجان او سيارات معفيه من الجمارك كما يظن للأسف عديد من الناس ..
عندما استدعتني رئاسة الجمهورية - ووافقت وزارتي على ذلك- للسفر في مهمة خارجية كمترجم كنت اصلا اهيئ نفسي للمغادرة لبروكسل التي نقلت إليها بدرجة سكرتير ثاني لا حل محل الاخ عز الدين حامد فأخذت اعد نفسي بالمعلومات الكافية فزرت السفارة البلجيكية وحصلت على كتب ومطبوعات ملونة وغيرها ثم أخذت ادبر ميزانيتي بعد ان عرفت من أهل الحسابات كم سيكون دخلى فخططت لاشتري سيارة صغيرة بقرض مصرفي محدود يتماشى مع أجري الشهري ولابد ان يوافق عليه السفير رئيس البعثة ... الخ .. وكان همي الاكبر ان التحق بجامعة بروكسل الحرة للحصول على شهادة عليا ولتجويد لغتي الفرنسية التي عدت بها من باريس وجعلت مني مترجماً شبه محترف في رئاسة الوزارة طوال عامي 1968-1969 الى جانب زملائي محمد المكي ابراهيم والمرحومين يوسف مختار وطه ابو القاسم اما خامسنا هاشم التني فقد عاد لباريس في وظيفة سكرتير للسفارة لكنه لم يستمر فيها كثيراً فأعيد إلى الخرطوم واستبدل بيوسف مختار .. من المهام التى اذكرها لبعضهم ان يوسف سافر مع الرئيس أزهري الى كاتنقا واتانا بقصص مسلية ومحمد المكي شارك في اجتماع لجنة التحرير الافريقية في دار السلام ولا زلت أذكر حين عودته اهداني قميصاً افريقياً مزركشاً كان يلفت أنظار ناس الخرطوم حين ارتديه واقدل في مقهى اتينية الراقي وسط الخرطوم بينما كلف طه ابوالقاسم بمرافقة السفير النور على سليمان في مهمة هى الاولى من نوعها تمثلت في الإشراف على إخلاء مجموعة من المرتزقة الأوروبيين من موقع كانوا يحتلونه على الحدود بين رواندا والكونغو (مزرعة ومصنع للشاي) وكنت من جانبي حريصاً ان ارى هؤلاء الذين كانوا في ذلك الزمان يمثلون بعبعاً للبلاد الافريقية حديثة التكوين والاستقلال واخترت لنفسي موقعاً على أرض المطار عندما هبطت الطائرة التى كانت تحملهم في طريقهم الى بلجيكا .. كان الوقت نهاراً والحر كالعادة شديداً وقوات من الجيش السوداني تحيط بالطائره عند هبوطها وكل إنسان يطلق لخياله الظنون .. لم يسمح لهم بالنزول ولكن فتحت لهم نوافذ الطائره التى تشبه الابواب كانوا بضع عشرات من الرجال البيض معهم نساء افريقيات وبعض الأطفال المتيس Metisse ( الهجين) كان يبدو عليهم الإرهاق والمعاناة تزودت الطائرة بالوقود ثم غادرت بعد ذلك بوقت غير طويل غادرنا الاخ طه منقولاً لبانقي عاصمة افريقيا الوسطى بينما استعد الاخ محمد المكي للسفر لتشيكوسلوفاكيا مع افتتاح السفارة السودانية الجديدة هناك واستعديت انا للسفر لبلجيكا (كما ذكرت قبل قليل) ..
ولكن ولكي لا انسى ونحن نتحدث عن المرتزقه ان اقول انني وانا سفيراً لدى بلجيكا في أواخر الثمانينات ان جاءني خطاب من شخص عرف نفسه بأنه مرتزق محترف عرض عليّ كممثل للسودان خدماته العسكرية في الحرب الجارية في جنوب البلاد نظير أتعاب مالية يتم تحديدها بالتفاوض .. لم استغرب وجود مثل هذا الشخص في بلجيكا اساساً وفرنسا والمانيا وغيرهما فهم افراد وجماعات منظمون ينطلقون من مفاهيم متنوعة وارث تاريخي قديم .. تأملت خطاب الرجل قليلاً ولم اتخذ قرار اً بالرد عليه او تجاهله لان الذي حدث كان أكبر ارتزاقاً . فبعد أسابيع قليلة قفزت مجموعة مغامرة على السلطة في الخرطوم واستولت على السودان كله وحكمته 30 عاماً حسوماً لا اظن ان ذلك المرتزق الأوروبي المحترف كان سيكون أكثر سؤاً منهم .. فصلوني من وظيفتي في شهرهم الاول وعبثوا بعد ذلك بكل شيء كنا نؤمن به او نتوق اليه في حياتنا الدبلوماسية . ولكن مع تحملنا في صبر وعناد لما اقترفوه بحق بلادنا واهلنا الطيبين فأنني لم اكن اتصور ان يصبح السودان اكبر مصدر للمرتزقه وبالجملة لليمن واخرون في ليبيا الله اعلم بهم ليحاربوا أهل تلك البلاد المغلوبين على أمرهم نظير دراهم او ريالات بخسة ..
المهم ان المرتزقة الأوروبيين موجودون و ينشطون من آن لآخر وتقف وراءهم بعض المصارف وشركات المعادن والبترول ولعل بعضكم اعزائي القراء يذكر مشاركة ابن رئيسة وزراء بريطانيا السيدة مارجريت تاتشر في تمويل واعداد مجموعة من المرتزقة على رأسهم ضابط بريطاني متقاعد من القوات الخاصة عالية التأهيل حاولوا الاستيلاء على الحكم في البلد الصغير الغني بالبترول المسمى جمهورية غينيا الاستوائية ( المستعمرة الاسبانية الوحيدة في أفريقيا جنوب الصحراء ) ولكن لسوء حظهم تعطلت احدى طائراتهم في زيمبابوي وتم القبض عليهم وكانت فضيحة مدوية ) جرى هذا في مطلع هذه الألفية وليس في ستينات القرن الماضي عندما عبث المرتزقة البيض وصالوا وجالوا في كثير من البلاد الأفريقية قد تذكرون أنه كان أن تم القبض على أحدهم ألماني الجنسية يدعى اشتاينر وجرت محاكمته في الخرطوم عام 1970 واحترنا وقتها نحن الموجودون في خط النار حين ابرقتنا وزارتنا بأن " نعمل حسابنا " من الاختطاف انتقاماً وربما مساومة لذلك الرجل الذي أمضى فترة قصيرة حبساً واطلق سراحه وُرحل الى بلاده.. واخيراً ظهر المرتزقة الروس في ليبيا وعلى حدودنا مع جمهورية افريقيا الوسطى بموافقة من النظام البائد ويحملون للاسف اسم الموسيقار الألماني الشهير فاغنر..
عاد الرئيس اسماعيل الازهري الى الخرطوم وبقيت انا في كمبالا لاكمل اجازتي بين دول شرق افريقيا التى لم يسبق لي ان رايتها .. ركبت القطار الى نيروبي ثم واصلت رحلتي براً الى ممباسا الواقعة على ساحل المحيط الهندي ثم ببص سياحي الى تنزانيا توقف بنا كثيراً بسبب الامطار الغزيرة والوحل حتى عبرنا الحدود مشياً على الأقدام قبل مدينة تانقا ثم واصلنا رحلتنا حتى عاصمتها دارسلام التي استضافني فيها زميلى عمر شونة عليه رحمة الله .. تعرفت في هذه الرحلة على الاخ الاستاذ الزين علي ابراهيم وزوجته وكانا عرسان في بداية حياتهم الزوجية وبعد اسبوع هناك سافرت بالطائرة الى زنزيبار كما رويت في بداية هذه الحلقة ..
ما لم اقم بذكره هو أن من كان في وداعي في محطة القطار في كمبالا هو الأخ المقدم "آنذاك" عبد الرحمن محمد حسن سوار الدهب الملحق العسكري في يوغندا كنت قد التقيته أول مرة في ذلك اليوم بمنزل السيد السفير محمد عثمان شندي الذي أقام مأدبة عشاء على شرف الرئيس الازهري إلا انه عجل بالعودة الى السودان .. كما تعرفت في نفس الامسية على مهندس الري الشهير والوزير فيما بعد مرتضى احمد ابراهيم الذي كان مقيماً هناك في إطار عمله كما كان معنا في نفس الامسية كل من الوزير نصر الدين السيد والصحفي عبد الله عبيد .
ولكن ما أن أصبح الصبح إلا فأتانا الخبر المفجع ... انقلاب عسكري أطاح بالديمقراطية قاده عقيد اسمه جعفر محمد نميري شملت حكومته التى أعلنت في نفس اليوم المهندس مرتضى احمد ابراهيم وزيراً للري وفي مجلسه العسكري الرائد مامون عوض ابوزيد رفيقنا في الرحلة في معية اللواء احمد الشريف الحبيب قائد القيادة الجنوبية اما نصر الدين السيد الذي غادر كمبالا الى جمهورية افريقيا الوسطى مبعوثاً من الازهري للرئيس بوكاسا فقد سمته الاذاعه السودانيه الوزير الهارب بجانب حسين الهندي الذي نال لقب الشريف الهارب ..
أكملت رحلتي عبر أديس أبابا ثم الخرطوم وواصلت الى الابيض لوداع اهلى قبل المغادرة الى بلجيكا حيث وجدت الاخ سوار الدهب في منزلهم مطروداً من الخدمة وقد أسفت فعلاً لذلك ولم نلتقي ثانيةً الا بعد 16عاماً وهو رئيس للدولة.. وبعد عودتي الى الخرطوم كانت المفاجأة الكبرى ان السفارة في بلجيكا قد قفلت ضمن القرارات الهوجاء غير المدروسة للثوار الجدد اهل اليسار الذين رأوا محاربة الرأسمالية وقاموا بقفل السفارات في كل من بروكسل وطوكيو وأثينا لكنهم قرروا فتح سفارات في كل من برلين الشرقية وبراغ ودمشق (تحيا الثورة) وبعد اسبوع واحد نقلت الى كينشاسا..
:والبقية تأتي..
*كينشاسا الجميلة La Belle وكينشاسا.... La Poubelle
*الأصالة والتأصيل وكيف صار الكونغو زائير
*قصة الهليكوبتر في كتابين
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.