شاهد بالفيديو.. كواليس حفل زواج الفنان عبد الله كنة.. إيمان الشريف تشعل الفرح بأغنية (الزول دا ما دايره) ورؤى نعيم سعد تظهر بأزياء مثيرة للجدل والمطربون الشباب يرقصون بشكل هستيري    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة شهد المهندس تشعل مواقع التواصل بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها بأزياء مثيرة للجدل ومتابعون: (لمن كنتي بتقدمي منتصف الليل ما كنتي بتلبسي كدة)    شاهد بالفيديو.. كواليس حفل زواج الفنان عبد الله كنة.. إيمان الشريف تشعل الفرح بأغنية (الزول دا ما دايره) ورؤى نعيم سعد تظهر بأزياء مثيرة للجدل والمطربون الشباب يرقصون بشكل هستيري    هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خلاصةُ الخلاصة: ما بين الثّقافة والأيديولوجيا .. بقلم: بروفيسور/ محمّد جلال أحمد هاشم
نشر في سودانيل يوم 07 - 02 - 2021


المصادر المعرفية للثّقافة والأيديولوجيا
وبعد؛ نختم هذا الكتاب بالحديث عن المصادر المعرفية Epistemological Sources لكلا الثّقافة والأيديولوجيا، كلٍّ على حدة. ويأتي حديثُنا هذا من قبيل ختم الكتاب بخلاصة الخلاصة فيما يتعلّق بالثّقافة من ناحية، والأيديولوجيا من النّاحية الأخرى. وتكمن أهمّيّة دراسة هذه المصادر في أن تناول الثّقافة دون تمييز واضح بينها وبين الأيديولوجيا يمكن أن تنتهي إلى مغالطات منهجيّة ومفهوميّة بخصوص الثّقافة نفسها. ويكمن خطر هذا التّوهان المنهجي والمفهومي في أنّه سوف ينتهي إلى سياسيات ضارة بالإنسان والمجتمع والدّولة معاً. أدناه سوف نحاول أن نساعد في الجهود المبذولة على مستوى الفكر الإنساني في سبيل تنقية المناهج والمفاهيم، وصولاً إلى فهم راشد ومن ثمّ سياسات راشدة. وعلى ما في هذه الخلاصة من تكرار لما سبق، فيها ما هو جديد من حيث دراسة مصادر الثّقافة من جهة ومصادر الأيديولوجيا من جهة أخرى.
مصادر الثّقافة
تتشكل نواة الثقافة عند الإنسان من مصدرين أساسيّين، الأوَّل منهما مادّي، والثّاني غير مادّي. المصدر المادّي هو البيئة الطبيعية المحيطة بالإنسان، حيث يقوم الإنسان بتحويل علاقته معها إلى وعي موضوعي بها وبعلاقته معها. المصدر غير المادّي هو الحق والجمال، أي الأخلاق القائمة على الحقّ. وتكمن أهمّيّة الحقّ هنا في أنه قيمة مستقلة عن ذاتيّة الإنسان، ولهذا تطورت عند الإنسان حتّى استقرّ عنده أن مصدرها الأصلي هو الذّات الإلهيّة، وما تمثُّل الإنسان بها إلا الجمال نفسه، ذلك لأنّ الإنسان يُجمِّل بها ذاته. وتكمن في استقلاليّة الحقّ عن ذات الإنسان قيمة أساسيّة عبرها يحقّق الإنسان إنسانيّته، ألا وهي قيمة الاستقلاليّة. إذ يتوجّب على الإنسان في تمثّله لقيم الحقّ أن يستقلّ بها في ذاته، وعندها يبدأ طريق طويل أمامه، ألا وهو ارتفاقُه بالحقّ المطلق وهو هو في حدّه المحدود.
المصدر الأوَّل يمكن التمثيل له بقطعة أرض وأمطار ونباتات تقوم، فيها ما ينفع الإنسان وما لا ينفعه. هذه هي البيئة التي تحيط بالإنسان الذي اتّخذناه مثالاً. هنا تنشأ علاقةٌ ما بين الانسان في تهوامه على الأرض وبين هذه البيئة، تبدأ بالتقاط ما ينفعه ريثما يقوم باستزراع ما ينفعه من نبات، ثم بعد هذا يقرر بمحض إرادته أن يستقرّ بهذه الأرض. هذا هو ما نسمّيه بالحقّ الملائمConvenient Right . جديرٌ بالذّكر أنّه في مجال الحقّ الملائم، تكون هناك قيمة حاسمة للأغلبيّة مقابل الأقلّيّة، تتعلّق بعمليّة تفويض السّلطة من مستواها القاعدي إلى مستواها السّياسي. أمّا المصدر الثّاني يمكن التّمثيل له بأرض بها أمطار وتنتج ما تنتج .. إلخ. فيفكّر الإنسان أن يستقرّ بها، لكنه يُحجم عن هذا لعلمه بأنّ هناك إنساناً آخر قد سبقه إلى هذه الأرض بموجب تمتُّع ذلك الإنسان بالحقّ الملائم الخاص به. بهذا يكون الإنسان قد قام بتطوير قيمة حقّ جديدة تتمثَّل في قيمة الحقّ الأعلى Supreme Right الذي هو نفسه يستمدّ وجوده من مصدر أعلى منه هو الحقّ المطلق Absolute Right الذي تمثّله الذّات الإلهيّة. في مجال الحقّ الأعلى، لا مكان للتّحجّج بقيم الأغلبيّة مقابل الأقلّيّة، ذلك لأنّها حقوق وجوديّة، وليست مجرّد حقوق ملائمة. وهذاما يتطوّر لاحقاً ليصبح ما يُعرف بالحقوق فوق الدّستوريّة Supra-constitutional Rights . والعلاقة جدلية ما بين هذين النّوعين من الحق، الملائم والأعلى. وعلى وجه التحقيق، فكلاهما يستمدّان مصدرهما من الحقّ المطلق ويرتفقان به في سعيهم للتّحرّر من المحدود واستشراف أوسع آفاق من الحرّيّة المطلقة.
مصادر الأيديولوجيا
أوَّل ما نلاحظه عن مصادر الأيديولوجيا هو أنّها تصدر من ذات الإنسان المحدودة، ثمّ تعمل على إعلائها لتبدو كذات عليا، ثمّ لاحقاً كذات مطلقة، وهذا بالطّبع لا يمكن أن يتحقّق إلاّ بخلق الوهم بذلك. فالإنسان الإديولوق Ideologue ينطلق من الحقّ الملائم Convenient Right، فيجعله حقّاً أعلى Supreme Right ضربة لازمٍ، ريثما يُضفي عليها كل مخايل الحقِّ المطلق Absolute Right ضربة لازب. ويكمن خطل الأيديولوجيا هنا في أنّها تجعل الحقّ المطلق محكوماً بالحقِّ الأعلى حتّى يصبح في خاتمة المطاف محكوماً بالحقِّ الملائم. وبالطبع، كما أشرنا، هذا لا يمكن أن يتحقّق إلا بتوهّم ذلك.
استنتاجات أوّليّة
أول الاستنتاجات هو أنّ الثّقافة تعدّديّة المصدر (الحقّ الملائم + الحقّ الأعلى + الحقّ المطلق). هذه الثّلاثيّة مركّبة، بمعنى أنّ كلّ قطب في نفسه متعدّد. النّقطة الثّانية هي أنّ الثّقافة متفاعلة، ليس فقط داخل دائرة الحقّ الملائم (الإنسان والبيئة)، بل داخل دائرة الحقّ الأعلى بموجب المواقف النّاجمة عن التّفاعل الجدلي بين الحقّين وارتباطهما مع، وتراوحهما بين، الحقّ المطلق. النّقطة الثّالثة هي أنّ الثّقافة جدليّة، ذلك لأنّ الصّراع الجدلي بين الحقّ الملائم من جهة والحقّ الأعلى من جهة أخرى تنتج عنه جميع المؤسسات الاجتماعيّة والسّياسيّة، وطنيّاً وإقليميّاً ودوليّاً. النّقطة الرابعة هي أنّ الثّقافة تصنع الحياة عبر توليد الذّكاء الوجودي والشّخصي وترفيع حساسيّة الشعور والعاطفة.
أمّا إذا جئنا إلى الأيديولوجيا، فنلاحظ أنّها ليس فقط أحاديّة المصدر، بل أيضاً خطّيّة المسار Linear لأنّها غير متفاعلة، ولهذا تتّجه دالّتُها نحو الإقصاء بموجب الحقّ الملائم، وليس بموجب الحقّ الأعلى، دع عنك الحقّ المطلق (تحديدات وعقوبات الدساتير والقوانين). وعليه، تصبح الأيديولوجيا غير جدليّة. وعلى هذا، فالأيديولوجيا ليس فقط تقتل الحياة ولا تصنع الذّكاء، بل تعمل على تحويل الذّكاء الوجودي والشّخصي إلى حالة من الغباء هو ما أسميناه بالغباء الأيديولوجي وتبلّد الشّعور.
خطورة الأيديولوجيا
كما سبقت إلى ذلك الإشارة، الأيديولوجيا، في أشهر تعريفاتها، هي وعي زائف يعمل على تزييف الواقع. بهذا يمكن ىالنّظر إلى الأيديولوجيا على أنّها عبارة عن فيروس Virus يعيش داخل الثّقافة لا بوصفها حاضنة له، بل بوصفها هدفاً له، يهاجمها ويعمل على قتلها. ولهذا تملك الأيديولوجيا قدرة كبيرة في تبرير أفظع أنواع السّلوك وأكثرها إجراماً وهمجيّةً. إلا أنّ أخطر ما في الأيديولوجيا هو أنّها تتخفّى داخل الثّقافة وتتظاهر بأنّها ثقافيّة، وبالتّالي تسافر عبر الثّقافة في فضاء الزّمان والمكان. وهذا ما يجعلُها تسافر أيضاً عبر الميم Meme. وهكذا تنحو الأيديولوجيا لأن تتصرّف بوصفها ثقافة إلى أن تكشف عن وجهها الحقيقي بوصفها فيروس يهاجم الثّقافة ويعمل بطريقة مضادّة للثّقافة. على هذا، تتّصف الأيديولوجيا بالمراوغة والمخاتلة، ذلك لأنّها تكشف عن رأس جليدها، بينما غالب جسدها مخفي تحت مياه الثّقافة العذبة. غالب الجسد هذا هو ما نطلق عليه مصطلح "الخلايا النّائمة" للأيديولوجيا، وهي أخطر عناصر الأيديولوجيا.
الثّقافةُ خيرٌ محض والأيديولوجيا شرٌّ بحت
أحد أهم الخلاصات التي نخرج بها هو أن الثقافة مطلقاً هي خير محض، وما من شرٍّ التبس بها إلا وكان ذلك أيديولوجيا. فبينما للثّقافة جانبُها المادّي في مواجهة جانبها غير المادّي، ذلك بأنّها تعدّديّة، للأيديولوجيا جانب واحد هو الجانب المادّي، ذلك لأنّها أحاديّة. وعليه، لا يوجد شيء اسمه الهيمنة الثّقافيّة أو القهر الثّقافي إلخ، إلاّ من باب المجاز. فكلّ هذا أيديولوجيا ليس إلاّ! ويعني هذا أنّ العنف المادّي ليس من الثّقافة في شيء، بل هو محض أيديولوجيا تلتبس بالثّقافة، ولو تدثّرت بدِثار إحقاق الحقوق.
الشّيء الآخر هو أنّ الثّقافة، ليس فقط لا تُهزم، بل هي لا تنفد كما لا تُستحدث من العدم. فمهما اشتدّت وطأة الأيديولوجيا على الثّقافة، فإنّ الغلبة النّهائيّة تكون للثّقافة. انظر كيف انتصر الرّومان بالأيديولوجيا وعنف الدّولة على اليونان، هذا بينما انتصرت الثّقافة اليونانيّة وسادت على الأيديولوجيا الرّومانيّة. ولولا هذا الانتصار للثّقافة، لما قامت للرّومان قائمة حضارةٍ تُذكر. وكذلك انظر وتأمّل كيف انتصرت العرب بالأيديولوجيا وعنف الدّولة على الفرس، بينما انتصر الفرصُ على العرب بالثّقافة. ليس هذا فحسب، بل نتج عن تفاعل الثّقافة العربيّة والإسلاميّة مع الثّقافة الفارسيّة المجوسيّة من جانب، وتفاعل الثّقافة العربيّة الإسلاميّة مع الثّقافة الهيلينيّة المسيحيّة من جانب آخر ما نطلق عليه بحقّ الآن اسم "الحضارة الإسلاميّة".
مؤسّسة الدّولة ما بين الثّقافة والأيديولوجيا
الدّولة التي نعنيها هنا تحديداً هي الدّولة الوطنية التي تأسّست بموجب اتفاقية ويستفاليا في عام 1648م بين جمهورية الأراضي المنخفضة والإمبراطوريّة الرّومانيّة المقدّسة. هذا بالرّغم من أنّ ما سنقوله هنا عن الدّولة يتعلّق في جانب كبير منه بمؤسّسة الدّولة في كل مراحل ما قبل اتّفاقيّة ويستفاليا. قامت مؤسّسة الدّولة الوطنيّة على أساس أنّها تستمدّ سلطاتها من الأرضي Secular، أي من المواطن، وليس من المقدّس Divine، أي التّفويض الإلهي كما كانت البابويّة تدّعي. وعلى هذا أصبحت الدّولة عَلمانيّة من ناحية بنيويّةstructurally secular . بهذا أصبحت العَلمانيّة شرطاً بنيويّاً أساسيّاً لن تقوم للدّولة الوطنيّة قائمة إذا هي فقدت خاصّيّتها البنيويّة هذه. وهذا يعني أنّ العَلمانيّة فيما يتعلّق بالدّولة الوطنيّة، ليست فكرة يؤمن بها شخص ليكفر بها شخص آخر. بل هي ضرورة بغيرها سوف تتفكك الدّولة الوطنيّة ضربة لازم By Default.
وعلى هذا قامت الدّولة الوطنيّة على أساس جدلي هو تراوحها ما بين المواطنة (أساس الحقوق بصرف النّظر عن الجنس أو النّوع أو الضّمير) من جانب، وبين التّماثل إثنيّاً ولغويّاً وعقديّاً. العامل الأوّل للوطنيّة يقوم على منظور الوحدة في التّنوّع، بينما العامل الثّاني يقوم على منظور بوتقة الانصهار. وهنا توجد العقبة التي يقف عندها حمار الشّيخ! فبينما المنظور الأوّل ثقافي بحت، يبدو أنّ المنظور الثّاني أيديولوجي بحت. إلاّ أنّ الأمر ليس كذلك! فكلا المنظورين ثقافيّان، مع فارق أساسي هو أنّ منظور بوتقة الانصهار هو التّكتيك الذي تتّبعه الأيديولوجيا لتحوير جسم الثّقافة بغية تسميمها وقتلها. وهذا يكشف لنا كيف أن مؤسّسة الدّولة الوطنيّة نفسها ظلّت ملتبسة بالأيديولوجيا منذ نشوء الدّولة لسبب بسيط، ألا وهو أنّ منظور بوتقة الانصهار ظلّ هو العمليّة التي عبرها تحقّق الدّولة منذ نشوئها الوحدة الدّاخليّة الضّروريّة لتماسكها تمكينها من التّوسّع في نفس الوقت. فقد ظلّت تستند على منظور بوتقة الانصهار بوصفه المنظور الأوحد لبناء لُحمتها وسَداها عبر التّاريخ، إلى ما بعد نشوء الدّولة الوطنيّة، بل وإلى يومنا هذا. وهذا يكشف كيف يمكن للأيديولوجيا أن تختطف أحد قوائم الثّقافة وتحوّله إلى شيء مضاد للثّقافة تماماً. وهذا يكشف لنا بدوره كيف أن عنف الدّولة عبر التّاريخ قام على الأيديولوجيا، ولم يقم على الثّقافة. فالعنف مصدره المعرفي هو الأيديولوجيا ولو جاء مبرّراً بنُشدان العدالة.
الدّين والعَلمانيّة: ما بين الثّقافة والأيديولوجيا
الدّين هو الضّمير! والضّميرُ له بعدان: فردي وجمعي. الفردي يكمن داخل قلب العابد، بينما الجمعي ينداح وينتشر في الثّقافة. وبهذا تصبح الثّقافة العامّة قادرة على تربية الإنسان عبر المثاقفة Acculturation وتشريبه بالقيم العليا، حتّى في الغياب التّام للأسرة. وإنّما لهذا يقوم تديُّن العابد على الفردانيّة من حيث الممارسة والتّوسّل ومن حيث الجزاء عند الرّب المعبود. فمثلاً، ليس هناك عقوبة للمسلم الذي يأكل لحم الخنزير أو لحم الميتة أو ما أُهِلّ لغير الله، وجميعُها محرّم نصّاً بالقرآن، ومع هذا لن تجد أشدّ تمسّكاً من عامّة المسلمين بتجنّبها كلّها. وكذلك صيام رمضان، إذ ليس هناك من رقيب على المسلم في ألاّ يجترع له جُرعةَ ماء خِفيةً بخلاف ضميره، ومع ذلك لن تجد أشدّ من عامّة المسلمين مراعاةً لحرمة الأكل والشّرب. فإذا قارنّا هذا مع المحرّمات الأخرى التي أُرفقت بالعقاب جلداً وقطعَ يدٍ ومن خلاف، ثمّ رجماً بالحجارة، فلا يمكن أن تزعم بأنّك لن تجد أكثر من عامّة المسلمين تجنّباً لها. والفرقُ هنا واضح ما بين الإسلام الدّين (الضّمير)، وما بين الإسلام الدّولة (استخدام العنف والقوّة المادّيّة القسريّة). فالإسلامُ الضّمير فردي وثقافي في نفس الوقت، بينما الإسلام الدّولة يلتبس بالأيديولوجيا بدالّة تأدلُج قطاع كبير من المسلمين الذين ينحون إلى تسخيره تلبيةً لأغراضهم الدّنيويّة البحتة.
إلاّ أنّ أهمّ ما يمكن أن نلفت النّظر إليه هنا هو أنّ الشّعب، مطلق شعب (لاحظوا أنّ مصطلح "الشّعب"، بالفهم العلمي وليس القاموسي، مرتبط بنشوء مؤسّسة الدّولة الوطنيّة)، لا يمكن أن يعيش بلا ثقافة، بينما يمكنه أن يعيش بلا أيديولوجيا (بل يجب على جميع الشّعوب أن تعمل ما بوسعها لتتحرّر من الأيديولوجيا). وبالطّبع، لا يمكن أن تكون هناك ثقافة دون أن تكون هناك أديان. فالدّين يُعنى أوّل ما يعنى بالضّمير، ولا ثقافةَ بلا ضمير. هذا بينما تقوم الأيديولوجيا بتخدير الضّمير وقتله، ذلك عبر قدرتها على تبرير أفظع الجرائم والانتهاكات. ويعني قولُنا بالعَلمانيّة البنيويّة للدّولة هي أنّ العَلمانيّة ليست شرطاً لازماً للثّقافة ولا للإنسان، بينما هي شرط بنيوي لازم لمؤسّسة الدّولة.
الحداثة وما بعد الحداثة: التّراوح بين الثّقافة والأيديولوجيا
الحداثة وما بعد الحداثة تنتميان للثّقافة! والحداثة هي القيم الإنسانيّة التي ارتفعت إلى مستواها البشريّة منذ عصر التّنوير، ما بين مدٍّ وجزر، إلى أن تمّ تتويجها بإلغاء الرّق وعدمة شرعنة الاستعمار الاحتلالي، ثمّ حقّ الشّعوب في تقرير مصيرها، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وما تلا ذلك من منظومات وحزم حقوقيّة تواضعت عليها البشريّة. وما يجعلها تنتمي لعصر الحداثة هو صفتُها الإطلاقيّة Absolute Value. هذه ثقافة وخير محض، إلاّ أنّ اشتباك الأيديولوجيا معها يظهر في النّازيّة والفاشيّة وكلّ مظاهر الاستعمار الجديد Neocolonialism، وما يشمل من عنف الدّولة ضدّ دولة أخرى، بجانب العنصريّة وجميع خطابات الكراهيّة.
أمّا ما بعد الحداثة فتّتصف بنسبيّة القيمRelative Value . وقد بدأت مرحلة ما بعد الحداثة باكتشاف النّظريّة النّسبيّة Theory of Relativity وفيزياء الكم Quantum Physics أخريات القرن التّاسع عشر. وقد استغرقت قيم ما بعد الحداثة فترة طويلة نسبيّاً في أوروبّا التي أنتجتها، هي معظم فترة القرن العشرين كيما تتجلّى ثقافيّاً وتنتقل من المعامل والنّظريّات الرّياضيّة والفيزيائيّة لتصبح قيماً اجتماعيّة وتسود على قيم الحداثة. ولكن، رغم هذا، لا تزال الحداثة تصارع ما بعد الحداثة في النّصف الأوّل للقرن الحادي والعشرين.
ما بعد الحداثة ثقافة وهي بالتّالي خير محض، كونها نتجت عن التّطوّر الطّبيعي للقيم في فضاء علمي وثقافي. أمّا الأيديولوجيا التي تشتبك مع ما بعد الحداثة فهي العولمة Globalization التي ليست سوى مشاريع تستغلّ التّقدّم التّكنولوجي (نفس السّلاح الذي استخدمته من قبل النّازيّة والفاشيّة)، لتحقيق السّيطرة على العالم، متدثّرةً خلف قيم ما بعد الحداثة الثّقافيّة والأخيرةُ منها براء. فهي، مثلُها في ذلك كمثل أيّ أيديولوجيا، لا تستطيع إلاّ أن تسافر عبر الثّقافة، فتسمّمُها وتقتُلها. وتفعل العولمة هذا عبر تجريد ما بعد الثّقافة من أهمّ خاصّيّة قيميّة تمتاز بها، ألا وهي نسبيّة الأحكام.فالأيديولوجيا مطلقة، وتصفويّة Eliminatory، لا تعرف الحلول الوسط، كما لا تعرف نسبيّة القيم.
انطلق فكر ما بعد الحداثة من عدّة مدارس فكريّة اجتماعيّة لتلتقي في الثّقافة. في منهجه الظاهراتي Phenomenological Approach انطلق بيتر بيرقر Peter Berger، وآخرون، لتأسيس منهجه الثّقافي بأنّ الإنسان، انطلاقاً من فرديّته، يختلف عن باقي الأنواع في كونه باني ثقافة Cultural Constructor تصبح هي الواقع The Reality الذي يعيش عليه متراوحاً في هذا بين فردانيّته وجماعيّته. في جانب آخر نجد أنّ ماري دوقلاس Mary Douglas، وآخرون، بوصفها عالمة أنثربولوجيا ثثقافيّة، قد ركّزت جهودها لتبيان الطّبيعة التّعدّديّة للثّقافة، بعكس الطّبيعة الثّنائيّة التي ذهب إليها دوركايم Durkheim وآخرون. ضمن هذا، نظرت إلى الدّين بوصفه ثقافة.
إلاّ أنّ أكبر تطوّر حدث في هذا المضمار كان من نصيب إثنين يعتبران من ‘مدة فكر ما بعد الحداثة والتّحليل الثّقافي، أولّهما هو هابرماز Habermas والثّاني هو فوكوFoucault . فالأوّل انتقل، في منهجه الثّقافي، من الثّقافة في عمومها ليركّز على اللغة بوصفها أداة الثّقافة الأساسيّة. وبهذا صار لدينا الثّقافة (بوصفها بنية وعي قائمة بذاتها، ومتعدّدة المكوّنات بما في ذلك الدّين والاقتصاد .. إلخ، ذلك بحسب منظور بيتر بيرقر وماري دوقلاس وآخرين)، بينما تقف الأيديولوجيا في الجهة الأخرى. ما فعله هابرماز هو الاقتبار خطوة نحو الأيجيولوجيا باتّخاذه اللغة بنية وعي قائمة بذاتها.
والسّبب في هذا، كما نرى، لأنّ اشتباك الأيديولوجيا مع الثّقافة يحدث في فضاء اللغة. فالأيديولوجيا دون اللغة، تصبح بلا أيّ فاعليّة في تسميم الثّقافة والعمل على قتلها لاحقاً. ذلك لأنّ الأديديولوجيا تستخدم اللغة لتزييف الوعي عبر التأليب وتحويل الإنسان الثّقافي إلى شخص غوغائي. ولهذا ظللنا في كلّ طبعات كتبنا نُشير إلى أهمّيّة الكلمة الملفوظة Word of Mouth في عمليّة تداول السّلطة. وكما أشرنا كثيراً، الغوغائيّة ليست صفةً جينيّة، بل هي حالة من حالات الجنون اللحظي أو المستمرّ؛ فأنت قد تجد شخصاً يتكلّم بكلّ عقلانيّة في كلّ المواضيع، ولكن، مثلاً، ما إن يبين اختلافك معه في قضيّة تمثّل له حساسيّة (مثل الدّين)، حتّى يفقد هذا الشّخص كلّ مخايل العقلانيّة ويتحوّل إلى شخص غوغائي. ويمكن تلخيص المسألة في أنّ الأيديولوجيا تقوم بتوظيف اللغة لتغبيش الوعي وتزييفه، بالضّبط كما فعل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب عبر خطاباته بتزييف وعي ملايين الأمريكيّين وإيهامهم بأنّ انتخابات الرئاسة لعام 2020م قد سُرقت منه عبر التّزير دون أن يملك دليلاً واحداً على ذلك.
أمّا الثّاني، فوكو، فقد انطلق من الأيديولوجيا وكلّ عنف الدّولة والمؤسّسات القمعيّة ليقترب خطوة نحو الثّقافة، ذلك بابتداعه مفهوم الخطاب Discourse. فالخطاب عنده هو آليّة ضبط عاقلة، ما يعني أنّه يقوم على الثّقافة، أكثر ممّا يقوم على آليّات العنف. والخطاب إذ يفعل هذا، إنّما يفعله عبر اللغة وليس عبر استخدام القوّة المادّيّة القسريّة. وإنّما لهذا، وغيره من أسباب، ستخدم البعض مصطلح "أيديولوجيا" في معرض الإشارة إلى الفكر، والفكرُ ليس أيديولوجيّاً بل هو ثقافي. وهذا الاستخدام أيضاً من باب المجاز.
بهذا، وعبر الثّقافة والعمل على تحريرها من الأيديولوجيا، تمكنّا من أن نصنع لنا منطقة وسطى ذات خصائص جدليّة تقوم على اللغة في جهة والخطاب في الجهة الأخرى. لقد طرح الانتقال من الثّقافة إلى اللغة ثمّ من الأيديولوجيا إلى الخطاب تحدّياً كبيرا تمثّل في كيفيّة استخدام اللغة لخلق الوعي، ثمّ لتكريسه عبر تحويل المفهوم إلى خطاب يحرس نفسه بنفسه، دون أيّ تزييف للواقع أو تزييف الوعي، ليس فقط دون حاجةٍ للأيديولوجيا، بل لمحاربة الأيديولوجيا وتحرير الثّقافة منها.
هنا برزت مدرسة التّفكير النّقدي School of Critical Thinking بقيادة مجموعة من مفكّري ما بعد الحداثة، على رأسهم ريتشارد بول Richard Paul بجانب مدرسة جامعة ويندسور Windsor بكندا تحت قيادة رالف جونسون Ralph Johnson وأنتوني بليرAnthony Blair . إذ كان من الضّروري أن يتمّ وضع قواعد التّفكير السّليم عبر استخدام اللغة، ذلك عبر منطق جديد لا يقوم على المنطق الصّوري Formal Logic الأرسطي. وهكذا ظهر المنطق اللاّصوريInformal Logic . وبهذا بلغت مدرسة التّحليل الثّقافي أعلى درجة من النّضج والتّبلور حتّى.
في هذا، كان رفدُنا، على أهمّيّته متواضعاً، هذا مع ضرورة أن نضع في الاعتبار حقيقة أن التّحليل الثّقافي، مضموناً ومصطلحاً، قد تطوّر عندنا بدرجة كبيرة للغاية وهو بمعزل عن هذه التّأثيرات الدّوليّة، ليلتلحم معها على أُخرةٍ ليكشف عن التّناص Texualiztion في أروع أشكاله، ثمّ ليزدادَ نصاعةً ونجاعةً. واليوم، إذ لم يبقَ في العمر الكثير، بجانب إيماننا بأنّ للفكر أيضاً سنّاً معاشيّة، يحدونا الأمل الكبير في الجيل الثّاني والثّالث من مفكّري ومبدعي ما بعد الحداثة الآفروعموميّين في السّودان الذين يسبحون في نهر المنهج الثّقافي، موّار الأمواج، شديد التّيّار سريعه، من قبيل أبّكر آدم إسماعيل، عبدالله الفكي البشير، إستيلا قايتانو، قصي همرور، نجلاء التّوم، وفاروق عثمان؛ ثمّ من الجيل الثّالث، من قبيل عمرو صالح يسن، معتصم كركاب، زينب محمّد صالح، متوكّل دقّاش، وعثمان عبدالله وآخرين لا يسع المجال لذكرهم كلّهم فلهم العتبى.
الاستقلاليّة وما بعد الحداثة
الاستقلاليّة هي القدرة على تجاوز الدّوافع الأولى التي شكّلت القالب السّلوكي واستخدامه بشكله الذي تطوّر عليه للتّعبير عن قيم أخرى، حديد أو أصيلة، لكنّها ليست ذات القيم الأوّليّة التي أدت إلى بلورة القالب السّلوكي. وعليه، في عصر ما بعد الحداثة، واشتباكها مع أيديولوجيا العولمة، تبرز الاستقلاليّة كديناميكيّة وآليّة (في نفس الوقت) للتّحرّر من التّبعيّة. فالقوالب السّلوكيّة التي تأتيني من قبل ما بعد الحداثة كثقافة مشتبكة مع أيديولوجيا العولمة، يمكن عبر الاستقلاليّة أن نحرّرها من الأيديولوجيا عبر الاستقلال بها عن عوامل نشأتها الأولى، وبالأخصّ العوامل الأيديولوجيّة، دون أن يعني هذا تقبّل الوظائف الثّقافيّة التي أدّت إلى نشوئها. فهذه يمكن القبول بها كما هي، كما يمكن تحويرها وإعادة تشكيلها، إلاّ أنّ أثبتته التّجارب هو أنّها تخضع لعمليّة تمثيل ثقافي كبيرة من خلالها تكتسب استقلاليّتها وأصالتها.
الأيديولوجيا الإسلاموعروبية
هذه الأيديولوجيا شيء مختلف تماماً عن كلا الإسلام والعروبة، ولو كانت هناك وشيجة تجمعها بهما بحكم من يدّعون إسلاميّتها وعروبيّتها ويزعمون بذلك. فمصدر الإسلام الأوّل هو القرآن، وهو ما تركه النّبي محمّد. والإسلام بهذا ليس سوى ثقافة! فالدّين، مطلق دين، يبلغ أعلي درجاته مجتمعيّاً بأن يصبح ثقافة. أمّا الحالة التّعبّديّة، فهي، كما أشرنا، فرديّة وليست مجتمعيّة. وعندما توسّعت دولة العرب تحت راية الإسلام وتخالط العرب مع الشعوب التي حولهم، عندها أرادوا، بوصفهم عرباً، أن يبسطوا سلطتهم على هذه الشعوب، لا بوصفهم مسلمين. فكان ما يُعرف بالموالي. وبما أنّ تلك الشعوب قد دخلت الإسلام، فقد كان المفترض أن يتساووا مع العرب. ولهذا لم يكن القرآن مفيداً للعرب في بسط سلطتهم كعرب على الشعوب التي دخلت الإسلام. وهذا ما دفع العرب إلى ابتناء وتأليف عدد غير محدود من الأحاديث المنسوبة للنّبي محمّد في سبيل تكريس السّلطة الزّمنيّة التي حصل عليها العرب، وهذا ما أفضى لاحقاً إلى تبلور السّنّة بحسب ما نعرفه عنها الآن. فقد نشطت حركة تأليف وجمع الحديث، حقيقةً أو اختلاقاً، بعد القرن الأول الهجري، أي بعد الفتوحات التي ضمّت فارس والهند ومصر والشام وشمال أفريقيا إلخ. وقد بلغ الأمر درجة أن يذهب بعض الفقهاء إلى نسخ القرآن بالسّنّة. فبعد ترفيع المرويّات عن النّبي محمّد لدرجة أن تلي القرآن، تمّ ترفيعها من قبل البعض أكثر من ذلك بحيث وضعوها في مرتبة واحدة مع القرآن إلى أن بلغ بالبعض منهم أن رفعوها فوق القرآن ينسخون بها آي القرآن.
ولهذا لم تقبل تلك الشّعوب غير العربيّة بهذا، فكانت الشّعوبيّة. وكان كلُّ هذا في مبتدره، من جانب العرب، أيديولوجيا تلبّست لبوس الثّقافة، بينما هو في مبتدره عند الشّعوب غير العربيّة ثقافة التبست في عقباها بالأيديولوجا. بالطّبع، نحن هنا لسنا بصدد تناول السّنّة بقدر ما نحن بصدد كشف العامل الأيديولوجي في اختلاق كمّيّة ضخمة من الأحاديث المنسوبة للنّبي محمّد. وكما نعلم، انتشرت هذه الظّاهرة للدّرجة التي اقتضت أن يتصدى قطاع كامل من المسلمين للتّحقّق ممّا يرويه المحدّثون منسوباً للنّبي محمّد.
وهكذا ظهرت الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة للوجود وهي تستبطن داخلها كلّ أدوات العنف والإقصاء، تمييزاً على أساس الجنس والنّوع والضّمير، ليس بين المسلمين وعداهم فحسب، بل كثر من ذلك بين المسلمين أنفسهم. ثمّ دخلت الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة إلى السّودان في ركاب الثّقافة العربيّة والإسلاميّة الكريمتين مع طلائع كرماء العرب المهاجرين. فكما قلنا، فالأيديولوجيا تسافر عبر الثّقافة في فضاء الزّمان والمكان.
الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة في السّودان
عندما دخلت الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة للسّودان، كانت قد تشرّبت تماماً بجملة تحيّزات ضدّ اللون الأسود وضدّ التّعدّد؟ فبالنّسبة لها، السُّود هم عبيد يجوز استرقاقهم، وغير المسلمين كفّار يجوز غزوهم وقتلهم واسترقاقهم. هذا بالرّغم من أنّ بلاد النوبة لم تكن دار حرب. وعندما تهيّأ السّودانيّون للتّحوّل إلى الإسلام والعروبة كحالة تلاقح ثقافي حرّ وإيجابي، حدث مع هذا شيء خطير للغاية. فقد أصبحت الأسلمة والاستعراب، بوصفهما ينتميان إلى حرائك الأيديولوجيا وليس الثّقافة، بمثابة حجر الرّحى في علاقات السّلطة. فالاستعراب (وليس التّعرُّب) أصبح شرطاً لازماً للحصول على السّلطة، وبالتّالي، ومن باب الضرورة، أصبحت الأسلمة (وليس الإسلام بالضرورة) الشرط اللازب للسّلطة.
وهكذا برزت للوجود ظاهرة اتّجاه شعب أفريقي أسود في غالبه الأعمّ نحو ابتناء الانساب العربية باختلاقها، مع إعلان الإسلام بوصف كلّ ذلك شرطاً واجباً لنيل السّلطة. وهكذا برزت النّخب الحاكمة بوصفها تنتمي للأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة، وتتحامى الهويّة الأفريقية للبلاد ولغالب الشّعب. هذا هو المركز وهو مركز ذو أيديولوجيا إسلاموعروبيّة يعمل على تهميش الهويّة الأفريقية.
الأيديولوجيا وتأليب الغوغاء
للأيديولوجيا قدرة فائقة في تأليب القطاعات الاجتماعيّة الواقعة تحت تأثيرها. وهذا لا يتحقّق إلاّ عندما تبلغ درجة خضوع هذه القطاعات إلى مستوى تغيب معه كلّ مخايل الحسّ العام Commonsense بحيث يمكن تحريكها شطرنجيّاً. هنا تكون هذه القطاعات قد تمّ اختطافها. في هذه اللحظة، تفقد هذه القطاعات علاقتها بالثّقافة بصورة عامّة وبالفكرThought والتفكير النّقدي Critical Thinking ويصبح مجمل حراكها أدخل فيما يسمّى (مجازاً) بثقافة الرّجرجة، أو حراك الغوغاءMob Culture . وبالرّغم من أنّه لا توجد أيّ قيمة فكريّة أو أخلاقيّة تقف وراء تأليب الغوغاء، ذلك بحكم أنّ العملية كلّها أيديولوجيّة، إلاّ أنّ هذا التّأليب يتدثّر بدثار الأخلاق والقيم السّامية، وهي منه براء. ولهذا يعتمد تأليب الغوغاء بصورة أساسيّة على المزايدة على ذات الأخلاق والقيم السّامية. ثمّ تنطلق من هذا لتصل مرحلة الابتزاز إلى أن تصل درجة التّرهيب. في هذا السّياق يمكن الإشارة إلى أنّ التّنكيل بالمفكّرين والفلاسفة المسلمين عبر التّاريخ إنّما كان عبر تأليب الغوغاء.
وبما أنّ العملية كلّها محكومة بالأيديولوجيا، فإنّها تستضمن درجة عالية، ليس فقط من انعدام الوعي، بل أيضاً من تزييف الوعي وتغييب الفكر والتّفكير بصورة عامّة، دع عنك التفكير النّقدي. كذلك تتصف مواقف الغوغاء باليقينيّة الصّمديّة التي لا يعرف الشّكّ المنهجي سبيلاً إليها. وعليه، تشعر الغوغاء بثقة مطلقة، ليس فقط في صحّة مواقفها، بل وفي الأحكام وليدة اللحظة التي تصدرها. وهكذا يمكن للغوغاء أن ترتكب أفظع الجرائم دون أن يهتزّ لها أيّ ضمير. فالأيديولوجيا تبرّر أفظع الجرائم التي يندى لها جبين الإنسان صاحب الضمير الحيّ.
إلاّ أن أخطر ما يمكن أن ينجم عن تأليب الغوغاء أيديولوجيّاً هو عندما تتعرّض مؤسسات السّلطة للاختطاف من قبل أيّ أيديولوجيا. هنا تنفتح بوّابات الجحيم على مصراعيها. وهذا ما بلغته الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة في السّودان. وقد بدأت هذه المرحلة منذ أوّل يوم دخلت في الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة إلى السودان في ركاب الثقافتين العربيّة والإسلاميّة السّمحتين. ومن ثَمّ ظلّت هذه الأيديولوجيا تتقدّم وتصعد في مضمار السّلطة على حساب الثّقافتين العربيّة والإسلاميّة ولو كانت تتظاهر بأنّها ثقافيّة وبأنّها تعمل في سبيل خدمة هاتين الثّقافتين. وقد بدأت كفّة الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة ترجح على حساب الثّقافة بعد نيل السّودان لاستقلاله إلى أن تمّ تتويجها كبطلة المشهد السّياسي والاجتماعي العام بأخريات ستّينات القرن العشرين وصولا إلى تأسيس الدّولة الدّينيّة في عام 1983م وتكريسها بوصول نظام الانقاذ المباد للحكم. بهذا انطلقت الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة من عقالها وتحوّلت إلى ظاهرة وجائحة من الهوس الدّيني. وما الهوس الدّيني إلاّ شكل من أشكال الجنون المجتمعي.
ما بين الغوغاء والجماهير
هناك فرق جوهري ما بين الغوغاء وما بين الجماهير. فمصطلح "الغوغاء" ذو تحميلات أيديولوجية بحتة، هذا بينما مصطلح "الجماهير" ذو تحميلات ثقافيّة بحتة. ولهذا تثور الجماهير وتضرب بأرجلها الشارع وتتمكّن من إسقاط أعتى الأنظمة الدّيكتاتوريّة. هذا بينما تجتمع الغوغاء على التّدمير دون أي اتّجاه نحو، أو قدرة للتّعمير. ولهذا وصفهم الشّبلي بقوله: "الغوغاء هي الجماعة من النّاس إذا اجتمعوا، لم يُغلبوا؛ وإذا تفرّقوا، لم يُعرفوا". فبينما تتّجه دالّة الغوغاء نحو التّدمير مع انبهام الهويّة، تتّجه دالّة الجماهير إلى البناء وتحديد واكتساب الهويّة. فالغوغاء التي اقتحمت مبنى الكونقرس الأمريكي برعوا في التّدمير، هذا بينما لا تزال المؤسسات العدليّة تبذل كلّ ما في وسعها للتّعرّف عليهم، فما أصابت في هذا نجاحاً كبيراً بالنسبة للعدد الضّخم للغوغاء. وفي المقابل، نلاحظ في ثورة ديسمبر المجيدة كيف خرجت ملايين الجماهير كجحافل الليل والعواصف، لكن دون إحداث أيّ تدمير. أكثر من ذلك أنّ هذه الجماهير نحن من تلقاء نفسها إلى تنظيم نفسها بحيث يمكن تعريف قطاعاتها فيما عُرف بلجان المقاومة إلخ.
الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة هي منبع تيّارات التّكفير في السّودان
منذ تدشين السّلطنة الزّرقا (بمعنى "السّوداء")، نشب صراع خفي ما بين نمط التّديُّن الشّعبي من جانب ونمط التّديُّن الأورثوذوكسي من جانب آخر. النّمط الأوّل يعبر عن ثقافة المجتمع وعبقريّته في إحداث تشكيلة تفاعليّة ما بين الإسلام الوافد وبين الثّقافات السّودانيّة. أمّا النّمط الثّاني فهو يعكس تشكيلة ثقافية قائمة بذاتها، لكنّها تنتمي لمجتمعات أخرى بخلاف الثّقافة السّودانيّة. وعندنا أن قيام الدّولة الدّولة المهديّة وجملة فكرها المهدوي (وليس الثّورة المهدية بالضّرورة) تمثّل انتصار النّمط الثّاني على النّمط الأوّل. ومنذ ذلك التّاريخ ظلّت التّيّارات الأصولية التي تتّبع نمط التّديُّن الأورثوذوكسي في تنامٍ مضطرد على حساب المجموعات التي تتّبع نمط التّديُّن الشّعبي. وقد بلغت قمّة هذا في تكفير وتنفيذ حكم الإعدام بحقّ المفكّر الأستاذ محمود محمّد طه في يوم 18 يناير 1985م. وهي المرحلة التي لا نزال نعيش فيها حتّى اليوم.
وعليه، تنامي الحركات التّكفيريّة الذي نعيشه الآن، أكان ذلك على مستوى السّودان أم علي مستوى المسلمين جميعاً، يقع داخل الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة وعمليّات تزييف الوعي وتزييف الواقع، ثمّ الإقصاء الذي يبلغ مداه في تجريد المرء من حقّ الحياة بحجّة الكفر ومفارقة الملّة. وهنا علينا أن نتذكَّر حقيقة هامّة، ألا وهي أنّ التّكفير لا يوجد في القرآن، بل هو في المرويّات عن النّبي محمّد. فالقرآن لا يُشير إلى أيّ حكم يتعلّق، ذلك لأنّ الإسلام الدّين يقوم على الضّمير، بينما في الإسلام الدّولة، يصبح الإيمان بالإسلام أحد شروط حماية الدّولة، بينما أصبح عدم الإيمان بالإسلام شكلاً من أشكال الخيانة العظمى. وكل هذا حدث عبر المرويّات عن النّبي. وبالطّبع، لم تتوقّف مؤسّسة الدّولة على ما كانت عليه في القرن السّابع الميلادي؛ بل تطوّرت إلى بلغت مصاف الدّولة الوطنيّة غير المعنيّة بالضّمير، إذ تركت الضّمير للثّقافة والانفتاح والحرّيّة.
كيف نواجه الحركات التّكفيريّة وجائحة الهوس الدّيني؟
يحدّثنا التّاريخ بأنّك لا يمكنك أن تتحاور مع الهوس الدّيني والعنصريّة. فكما يقول المثل إنّك لا يمكن أن تعقلن الأشياء مع العنصريّة، يصحّ أيضاً القول إنّك، مهما فعلت، فلا يمكن أن تعقلن الأشياء مع الجنون you cannot reason with madness؛ فالعنصريّة شكل من أشكال الجنون. ويحدّثنا التّاريخ أن الهوس الدّيني والعنصري إمّا أن يسحقك، أو أن تقوم أنت بسحقه either it crushes you, or you crush it .
هذا ما يحدّثنا به التّاريخ! ولكن ليس للتّاريخ وصفة واحدة لا يعدوها إلى غيرها، وإلاّ لم يعد هو التّاريخ. فكما قلنا، إنّ التّاريخ ليس فقط هو الماضي، بل هو ثلاثي الزّمن يشمل الماضي والحاضر والمستقبل. فاليوم في عصر العولمة وما بعد الحداثة، مع الانتقال السّريع للمعلومات بحيث أصبح العالم مجرّد قرية في هذا العصر، يبقى التّعويل كبيراً على سرعة انتشار المعلومة المفكّرة التي تملك القدرة على تفكيك تصلّب وتحجّر الأيديولوجيا بحيث تنجاب غشاوتها عن العين وتستعيد الرؤوس عقلانيّتها وتتحرّر من جنون الهوس الدّيني والعنصري. هذا ما يُبقي جذوة الأمل فينا تتلألأ ذُبالتُها برغم رياح الأيديولوجيا العاتية التي تهبُّ الآن من كلّ حدبٍ وصوب. ففي النّهاية سوف تنتصر الثّقافة لا محالة، بينما ستنهزم الأيديولوجيا.
ما هو معيار لتحديد أنّ فقهاً دينيّاً بعينه ينتمي للثّقافة أم إلى اليديولوجيا؟
في رأينا أنّه لا بدّ من تحديد المعيار الذي عبره يمكننا أن نحكم بأنّ الأيديدولوجيا قد سيطرت على الدّين أم لا. وفي البدء لا بدّ من أن نُشير بأنّ تعبير "سيطرة الأيديولوجيا على الدّين" ليس سوى تعبير مجازي في حدّ ذاته. فالأيدديولوجيا، أيّ أيديولوجيا، لا يمكنها أن تسيطر على أيّ دي طالما كان ديناً. الأيديولوجيا تسيطر على الفهم الفقهي للدّين، ثمّ تخلق الوهم بأنّها قد سيطرت على الدّين نفسه، ولكن هيهات. وهذا هو مُناط استخدامنها للتّعبير على مجازيّته. المعيار، في رأينا، هو أنّه كلّما قلّت واضمحلّت حريّة التّفكير وحرّيّة التّعبير في أيّ فقه ديني، ذلك بأن تحتلّ المحرّمات والممنوعات، بجانب المحظورات، كلّ أو أغلب الصّفحة، كلّما كان ذلك مؤشّراً إلى أنّ الأيديولوجيا هي قد سيطرت على ذلك الفقه. ومن ثمّ تعمل الأيديولوجيا على خلق الوهم بأنّ هذا الفقه المُحرِّماتي هو الدّين وما عداه فالباطل. هنا نلاحظ أنّ حرّيّة التّعبير وحرّيّة التّفكير ومجمل الحرّيّات الأساسيّة الأخرى قد اضمحلّت وأصبحت تشغل هامش الصّفحة الرّئيسيّة التي تحتلُّها المُحرّمات والممنوعات .. إلخ. بهذا يتحوّل الدّين (ممثّلاً في مذهب فقهي بعينه، وليس على وجه التّحقيق الدّين نفسه).
وفي المقابل، كلّما شغلت الصّفحة في عمومها الحرّيّة الفقهيّة بما يعني حريّة التّفكير وحرّيّة التّعبير ومجمل الحرّيّات التي تقع ضمن الحقوق الأساسيّة، وأصبحت الممنوعات والمحرّمات والمحظورات تحتلّ هامش الصّفحة، كلّما تحوّل الدّين إلى طاقة ثقافيّة تتّجه دالّتُه نحو البناء والتّعمير وتحقيق التّغير المنشود. وبهذا يتحوّل الدّين إلى قوّة وطاقة ثقافيّة جبّارة تخلق الحضارة والنّهضة. فالدّولة الوطنيّة نفسها، بوصفها منتجاً حضاريّاً، جاءت كأثر لحركة تحرّر ديني هي حركة الإصلاح الدّيني بقيادة مارتن لوثر في عام 1517م. وعليه، كلّما اتّجهت المذاهب الفقهيّة الدّينيّة إلى الانفتاح الثّقافي، كلّما تحوّل الدّين إلى طاقة نهضويّة؛ وبالعكس، كلّما اتّجهت المذاهب الدّينيّة إلى الانغلاق الأيديولوجي، كلّما تحوّل الدّين إلى قوّة هدم وتدمير.
الدّين الإسلامي ومشروع الاستنارة
في الظّنّ أنّه لا يمكن تحقيق أيّ قدر من الاستنارة الدّينيّة، فيما يلي المسلمين، ما لم تمكّنوا من ابتناء فقه ديني استناري يقوم بدوره على فكر ديني استناري أيضاً. فمواجهة الهوس الدّيني بجملة من الآراء الفقهيّة المتطايرة Volatile والمتناثرة دون منهج متكامل، يعني في حقيقة الأمر خوض هذه المعركة الضّميريّة والثّقافيّة بالدّرجة الأولى والمسلمون متسلّحون بنفس أسلحة الهوس الدّيني الأيديولوجيّة، وليست الثّقافيّة. فالقاعدة الأساسيّة هنا هي مواجهة ظاهرة الهوس الدّيني والعنصري بفكر ديني متكامل فقهيّاً، وليس مجرّد العمل والبحث بين تلافيف النّصوص والمقولات الدّينيّة عن موقف يعارض ويناقض حجّة بعينها يستند على المهووس دينيّاً.
بجانب هذا، يبقى أن نقول إنّ أهمّ قاعدة يُنصح باتّباعها في مواجهة جائحة الهوس الدّيني والعنصري هو العمل في سبيل تحقيق الاستنارة الدّينيّة عبر الحوار Dialogue، مقابل الاستغلاق، أي "الإيديولوق" Ideologue. ولا يمكن أن تتحقّق هذه الاستنارة الدّينيّة إلاّ بتحرير الدّين الإسلامي من الأيديولوجيا التي شابته خلال عمليّة تحوّله إلى ثقافة، أي عندما تنزّل من اللاهوت إلى النّاسوت. فبينما ينتمي الدّين في سماحته (على ألوهيّته) إلى الثّقافة في حال تنزّله بين البشر، ينتمي الهوس الدّيني إلى الأيديولوجيا. فالدّين ثقافي، في معنى أنّ غاية أيّ دين هي أن يتحوّل إلى ثقافة. هذا بينما التّيّارات الاجتماعيّة غير الثّقافيّة تنحو إلى اختطاف الدّين عبر أدلجته.
في هذا الصّدد (تحقيق الاستنارة الدّينيّة عبر الحوار)، فإنّ الصّدق مع النّفس في عمليّة تحقيق الاستنارة الدّينيّة يحتّم التّقيّد بمبدأ الارتباط engagement مع ضحايا ظاهرة الهوس الدّيني، ذلك بدلاً عن فكّ الارتباط بهم disengagement واعتزالهم. وما نعنيه بالارتباط يختلف تماماً عن العمل على إلحاق الهزيمة بهم بتفنيد موقفهم الضّعيف فكريّاً وبنيويّاً وسلوكيّاً، فهذا أدخل في اعتزالهم عبر شوطنتهم. إذ مهما بلغت بهم درجة الهوس الدّيني والعنصري، تبقى هناك حقيقة أنّهم بشر، ما يعني كامل استحقاقهم في أن يُعاملوا بالقدر الضّروري واللازم من الإنسانيّة، إيماناً بإنسانيّتهم المجروحة بالأيديولوجيا، ثمّ أملاً في إنسانيّتهم بأن تسود وتستعيد نقاءها وذكاءها الثّقافيّين.
هناك مؤسّسات ضروريّة في عمليّة تحقيق الاستنارة الفكريّة، أوّلها (كما سبقت إلى ذلك الإشارة) هو اختطاط منهج ديني يحقّق للدّين تنزّلاته الثّقافيّة بحيث يحمي المجتمع من أيّ تيّارات لاختطافه أيديولوجيّاً. أمّا الأمر الثّاني، فهو مؤسّسات الإبداع، وعلى رأسها المسرح (وتشمل عندنا كلّ مؤسّسات الدّراما الحديثة). فما يفعله المسرح من كشف للاستغلاق مقابل الانفتاح الثّقافي، بجانب وضع الضّمير الفردي والجمعي (أي الثّقافي) في مواجهة التّبلّد والاستغلاق، يكشف عن قدرات هائلة في إحداث التّغيير عبر قدراته الفائقة في إدارة الحوار بين الفرد والفرد، وبين الفرد وضميره. بعد هذا تأتي المؤسّسات العدليّة، الدّستوريّة والقانونيّة، بجانب مؤسّسات إنفاذ القانون، من حيث حماية الفرد والمجتمع بما يحققّ ويضمن قيم الحرّيّة والعدل والسّلام، أي القيم الثّقافيّة.
في هذا الصّدد نرى أن نركّز حديثنا عن المسرح. فالأيديولوجيا، برغم أنّها تورّث الغباء الأيديولوجي (وهو معيار قياسي عام وسلبي)، بمثل ما تورّث في خاتمة أمرها الغباء الشّخصي ولو بلغت معدّلات الذذكاء في دمغ الشّخص المعني درجاتٍ عالية. انظر لحركة الإخوان المسلمين في السّودان وكيف قادتها الكوادر المتعلّمة التي تلقت تعليما أعلى في أرقى الجامعات الوطنيّة والعالميّة، ما يعني انفتاحهم على المنتج الحضاري العالمي في أرقى صوره. ثمّ قارن كيف تنكّبوا محجّة الدّيموقراطيّة الغرّاء (1985م 1989م)، فدبّروا انقلابهم في 30 يونيو 1989م، ثم أقاموا دولتهم التي لم ينازعهم فيها الأمر أيّ قوّة أخرى لمدى ثلاثين عاماً. في كلّ هذا، ظلموا النّاس كما لو كانت رسالتُهم هي ظلم الشّعب والاقتصاص منه؛ ثمّ أفسدوا في الأرض فساداً لم يسبقهم عليه حتّى الاستعمار المصري التّركي الذي قام على الرّيع دون تحقيق الحدّ الأدنى من التّعمير الذي استمدّ مصطلح "الاستعمار" اسمه منه؛ ثمّ فرّطوا في الوحدة الوطنيّة وقسّموا البلاد، بل باعوا بعد أقاليمها (ومن يبيع الوطن، كمن يبيع أمّه في المزاد) رشوةً وثمناً لحماقاتهم وأخطائهم القاتلة في حقّ جيرانهم؛ ثمّ أكثر وأخطر من هذا، فقد أثبتوا بالدّليل العملي أنّهم لم يتمكّنوا (وبكلّ أسف حتّى هذه اللحظة) من فهم ما تعنيه "مؤسّسة الدّولة الوطنيّة"، وكيف أنّ عًلمانيّتها ليست سوى شرط بنيوي لها بدونه سوف يتفكّك بنايان الدّولة طوبةً إثر طوبة. تامّل في كلّ هذا ودلّني والقرّاء لما فيه مقدار خردلة من الذّكاء، الشّخصي والوجودي! إذ ليس أدلّ على الغباء الأيديولوجي ممّا فعلته هذه الحركة التي رفعت شعار الدّين عالياً، ثمّ برغم هذا تمرّغت في زخم الفساد كما يتمرّغ الخنزير في قاذوراته. لقد فعلوا كلّ هذه الأفاعيل باسم الإسلام، فتوصّر وتأمّل!
إلاّ أنّ أخطر ما كشفوه من حالات الغباء الأيديولوجي والشّخصي هم عدم قدرتهم تماماً (أللهم إلاّ قلّة قليلة لا يُعتدُّ بها) على فهم طبيعة الثّورة الشّعبيّة المجيدة التي أطاحت بحكمهم في 18 ديسمبر 2018م. فقد أثبت الإخوان المسلمون (وكلّ من والاهم في مواقفهم الأيديولوجيّة التي تقف كشاهد حيّ لحالة من حالات الغباء الأيديولوجي والشّخصي الفريدة) أنّهم كآل البوربون، لم ينسوا شيئاً، كما لم يفهموا شيئاً بالمرّة. فقد عجزوا عن أن يفهموا ما تعنيه ثورة شعبيّة أجمع العالم كلّه على أنّها غير مسبوقة في تاريخ البشريّة، دع عنك تاريخ الشّعبي السّوداني الذي اجترح ثورتين قبلها اعتمدتا على سلاح السّلميّة. كما لم يفهموا ويستوعبوا طبيعة الأخطاء القاتلة التي ارتكبوها ودرجة الانحطاط الأخلاقي التي انحدروا إليها وتحدّروا بها بالشّعب. فالحكم الرّاشد يُخرج أطيب ما في الشّعب، بينما يخرج الحكم الفاسد أسوأ ما في الشّعب. ولكن، كما قلنا، فإنّ الثّقافة تنتصر في النّهاية دون حاجة لاستخدام القوّة المادّيّة وعنف الدّولة. كلّ هذا عجزوا عن فهمه ولا يزالون يقيمون في ضلالهم القديم، إذيحلمون باستعادة حكمهم. كيف؟ عبر تأليب الغوغاءMob Mobilization ! أي بنفس تكتيكاتهم التي أوردتهم موارد الهلاك، هذا دون أن يتعلّموا شيئاً ودون أن ينسوا شيئاً.
إنّ هذه الجائحة من الهوس الدّيني والغباء الأيديولوجي لا يمكن مواجهتها بالفكر وحده، ولا بالتّسامح وحده، ولا بالقانون وحده، بل، في الحقِّ، لا يمكن مواجهته بكل هذا مجتمعاً. فكيف نواجهه؟ نواجهه بالإبداع! بالفنّ عموماً، أكان شعراً أم قصّةً أم غناءً، وعلى وجه الخصوص بالمسرح والدّراما والسّينما! وقد أشرنا في كتبنا إلى هذا بإسهاب، فليُراجع في مظانِّه. فالفنّ له قدرة عجيبة في التّغلغل داخل ضمير الفرد والجماعة وإيقاظ روح الإنسانيّة النّائمة والمخدّرة؛ والفنّ قادر على إحياء الضّمير الميّت للفرد وجعله قادراً على استعادة إنسانيّته التي ربّما لم تبقَ منها غير الرّسوم والجسوم دون المحتوى. لا غرو أنّ جماعات الهوس الدّيني والأيديولوجي ليس فقط لا يعرفون الفنّ بمختلف ضروبه، بل يكفّرونه.
ما بين الآفروعموميّة والإسلاموعروبيّة: أيّهما ثقافة وأيّهما أيديولوجيا؟
فيما يلينا هنا في السّودان، يمكن ملاحظة أنّ الإسلاموعروبيّة تعمل على تزييف وعي الأفارقة، المستعربين منهم وغير المستعربين، بأنّهم ليسوا فقط عرباً، بل هم عربُ العرب. هذا وسط سخريّة وهُزء العرب العاربة وسلقهم لمن يصادفونه من السّودانيّين بألسنةٍ حِداد، لا يرعون فيهم إلاًّ ولا ذمّة. الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة تفعل هذا ولو كان هذا على حساب سماحة الدّين وحنانِه، ولو كان هذا على حساب مستوى اللغة العربيّة في المدارس والجامعات، حيث أصبح لدينا، خلال سنوات دولة الإنقاذ الإسلاموعروبيّة الثّلاثين، خريجو جامعات لا يستطيعون أن يكتبوا جملة صحيحة باللغة العربيّة. وعلى هذا يمكن أن نخلص إلى أنّ الإسلاموعروبيّة هي أيديولوجيا وهو ليس سوى تكرار لما ظللنا نستعرضه في طول وعرض صفحات هذا الكتاب.
أمّا إذا جئنا إلى الآفروعموميّة Pan Africanism، في السّودان بوجهٍ خاص، أوّل ما نلاحظه هو أنّها تعمل على ترفيع وعي السّودانيّين بهويّتهم الأفريقيّة السّوداء، ذلك من خلال الاهتمام ورعاية هويّتنا هذه عبر تطوير ثقافاتنا الأفريقيّة من عادات وتقاليد ولغات. هذا دون أن تُحرم أحداً، فرداً أومجموعةً، من أن يزعم بأنّه عربي، ودون أن يحاول أن يعمّم هذا على جميع السّودانيّين. أي، باختصار، تعمل الآفروعموميّة على ترفيع الوعي بالهويّة السّودانيّة بوصفها ثقافة. وهذا وحده يحسم المسألة ويجعل أيّ عاقل وموضوعي يخلص إلى أنّ الآفروعموميّة ليست أيديولوجيا بل هي ثقافيّة. وبموجب هذا، ليست الآفروعموميّة بتيّار عنصري، ذلك بدليل أنّ موقف الآفروعموميّة في السّودان من الثّقافة العربيّة الإسلاميّة يكمن في جانبين ثقافيّين؛ الأوّل هو أنّنا عربفونيّون، بما يعني التقعيد الفكري الثّقافي، غير الأيديولوجي، لمسألة التحدّث باللغة العربيّة بمختلف لهجاتها، دون أيّ ادّعاء بأن جميع السّودانيّين هم عرب. الجانب الثّاني هو قبول وجود عرب بيننا ينبغي على الدّولة أن تحفظ حقوقهم بوصفهم جزءاً لا يتجزّأ من مكوّنات الهويّة السّودانيّة.
اليوم في السّودان، وفي ظلّ غلواء الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة وسيطرة مؤسّساتها الاجتماعيّة على مؤسّسة الدّولة بما يهدّد وجود الدّولة نفسها، قد تمايزت الصّفوف! فنحن إمّا إسلاموعروبيّون أو آفروعموميّون. ففي ظلّ الاستقطاب الحاد الذي صنعته الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة، وطريقتها المعهودة في التّعامل مع النّاس بطريقة "إن لم تكن معي، فأنت عدوّي"، لا يبقى من موقف غير يحدّد الجميع مواقفهم. حتّى المجموعات التي تصنّف نفسها على أنّها عربيّة، يبقى عليها أن تحدّد موقفها. فالآفروعموميّة ليست وقفاً على الأفارقة السّود فحسب، بل هي مفتوحة لكلّ من يؤمن بعدالة قضيّتهم المتمثّلة في اضطهادهم لمجرّد سواد ألوانهم. أمّا السّودانيّون الأفارقةُ السّود الذين يقفون ما بين بين، فليعلموا بأنّهم لن يكسبوا بهذا الإسلاموعروبيّين بمثلما يفوتهم شرف الانتماء لهويّتهم الحقّة. هؤلاء يقفون في مرحلة لا تختلف إلى اختلاف مقدار، وليس اختلاف نوع، عن تلك المجموعات السّودانيّين الأفارقة السّود الذين لا يُنكرون أفريقيّتهم فحسب، بل يكرهون ذواتهم لمجرّد كونهم أفارقةً سوداً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.