ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مبارك بشير: حلق عاليا عاليا يا نانسي، ورحل! .. بقلم: جابر حسين
نشر في سودانيل يوم 20 - 02 - 2021


(1955/2021م).
-----------------
( لم نفترق،
لكننا لن نلتقي أبدا/
وأغلق موجتين صغيرتين علي ذراعيه
وحلق عاليا... ).
- درويش -
نهار الخميس11/2/2021، بمنزله المجاور لمقابر شمبات بالخرطوم بحري، رحل عن عالمنا وعنا، بذبحة صدرية مفاجئة، الصديق الشاعر والأكاديمي، الإنسان الرقيق الفنان مبارك بشير. كان رحيله خفيفا، هينا ولطيفا كغمامة عابرة، رحل مبارك في أقل من عشرين دقيقة كما قال صديق عبد المنعم عمر شقيق زوجته الأستاذة إنصاف عبد المنعم. هكذا، حال الدنيا، وحالنا نحن الذين فيها لا نزال، نشاكسها الحياة ونراوغها لكيما نكون فيها، في جدواها وبهجتها، لكن، وحالنا كذلك، فأن رحيل مبارك المفاجئ، جعلنا في الحزن الذي يشرق بنا، يؤلمنا حد التعب، حد الغياب، ذاك الذي في البياض، ولا فكاك!
مبارك، كان عالما وعارفا بحال قلبه، يعرفه ويصدقه، فما خانه أبدا، ولا لحظة طيلة حياته، لم يكن عصيا في رفقته إليه، ولا في القسوة عليه، بل كان حانيا عليه، مترفقا به حد يهدهده بلطف بالغ الحنين، ولا يغريه بمراوغة من أي نوع. لهذا، لأجل هذه الحميمية الرحيمة بينهما، كان مبارك حفيا ورفيقا به، يداعبه ويلاطفه كطفل صغير يحبه، ويحنو عليه، وكلاهما، صنوان، لكأنهما روحان في الجسد الواحد الأحد، يشتغلان، معا، في الحياة علي الذكري والحنان. لم يقسو أبدا، طوال حياته، علي أحد، لم يفعلها حتي علي خصومه ولو كانوا جلوسا إليه. قد يتململ إليه قلبه، فيشرع ( يطبطب ) عليه، لينجو من تلك البرهات التي يعدها في الطارئات الزائلات!
في زمان مضئ، كان الصديق الراحل، الصحفي والتشكيلي والشاعر، أبن كسلا وأحد مؤسسي رابطة أولوس الأدبية بكسلا، أحمد طه محمد الحسن ( الجنرال )، يتصيد حضوري للخرطوم فيأتيني ليأخذني إلي منزله، ويغريني بأن مبارك بشير سيكون معنا، وكانت المودات بيننا عامرة بالأنس الأنيق وبالحكايا في كل أمور دنيانا. مرة، في أحد تلك اللقاءات الحميمة، جلسنا ثلاثتنا، الجنرال ومبارك وأنا ذات مساء بمنزل الجنرال، وفجأة، مثلما مفاجأت الطبيعة، هبط علينا أثنان من شعراء الأغنية، دونما سابق إعلام، وكانا، علي شيوع أشعارهما في الأغاني والقبول، قريبان من نظام الكيزان، يتعاملان معه وفقا لفقه الضرورة والمصلحة كما تقول به الجماعة! كنت أنا صامتا، وكذلك مبارك، تلك اللحظة أحسست بأنه لم يرتاح لوجودهما، لكنه ظل صامتا. برهة قليلة حتي نهض واقفا وأشار لي أن أتبعه إلي الردهة المجاورة لصالون البيت. قال لي: ( يضايقني وجودهما، لا احتمله، فدعني أذهب عنكما ). ألححت عليه أن يبقي، فأن لم يذهبوا سنغادر معا. وعلي مضض، منه ومني، انتظرنا حتي ذهبا عنا! أنا لم أزره في منزله أبدا، هو من كان يأتيني إلي حيث أكون. فلم أر، ولا مرة، منزله الذي بجوار مقابر شمبات، وأنا الذي أكاد لا أري المقابر ولا أقترب منها أبدا. يقول صديق عبد المنعم، أن مباركا كان يرد علي من يسأله لماذا أختار أن يكون منزله مجاورا للمقابر قائلا: ( لأكون من هنا، يعني المنزل، إلي هناك، المقابر!)، يا الله يا مبارك، هكذا، تري، هل تعبت من درب الحليب إلي رؤاك إلي الحبيبة، هل تعبت صفاتك، يا حبيب العمر، حين يضيق الشكل عن معناك، ويتسع الكلام لديك أشعارا ومغني، فتفيض لديك المعاني واللغة؟
الأكاديمي
--------
مبارك، كان نجما لامعا في الفضاءات الثقافية والفنية أبان دراسته بجامعة الخرطوم، منصتا ومشاركا في الآداب والفنون بأداء رفيع ورشيق، يفعل ذلك بحياء ورهافة ونبالة تجعله محبوبا للجميع، ولم يشغله هذا الفعل الثقافي أبدا عن تجويد وتعميق نجاحاته في الأكاديميات التي جعل منها مشروعا مهما في حياته المهنية، حريصا ومثابرا عليها حتي حاز منها أعلي مراتبها:
1976- بكالريوس الفلسفة و اللغات، كلية الاداب جامعة الخرطوم.
1977- دبلوم فى الدراسات الافريقية و الاسيوية، جامعة الخرطوم
1977- دبلوم اللغة الفرنسية، المركز الثقافى الفرنسى، الخرطوم
1982- دبلوم اللغة الالمانية، معهد هيدر، المانيا الشرقية وقتذاك.
1983- ماجستير فى الدراسات العربية، جامعة ليبزدغ، المانيا الشرقية.
1986- الدكتوراه فى السياسيات الثقافية و التعليمية، مركز الدراسات الافريقية و الشرق أوسطية، جامعة ليبزدغ بألمانيا الشرقية وقتذاك.
وقد عمل مبارك بمصلحة الثقافة حين كانت تتبع لوزارة الثقافة والإعلام، وكذلك بالمركز القومي للبحوث، وبمركز الإعلام الإنمائي، ثم بأكاديمية السودان لعلوم الإتصال، وأخيرا كانت محطته المهنية الأخيرة بجامعة العلوم والتقانة مديرا للعلوم فيها حتي لحظة رحيله المفاجئ!
وعلي التأكيد أن لمبارك مشاركات وبحوث وأوراق علمية معتبرة انجزها في مسيرته العلمية، وفي ظني أنها، لوقيض لها أن تجمع وتطبع وتنشر، فسوف تشكل مجلدات علمية عديدة عظيمة القدر، فنتعرف، عندها، علي وجهاته وحقول معارفه العلمية، تلك المرتبطة بعمله المهني وتخصصاته العلمية والمعرفية. وفي هذا المجال، فأنني لأتمني علي صديق عبد المنعم، وهو القريب للأسرة والقادر علي الوصول إلي مكتبته الخاصة، أن يضع يده علي تلك الكنوز ويسعي، وفي مقدوره أن يفعل، فيعدها للنشر، تلك مهمة كانت ستسعده لاشك.
الشاعر
لربما، أستطيع القول، باطمئنان كبير، أن مباركا قد شهرته شاعرا متميزا قصائده المغناة وأناشيده للثورة وللوطن وللحبيبة، صدح بها محمد وردي و... وأحمد ربشة وغيرهم. لكنه، وهو بعد طالبا، في الثانوي والجامعة، كتب الشعر وتلاه في بعض منابرهما، في تواضع وخجل عرف عنه طوال حياته. ظللت، وأنا اتصفح شعره، وكم قرأ علي بعضه في جلسات ولقاءات متباعده معه، تداعب مخيلتي مقطوعة ف. بونج*، التي أسماها: ( لست أكثر من راو )، يقول فيها:
( أبصر نفسي في شئ ما: في العمق ما أحب، ما يمسني، أنه الجمال المدحوض، أنه ضعف الدليل، أنه التواضع نهاية. الذين لا يملكون الكلمة، هو الذي أريد أن أوجه إليهم " كلمتي ". ها هنا يتعانق موقفي السياسي مع موقفي الجمالي.
ما يهمني هو كسر شوكة الأقوياء أقل من تمجيد العامة.
العامة هم: الدولاب، العامل، الجمبري، جذع الشجرة وكل عالم الجماد، كل ما لا يفقه الكلام. فانا لست أكثر من راو. )...
لعل مباركا كان في هذا المنحي تجاه قصيدته، التي ظل حفيا بها ومخلصا لها طوال إشتغالاته الشعرية. صحيح، أنه ظل يشتغل علي تجاريب عديدة في قصيدته، لكنه، إذ يفعل ذلك، يظل ( ينوع ) علي الإيقاع الواحد فيجعله يكتسي أكثر من وجه، والعديد من الأردية الملونات، ينسجها كجدائل تتدلي، في لمعان وتوهج، فترافق جماليات قصيدته فتزيدها بهاء وجمالا.
قلنا، أنه كان ينوع علي الإيقاع، وللإيقاع موقعا جوهريا في قصيدته، لهذا نراه ( يغيره ) دائما، لآ، لا يبعده عن قصيدته، لكنه يجري عليه تنويعات لحنية فيجعله إلي حيث يشاء قلبه، نقول قلبه، وليس ضرورات تفرضها عليه مسارات الشعرية لديه، لكأنه يمتحن رؤياه الشفيفة في حديقته الأثيرة، ليري ما لدينا من دموع، ومن فرح، ومن مسرات الحياة. يفعل كل ذلك، وهو الواهب عطاياه كلها، القلبية والروحية، لنا عبر قصيدته الرشيقة الفاتنة.
ولعل هذه ( النزعة ) الموسيقية عنده، هي التي جعلته يجعل لبعض قصائده قدرة أن تجري عليها الألحان فتصبح ( مغناة )، كما في ( عرس الفداء )، وفي ( بسيماتك ) التي غناهما وردي، وفي ( عويناتك ) التي شدا بها محمد الأمين، وتجربة أحمد ربشة، في قصيدتيه( تسألين )،
و ( بيني ما بينك ) التي تظل علامة وإشارة، لكيف تكون القصيدة قابلة للتحول في صيغة الغناء، في سمته البسيطة وملامحه التي يختلط فيها الشعر، اختلاطا، مع الإيقاع والألحان، وأغنية (في الأسي ضاعت سنيني) التي تغني بها مصطفي سيدأحمد والعطبراوي، كل منهما بلحنه وأداءه، وأغنية ( كل المحبة ) لدي الجيلاني الواثق، و ( زمن التداعي ) لدي الكابلي.* ذلك، في ظني، ملمح هام تميزت بها قصيدة مبارك بشير، علاوة علي إنها، وهي بهذا المنحي، تجد لها قبولا واسعا لدي الجماهير، لكأن مباركا كان يود أن يكون في وجهة الذائقة الجمالية، في القصيدة والأغنية، لذلك الذي لدي عامة الناس، لربما، وذلك ما لاحظته لديه، في خضم المعترك الإبداعي اليومي لدي الجماهير التي هي، عنده، محل اهتمام وتقدير كبير، فلا يرغب البتة، ولا يريد أن تعيش قصيدته بمعزل عنها.
مبارك، يعد من ضمن شعراء الأكتوبريات، يساريا تقدميا بفكر ووعي مستنير، وكان الشعر، بهذا القدر أو ذاك، يمثل التمهيد الشعري للثورة، حاديا لركبها ومناديا بالتغيير الذي تجلي في أهازيج وأناشيد الثورة فيما ساد الساحة الثقافية والسياسية قبل الثورة وأبانها. ثورة أكتوبر أحدثت هزة مدوية بلغت الأعماق الساكنة في بؤرة الإبداع ومنابعه نفسها، كانت بمثابة دفقة، حارة وذات عنفوان موار، حيث مكنت مسارات ومسارب جديدة، كل الجدة، في بنية الوعي والنص الشعري حد أن تجولت القصيدة، تزهو بإشراق لامع، في الشوارع والساحات، تهتف وتغنيها جماهير الشعب، بواقعية ناهضة تسجل وقائع الأحداث، شاهدة عليها، مشاركة فيها، محللة وموجهة لها. يقول عبد الهادي الصديق، عن مرحلة ثورة أكتوبر وما بعدها: ( ولذا فأن فهما جديدا للشعر قد انبثق علي ضوء هذه التجارب، وإن تغييرا اساسيا قد طرأ علي قصيدة الشعرعلي صعيدي الشكل والمحتوي. فقد عاد الإلتزام الموضوعي تجاه القضايا الإنسانية والحياة والمجتمع، ولم يأت هذا الإلتزام هذه المرة فرديا أو مبعثرا إنما جاء داخل إطار مدرسة لها تعاليمها وفصولها، هي تجمع الكتاب والفنانين التقدميين " أبادماك "، واصدرت هذه الحركة " المانفيستو " الذي ينظم طريقة التفكير والعمل، واتاح هذا التجمع، ولأول مرة، لقاء الشعراء لمدارسة أشعارهم ومحاورة بعضهم والوقوف علي السلبيات والإيجابيات واستشرافا لحركة شعرية معاصرة متكاملة )*. مبارك، كان أبن هذه البيئة الشعرية الطالعة، عاصر رموزها وتشرب بفكرها ورؤاها، فتشكلت في وعيه بذور ( التجديد ) والالتزام جانب الشعب والوطن. وهو، في ظني، قد اشتغل علي (تجديد) الواقعية الشعرية وعمل علي تطويرها في ذات الوقت، فامتازت أشعاره بالحس الغنائي الرقيق واللغة الشعرية الرشيقة الفاتنة.
ولقد سبق لنا القول، فيما سبق، أن مباركا قد راهن كثيرا، بل نكاد نقول أنه جعل لقصيدته سمتا غنائيا موسيقيا، فالإيقاع لديه من جواهر قصيدته، وهو يعلم، قطعا، أن الإيقاع أوسع من الوزن الذي يمنح إيقاعا واحدا من بين إيقاعات عديدة لا متناهية، وأن الوزن ليس مقياسا يعول عليه لتحديد سمات النص أو دراسة شعريته، ثم أنه أجري محاولات عديدة علي لغته الشعرية فجعلها في السياق الشعري العام لقصيدته. أنظر إليه يقول في بعض" زمن التداعي ":
( أنا أم انتِ
أم زمن التداعى
أكتب الآن إلتياعى
يرحل الاحباب من غير وداعِ
يرحل الاحباب من غير وداعِ
اليوم نقتحم الغياب فلا تُعزينا.....تماسك
تماسك قبل أن يهوى كِلآنا
هذه الدنيا بطوع بناننا تمشى
ودمعك يجرح القلب المسافر و البقية....
أنا بالفعل خنت بشاشتى
وعقرتُ ناقة رحلَتى
وصرختُ ملء فمى.....
ياقوم ضاع الود فى المدن الشقية
ياقوم ضاع الود فى المدن الشقية
ياقوم ضاع الود فى المدن الشقية ).
أو حين يناجي البلاد، لكأنما هو يجعلها في منزلة الحبيبة، أو هي الحبيبة نفسها، في مخيلته وفي رؤاه، يقول:
( يلتقى الإنسان خله الوفى
زمانَ تهبطين...
تبدأ الشمس مسارها اليومى
ويهبط المساء فى دمى
وفى الكواكب المجاورة
ثم لا يكون فى القلب
سوى غرامك البِهى
فارتحلى...كما تهوين فى العيون
والحقائب المسافرة
مكان تهبطين......تلتقين بى
زمان تهبطين....تصبحين لى
إذن...تماسكى بجانبى
ولا تسافرى ).
لربما تتاح لنا برهة ننظر فيها إلي أشعاره بصورة أكثر شمولية لو أعطينا العمر.
فيما بين مبارك ونانسي ومحجوب شريف
كانت أخر مرة أحادث فيها مبارك عبر الهاتف، في 5/11/2020م، اليوم التالي لوفاة الفاتح التلب والد الشاعر والكاتب مأمون التلب. وقفت العربة بهم، كمال الجزولي وأبنه أبي، ومبارك بشير، أمام الشقة التي كان يشغلها الراحل الفاتح بحي الشعبية بالخرطوم بحري، الوقت كان مساء ذلك اليوم، هاتفني كمال يسأل عن مأمون لكي يقدموا إليه العزاء. الشقة كانت مغلقة ومظلمة لا ضوء فيها! أخبرت كمالا أن هاتف مأمون مغلقا منذ الأمس، وأنه علي الأرجح سيكون في بيت والدته الراحلة رشيدة حبيب الله في بيت المال بأمدرمان، ثم أعطي كمال هاتفه لأتحدث مع مبارك وأعزيه أيضا. أتاني صوته الهادي الحنون بنبرته اللطيفة الخفيفة يخالطها حزن غامض، كما تصورت، كرر علي أن نلتقي عند تواجدي بالخرطوم فوعدته، وذكرته أننا سبق واتفقنا أن نتحاور حول شعره الغنائي وغيره، وهو، كعادته، كان يحتفي، أيما احتفاء، بأن يكون شعره مدار حوار وتفاكر، لكأنما يريد أن يري تجربته الشعريه، مثلما الأكاديمية، تحت أضواء النقد والدرس والتقييم، قلت له، وأنا مطمئنا إلي تحقيق بعضا من ذلك، أن ذلك سيحدث متي ألتقينا، وبالفعل كنت عازما أن أكون بالخرطوم وبرفقته، هو وكمال، متي خف الحظر والكورونا، ولكنها الحياة، رحل عنا مبارك، رحل، مثلما غمامة خفيفة تمضي في البياض، فلم تتركنا الحياة لشأننا لنكمل ما رغبنا فيه من ذكري وجدوي وحياة، فتركني، خلي الوفئ وصاحبي، وملء الحزن قلبي، أردد ما قال به درويش يوما:
( وجدت نفسي حاضرا ملء الغياب.
وكلما فتشت عن نفسي وجدت
الآخرين. وكلما فتشت عنهم لم
أجد فيهم سوي نفسي الغريبة،
هل أنا الفرد الحشود!؟ )*.
كنت قد ذكرت، في مخطوطة كتابي عن نانسي عجاج، الذي لم يطبع بعد، كيف كان يري محجوب شريف ووردي، كلاهما، أن في المشروع الفني لنانسي، فرصا كبيرة متاحة للنهوض العفي بالأغنية السودانية إلي ذري عاليات، ومستقبلا تحف به أضواء المستقبل الأجمل لرؤي ووجدانات شعوبنا، بل أنهما قالا بضرورة الإهتمام بمشروعها ومؤازرة تطوره النامي باستمرار. في هذا الاطار، ووفقا لهذا المنظور، كنت قد تمنيت، أكثر من مرة، علي نانسي أن تنظر، بتأمل فني عميق، إلي قصيدة مبارك بشير التي كتبها بعد رحيل محجوب*، لأجل أن تجري عليها الألحان، وهي مسنودة في تضاعيف القصيدة نفسها، وتقوم بتقديمها (هدية)، ورد جميل، لمحجوب، قلت بذلك، وأنا أعلم العلاقة الفنية الحميمة التي يتشاركانها، محجوب ونانسي، وفي ظني، أن ذلك، لو قيض له أن يكون، سيغدو العمل الفني غير المسبوق في تخليد ذكري محجوب. والآن، والحال كذلك، فأنني أجدد ( التمني ) علي نانسي، في الملأ هذه المرة، أن تفعل، ليكون، أيضا وأيضا، تخليدا وتقديرا لكليهما، محجوب ومبارك بشير. القصيدة تجري علي ( لوحات ) متتالية، تسع لوحات تستلهم مسيرة محجوب، السياسية والاجتماعية والشعرية والفنية ومساهمته في قضايا المجتمع المدني والخيري، وكل من تلك اللوحات، تكاد تكون لوحدها، ( مقطعا ) صالحا ليكون في اللحن والموسيقي والغناء. وكنت قد استأذنت، مسبقا، مبارك لتقديم القصيدة لنانسي، فوافق بابتسامته الرقيقة الأنيقة، وأضاف، ( أن ذلك سيسعده جدا ). والآن، وقد رحل مبارك، فماذا أنت فاعلة بهذا ( التمني ) يا نانسي؟ للننتظر ونري.
مبارك بشير: ( قصيدة إلي محجوب شريف )
( أبوي بشير
وصاني قبال ما يموت:
لا تمدح الحكام، مصيرهم
تنحرف بيهم غشاوات البيوت
يطيب مقامهم في الدهاليز الشراك
والمنافقين حولهم ما بستحوا
يأكلوا رأسهم بالكلام الهبهاني
اصلو مما هذه الدنيا ابتدت
قصة (السلطة) ابتدت
حجوة الزول الفلاني
كيف يشوف وسط البهارج
والسرايات البوراج
والطبول الخاوية في مرج
الحشود
دمعة صفير !
****
أبوي بشير
وصاني قبال يموت:
لا تمدح الدهب المجمر في الخزاين
لا تضوق طعم الثمار المرة
في تلك الجناين!
ما تعاين في الوجوه
النادية
ما عطشانة او رويانه
في الاخر ، شرابهم سلسبيل!
من علقم الناس المساكين في
الضهاري
ومن حنضل الغبش، المنازل
في المجاري
الدم عرق، سال في الهدوم
الما هدوم
العظام مرقت علي لحم
الجلود قبل الفطام
غضبانة من غفوة ضمير!
***
طول عمري حافظ
للوصية
لا بنكسر قلم الكتابة علي
مخدات البنوك
ضهبان دوام عمدآ من
الناس البلية
واقفين علي باب السلاطين
الهلوك
مع انو ما فضل علي وش
البلد درهم حرير!
***
وبغني لي (محجوب شريف)
رضيان ومرتاح ضمير
لا خيل بيسرجها لي هدية
ولا دنانير!
لا راجي منو عشم وظيفة
في المجال السندسي
محجوب شريف انسان
نضيف
من يومو جانا من (عرب المدينة)!
بالنهار عنوانو في (مدرسة الاساس)
في المساء بكتب اغاني
شاعر الشعب المفضل
والاثير!
***
وهكذا ، اشتقت مرة اغني
ليك
زي ما بتغني لينا كلنا
بصراحة يا (محجوب شريف)
والله لا يأئس ولا خايب
رجا
حكمة قصايدك بعرفها
كل الحبيبات (الجميلات مستحيلات)
هذا الوطن سر اغنياتك
من زمان
من ايدي لي ايد تغازل
في البلد الملهمة
هذا الوطن (حدادي او مدادي)
قد اوشك يضيع بين
الاعادي!
كيف ترضي يا سمح
الاناشيد والغنا
وانت الذي صارعت كل
الانظمة
وسرجت خيل كل القضايا
في الوطن
نسجت من وتر الشهادات
القصائد
كل المشاعر مستعدات
للشجن
نحن انتصرنا بيكا في كل
الظروف المؤلمة
(محجوب) اغاريد
الوليدات والبنيات
الشقيات الغلابة
(محجوب) تباشير
الصباحات البترجع
بعد اليالي المدلهمات
والوجع
(محجوب) حنان طفلا
كبير
لاكنو دائما مفتري
علي كل ظالم ومدعي
كيف ينحني هذا المغني
المستحيل
هذا الذي
صدع الطواغيت الصغار
قدام زيادة (سكري)!!
و... بعد: قد كنت قارئا جيدا يا مبارك، تقول لك الحروف الغامضات ما تقول، وأنت تقرأ، وأنت تكتب، تكتب حتي تكون، وتقرأ كي تجد، تجد اللغة والمعاني والصور، وتأسرك الدلالات التي في المعاني والصور:
( وأذا أردت القول تفعل،
يتحد ضداك في المعني...
وباطنك الشفيف هو القصيد )*...
العزاء لأسرته، زوجته إنصاف عبد المنعم، أولاده والبنات، للحزب الشيوعي السوداني، لكمال الجزولي، صديقه وخله في الوعي والشعر والنضال، للعشاق في بلادنا وللشعراء ولليسار العريض في مساره الكبير، لبنات وأولاد شعبنا، ولأهل الموسيقي والغناء والفنون. و...كن لنا يا مبارك في الخلود، في الرؤي المزهرات التي بذرتها وسقيتها في تربة الوطن البلاقيك في نهارات الصمود الضوء، ألم تقل:
( في هذه الأمسية الدافقة الشجن
أغنيتي لخاطر الوطن،
لأنني بغير شدوه العظيم...
لم أكن )*...
مع السلامة يا مبارك بشير، و... إليك كثير السلام العميق العميق.
هوامش:
--------
* فرنسيس بونج ولد بمدينة مونبيليي الفرنسية 1899، في عائلة ميسورة ومثقفة وبروتستانتية، تميزت حقبة دراسته برسوبه في الامتحانات ذات الصيغ الشفوية، وقد ظلت تلازمه صعوبة أن يعبر عن نفسه شفويا حتي رحيله عام 1988عن عمر 89 عاما.
* ( اتجاهات الشعر السوداني المعاصر )، عبد الهادي الصديق/ دار الخرطوم للطباعة والنشر والتوزيع، ط. أ.1995م، ص(47).
* ( جدارية محمود درويش )، صدر عن دار رياض الريس للكتب والنشر
بيروت، ط. أ. يوليو2000م، (23).
* ( قصيدة إلي محجوب شريف )، د. مبارك بشير/ نشرت بجريدة
الصحافة العدد الأسبوعي الذي حوي ملفا كاملا عن محجوب شريف لمناسبة رحيله، الجمعة 4 أبريل 2014م العدد (7419).
* ( جدارية محمود درويش )، المصدر السابق، ص (25).
* ذلك ما ذكره مبارك في حوار معه أجرته فائزة عبد الحسين ونشر بموقع ( موسوعة التوثيق الشامل ) بالنت في3/10/2013م.
* المصدر السابق، الحوار مع مبارك بشير.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.