عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. ثم تمضي الأغنية السودانية في ركاب النص الحداثي بتؤدة وبطء كما أسلفنا ، وليس بنفس الوتيرة التي ظل يشهدها مجمل المشهد الشعري الفصيح . ولعل من أوائل الأغنيات المُشْعرة بالمفارقة ، على الأقل على مستوى طريقة النظم ، وليست المضامين التي تطرق إليها النص ، أغنية الفنان زيدان إبراهيم: " كنوز محبة ". فهذه الأغنية التي تعود إلى حقبة الستينيات من القرن الماضي ، قد نظمت بطريقة غير تقليدية ، ولقد كان زيدان عبقرياً حقاً عندما لحنها ذلك اللحن الجميل ، بالرغم من أن قوافيها غير مضطردة: لما تشتاق للمشاعر تملا دنياك بى عبيرا ولما تشتاق للعواطف تنسجم تلبس حريرا تلقى فيها كنوز محبة تلقى فيها بحور حنان تلقى فيها الريدة فاردة جناحا تشتاق للربيع يا ربيع .. ربيع .. الخ أمّا المقطع القائل: " ما بتنشتل الزهرة في الأرض اليباب " من أغنية المطرب " عثمان مصطفى " ، وهي أيضاً من أغاني الستينيات ، فلا يملك المرء إلاّ أن يخمِّن بأن يكون الشاعر قد تأثر فيه على نحو ما ، بعنوان قصيدة " الأرض اليباب " أو The Waste Land لهُبَل الحداثة الشعرية المعاصرة " توماس استيرنز إليوت " ، المعروف اختصاراً ب T.S Elliot . وبالطبع فإنّ رواد شعر الحداثة في السودان ، وخصوصاً أولئك الذين اتفق أنّ لهم قصائد مغناة ، قد ظلوا يرفدون الأغنية السودانية بومضات حداثية ملحوظة نذكر منها على سبيل المثال أغنية " الطير المهاجر " للشاعر الراحل صلاح أحمد إبراهيم ، التي ورد فيها هذا التشبيه الحداثي المدهش للنيل: وتلقى فيها النيل بيلمع في الظلام زي سيف مجوهر بالنجوم من غير نظام ففي تقديري أنه قل أن يخطر مثل هذا التشبيه لشاعر تقليدي . فالصورة مركبة ، وأجزاؤها مؤلفة من عناصر لم يعتد الخيال العربي التقليدي على الجمع بينها. والتشبيه ههنا هو قطعا ليس – على سبيل المثال - كقول الشاعر القديم: نثرتهمو فوق الأحيدب نثرةً كما نُثرتْ فوق العروس الدراهمُ وذلك على الرغم من اشتراك التشبيهين في فكرة الترصيع والنثر. وشبيه بذلك المنحى الحداثي قول الشاعر محمد المكي إبراهيم في تمجيد ثورة 21 أكتوبر ، مما يغنيه الفنان محمد وردي: باسمك الأخضر يا أكتوبر الأرض تغني الحقول اشتعلت قمحاً ووعداً وتمني والكنوز انفتحت في باطن الأرض تنادي باسمك الشعب انتصر حائط السجن انكسر والقيود انسدلت جدلة عرس في الأيادي ... وبوسعنا أن نذكر في هذا الباب نماذج أخرى لأشعار حداثية مغناة لمحمد الفيتوري ، ومصطفى سند ، ومحي الدين فارس ، وعلي عبد القيوم ، ومبارك بشير ، وسيد احمد الحاردلو ، وعبد الباسط سبدرات ، ومحمد سعد دياب ، وكامل عبد الماجد وغيرهم. هنالك بعض الشعراء الذين جمعوا في التأليف بين الكتابة بالفصحى المحدثة ، والعامية المحدثة أيضاً مثل صلاح أحمد إبراهيم ، ومصطفى سند الذي كتب رائعتي الفنان صلاح مصطفى " حبيب العمر بالدنيا يغيب فكيف ألقاه " ، وهي بالفصحى ، وأداها صلاح مصطفى على إيقاع " الفالس " الأوروبي ، فجاءت آية من آيات الغناء السوداني الراقي ، وخير الأوقات لسماعها يا هذا ، هي الأمسيات الهادئة. أما الأغنية الأخرى فهي أغنية " غالي الحروف " ، وهي بالعامية. أما الراحل محمد عثمان كجراي ، وهو من شعراء الحداثة ، فقد ألف واحدة من أروع الأغاني السودانية التي ظهرت في عقد الستينيات أيضاً ، ألا وهي تلك الأغنية التي يؤديها المطرب إبراهيم حسين: خلاص يا قلبي كان خاصم ضميرو يحاسبو خليهو تمر أيام وينسى غرورو ويلقى هوانا راجيهو ... وممن جاوز في النظم بين الفصحى والعامية المحدثتين ، الشاعر فضيلي جماع ، وإن كان هذا الأخير ينتمي للجيل التالي لأولئك المذكورين. وله من الأغنيات التي يتغنى بها المطرب الدكتور عبد القادر سالم: جيناك زي وزين هجر الرهيد يوم جفّ ولا نستطيع الحديث عن مسيرة حداثة المفردة الشعرية للأغنية السودانية دون أن نشير إلى إسهامات الفنان الشامل: الشاعر والأديب و الباحث والملحن والمؤدي عبد الكريم الكابلي. ذلك بأن لجوءه إلى الرمز مثلاً في استخدام مفردتي " شمعة " و " مراية " في الغناء العاطفي ، وهو مما لا عهد لشعراء الغناء العاطفي التقليدي به ، لمما يعتبر نزوعاً واضحاً ومبكراً من جانبه نحو التحديث والتجديد. يضاف إلى ذلك اهتمام الكابلي الواضح بالتراث ، واستدعاؤه له ، وتضمينه في أعماله ، وتقديمه في صورة عصرية زاهية تلبي مقتضيات الذائقة الفنية المعاصرة ، مع المحافظة في ذات الوقت على خصائصه الأصلية الأساسية. انظر على سبيل المثال لأدائه هذا المقطع التراثي الرائع: دا ان أداك وكتّر ما بقول أديت أب درق الموشح كلو بالسوميت أب رسوة البكر حجّر شراب سيتيت كاتال في الخلا وعقباً كريم في البيت أما الفنان الكبير " محمد وردي " فهو يميل إلى موقف فكري وإيديولوجي يقول بالتطور الحتمي لكل شيء ، ولا غرو بالتالي أن يُرى مائلاً إلى التجديد والتطوير والمواكبة الدائمة من حيث النصوص والألحان والموسيقى. وليس عجباً أيضاً أن ظلت تستهويه نصوص شعراء الحداثة الفصيحة منها والعامية من أمثال: صلاح احمد إبراهيم ، ومحمد المكي إبراهيم ، والفيتوري ، ومحجوب شريف ، وعلي عبد القيوم ، وعمر الطيب الدوش وغيرهم. أما عقد السبعينيات فما بعده من القرن الماضي ، فقد شهد في تقديرنا ثورة حقيقية في مجال الكلمة الغنائية الحداثية والمتجاوزة. وقد برزت فيها طائفة من الشعراء الذين تركوا بصمات واضحة على مسيرة فن الشعر الغنائي ، بما أضفوه عليه من الرؤى والمضامين والتراكيب والمفردات الطريفة والمدهشة. وتذكر في هذا المجال أسماء مثل: هاشم صديق ، ومحجوب شريف ، وعمر الدوش ، وسعد الدين إبراهيم في السبعينيات ، وصلاح حاج سعيد ، ومحمد طه القدال ، ومحمد الحسن سالم حميد وغيرهم في الثمانينيات. فمن النصوص الحداثية المدهشة للشاعر سعد الدين إبراهيم ، التي أبدعها تلحيناً وموسيقى وأداء الفنان أبو عركي البخيت ، وأطربت أبناء جيلنا بعد أن أصابتهم بما دعاها ت. س. إليوت بال Enlightened mystification ، أو متعتهم بالدهشة على راي الدوش أغنية: " حكاية عن حبيبتي ": عن حبيبتي أنا بحكي ليكم وضل ضفايرا ملتقانا شدوا أوتار الضلوع أنا بحكي ليكم عن حنانا .. دي مرة غنت عن هوانا فرحت كل الحزانى ومرة لاقت في المدينة الحمامات الحزينة قامت أدتا من حنانا " وفي رواية برتكانا !! " ولما طارت في الفضا .. رددت أنغام رضانا الأصيلة ندى الشروق الغنّا لى زراع أرضنا الأليفة زي الشعاع تدخل رواكيبنا وأوضنا الخ .. الخ ومما لا شك فيه أنّ مفردات وتراكيب النص الغنائي الشعري في السودان قد ظل يعتريها تغير ملحوظ عبر الحقب المختلفة ، شأنها في ذلك شأن نظائرها في النص الشعري العربي من حيث هو كما أسلفنا. ولا يخلو التجديد نفسه من آفة التقليد بطبيعة الحال ، فما يلبث أن يظهر تعبير شاعري غنائي عند شاعر بعينه ، حتى يتعاوره غيره من الشعراء استنساخاً وتقليدا. فمن ذلك على سبيل المثال حكاية: " السفر في العيون " أو " الرحيل في العيون " ، وذلك من قبيل عبارات مثل: " أسافر جوا في عينيك " و " أرحل لى مدن عينيك " و " أهوّم في بحار عينيك " الخ ، فهذه من المجازات التي استهلكتها النصوص الغنائية الحديثة ، غير أنهم لم يجسروا بعد فيما يبدو على استخدام عبارات أكثر تجاوزا وغرابة مثل المجاز المستهلك أيضاً بدوره في القصيدة العربية الحديثة: " يا أيها المسافر في دمي !! " ، فهل غادر الشعراء من متردم ؟. حكى لنا أخونا السفير " إبراهيم بشرى " مرة فقال: إنهم كانوا جماعة جالسين في كافتيريا كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم ، وهم يومئذ طلاب ، وكان من بينهم شاعر يقرض ذلك الشعر الحديث جدا ، فأقبلت غادة تتهادى من بعيد في اتجاههم ، قال: فاخرج ذلك الشاعر وريقة وجعل ينظر إليها تارة ، ويطأطئ رأسه تارة أخرى ويكتب بسرعة شيئاً ما ، ثم يرفع رأسه ويعاود الكرّة ، فلما نظروا في ذلك الشيء وجدوه مقطعا يقول: يا امرأةً من دندنة الغيم الهشْ ولمع البروق السمر الطوالْ !! وفي الواقع فإن أبا عركي البخيت يظل من أجسر الفنانين السودانيين على التعاطي مع النصوص الشعرية الحداثية تلحيناً وأداء. وهو بلا ريب فنان مطبوع وذو سليقة ميلودية سودانية أصيلة صقلها بالعلم والتجريب ، فكان كما قال عبد الله الطيب في مدح محمد المهدي المجذوب: وجارى ذوي التجديد شأواً فبذَّهمْ ولا غرو ، إذ أنّ الأساس متينُ فمن غيره استطاع أن يؤدي نصوصاً فيها عبارات من قبيل " لفافات الصبر دخنتها " ، و " تجربة خطيرة جد واجتزتها " ، و " الإبر المسممة بالكلام " ، ومن غيره استطاع أن يؤذِّن أثناء أدائه لأغنية وطنية ، سوى الأذان المصاحب لأغنية الثلاثية المقدسة لأم كلثوم ، والذي أضيف مجرد إضافة كمؤثر صوتي لا تؤديه الفنانة نفسها ، مع ملاحظة أنّ الثلاثية المقدسة هي بطبيعتها أغنية دينية تخالف طبيعة النص ، الذي هو لهاشم صديق فيما أظن ، و الذي أداه أبو عركي عقب انتفاضة أبريل 1985 أذّن الآذان وحنصليك يا صبح الخلاص حاضر ثم استمع إن شئت إلى أبو عركي وهو يؤدي أغنية " نوبية " على سبيل المثال ، فإنك واجد من عذوبة اللحن ، وطلاوة الموسيقى ، وروعة الأداء غير المتكلف الكثير والمثير ، هذا على الرغم من النص ذاته موغل في الحداثة: نوبية يا حلاتك انت يا نوبية زهرة غاردينيا ورمانة في خدود أمُّورة أبنوسية ورقصة زنجية كاكاوية بتغازل نسمة خريفية ... الخ هذا ، وقد انفتحت طائفة من المطربين المعاصرين من جيل الشباب خاصة نذكر منهم على سبيل المثال الفنان " الهادي الجبل " ، بالإضافة إلى بعض المجموعات الغنائية مثل عقد الجلاد ، والسمندل ، وساورا ، وغيرها انفتحوا بأخرة على النصوص الشعرية الحداثية ، وقد سبقهم في ذلك التعاطي مع النصوص الحداثية الفنان الراحل: " مصطفى سيد احمد " الذي أجاد وأبدع في تلحين كثير من النصوص الحداثية مثل رائعة الشاعر عبد القادر الكتيابي التي يبلغ فيها قمة العذوبة والرومانسية ، وخصوصاً عندما يستمع المرء إليها في أصائل الأيام الخريفية ، والسماء غائمة ، والريح تعبث بالشجر: أخاف الضفة ترجع بيك قبل ألحقْ أخاف غيم المنى الشايل تسوقو الريح ويتفرقْ.. وأقول يا إنتِ يا أغرقْ .. الخ ولا يخفى أن في هذا الشطر الأخير تناصاً مع أغنية " القمر بوبا " الشعبية ، وهو قول الشاعر المجهول: " يا غرقْ يا جيت حازما ". ولعل كل ما ذكرناه آنفا ، يبشر بإرهاصات تحول عميق في بنية الخطاب الشعري الغنائي السوداني الفصيح منه والعامي. ولكنك سوف لن تعدم – مع ذلك – من سيردد إلى آخر الدهر كلمات بسيطة ومباشرة من مثل قول إسماعيل خورشيد وغناء صلاح محمد عيسى: خدودو كالوردِ الأبيض ومندّي لأنو في قلبي وعمري ما سليتو