الدكتور صديق تاور كافي – أستاذ جامعي ومحلل سياسي مقياس نجاح أو فشل أية عملية انتخابية يستند إلى قدرتها في تحقيق الغرض الاساسي منها، وليس مجرد انعقادها كيفما اتفق وكفى. والغرض من العملية الانتخابية بالطبع هو إتاحة الفرص للشعب المعني بها لكيما يختار بوعي وبحرية وإرادة تامة من يتولى قيادة البلد لمرحلة من المراحل. ولأن الشعب ليس قطيعاً من الاغنام يُساق كله بشخص واحد، فإنه من المستحيل أن يتشكل هذا الشعب بملايينه الأربعين وبفئاته ذات المصالح المتفاوتة والمتضاربة أحياناً، وبأقاليمه ومناطقه ذات المشكلات المختلفة، من المستحيل لمثل هذا الشعب ان يتشكل ضمن منظومة سياسية واحدة، وانما يتوزع ولاؤه واختياراته وفقاً لأوضاعه الماثلة ولمصالحه الفئوية والمناطقية ولروابطه المجتمعية أيضاً. ولأن الأمر كذلك فإن الخيارات أمام الناس في العملية الانتخابية تتوزع على الولاءات السياسية والطائفية والمناطقية والقبلية. وهذه بالمنطق البسيط يستحيل اصطفافها جملة واحدة خلف طرف واحد من أطراف العملية السياسية في السودان، حسبما أظهرت النتائج «المشكوك فيها». فغياب أطراف أساسية عن المنافسة الانتخابية بحجة عدم توفر الارضية التي تضمن سلامتها بتوفر الحيدة والنزاهة وتكافؤ المنافسة، هو أول أسباب فشل هذه العملية. فقد قاطعت الانتخابات أحزاب مثل حزب الأمة القومي «حزب الأغلبية البرلمانية» قبل مجيء «الإنقاذ؟!»، وحزب الأمة الإصلاح والتجديد، وفصائل رئيسة من الحزب الاتحادي الديمقراطي مثل تيار الأستاذ علي محمود حسنين، والحزب الشيوعي السوداني وحزب البعث العربي الاشتراكي -الاصل- كذلك الحركة الشعبية في مناطق شمال السودان بعد انسحاب مرشحيها للولاة والدوائر الأخرى. وعندما يضاف إلى ذلك عدم اعتراف جميع المشتركين في الانتخابات بالنتيجة جراء التزوير والفوضى التي لازمت عملها مثل الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي غادر رئيسه السودان غاضباً ومحتجاً على عدم نزاهة العملية، والحزب القومي السوداني وحزب المؤتمر الشعبي، وكل الأحزاب التي شاركت في العملية بعلاتها تقريباً، فإنها تعتبر انتخابات فاشلة، وهو ما تمثل في الموقف الموحد الذي اتخذته قوى المعارضة بعدم الاعتراف بنتائج الانتخابات وما يترتب عليها، واتفاقها على إعداد كتاب للشعب السوداني يحوي حالات التزوير والتلاعب التي تمت في العملية الانتخابية. إذن فالانتخابات قد فشلت في تحقيق مشاركة حقيقية للأطراف التي تمثل أوسع قطاعات الشعب، وبالتالي جاءت النتيجة بشكلها الحالي وكأنما حزب المؤتمر الوطني قد نافس نفسه ليفوز عليها. ثم إن إشاعة جو عدم الاطمئنان واحتمالات حدوث فوضى أمنية أثناء العملية الذي روجت له الحكومة قبيل العملية، قد أسهم بقدر كبير في مغادرة أعداد كبيرة جداً من المواطنين للعاصمة وبعض المدن، خشية انفلات الاوضاع، وارتفعت اسعار السلع في الاسواق وساد جو من التوتر لم يكن هناك ما يبرره على الاطلاق، فالانتخابات في أي مكان هي فرصة للحراك والحوار والتوعية والتنوير بأريحية كاملة. وقد مارسها السودانيون بالذات قبل «الإنقاذ؟!» لأربع مرات، وكانوا مدرسة للبلدان النامية في ادارة الانتخابات والتعامل مع نتائجها. وعزوف الاحزاب والمواطنين عن المشاركة الحية في العملية الانتخابية الأخيرة، مرده الى أن السودانيين لهم تجربتهم الراسخة في الانتخابات لا تشبهها الانتخابات الانقاذية. وكون الانتخابات الحالية قد جاءت بعد عقدين من الزمان، فهذا لا يبرر كل هذه الممارسات الفوضوية التي سادت، فآخر انتخابات 1986 كانت قد جرت بعد أكثر من «15» سنة أيضاً والتي قبلها بعد انقطاع ست سنوات، وكلها فترات انقطاع بفعل الديكتاتوريات، فالسودانيون لا يتعلمونها من الصغر، وكون نسبة الامية عالية فقد كانت أعلى في المراحل السابقة، ويجوز لنا هنا أن نسأل أين ذهبت الثورات التعليمية إذن..؟! وفشلت العملية الانتخابية في دفع الأمور باتجاه الاستقرار السياسي، لأنها لم تتوفر فيها أدنى ما توفر للانتخابات السودانية التي قبلها، ولأنها جرت بطريقة شاذة وغريبة، حيث يصرُّ طرف واحد على إدارة الانتخابات بما يضمن بقاءه واستمراره في السلطة فقط، وليس بما يؤسس لتداول سلمي ديمقراطي حقيقي للسلطة في السودان. فقد أصرَّ حزب المؤتمر الوطني على خوض العملية من قمة السلطة، وهذا وضع غاية في الشذوذ والغرابة، وأصرَّ على تشكيل لجان إدارة العملية بما يضمن له إدارتها والتحكم في مخرجاتها، وأصرَّ على توظيف إمكانات الدولة السياسية والمالية والأمنية والإعلامية لخدمة حملته الانتخابية وتسويق مرشحيه. فهذه ليست منافسة انتخابية بأية حال من الأحوال. والانتقال بالموضوع إلى جدل ومغالطة حول استيفاء المعايير الدولية من عدمه لا يفيد شيئاً، فهي لم تستوف المعايير السودانية، وهو ما دفع الناس إلى الابتعاد عنها. ومحاولة الاختفاء خلف الرقابة الدولية والمراقبين الدوليين لن يغيِّر حقيقة كون هذه الانتخابات قد حُرفت عن هدفها الرئيسي كمتلازمة ضرورية للاستقرار السياسي في البلد، وانضافت الى كوم الأزمات الكبيرة التي يتفنن جماعة الإنقاذ في انتاجها بين حين وآخر. وسبب فشل هذه الانتخابات، هو أن الأطراف الرئيسة في الملعب السياسي السوداني الراهن «الولاياتالمتحدة والمؤتمر الوطني والحركة الشعبية» قد تعاملت معها بما يخدم أجندة كل طرف فقط، والبحث عن صيغة لعدم تقاطع هذه الأجندات بأي شكل من الاشكال، وأيضاً بما يضمن استمرار دور كل طرف بعد الانتخابات. فالولاياتالمتحدة يهمها استقرار الأوضاع في السودان بما يؤمِّن لها السيطرة على الموارد النفطية في المناطق التي لم تصلها الصين او ماليزيا بعد، والسيطرة على مصادر المياه باعتبار أن الأخيرة تمثل مادة الحرب القادمة في غضون العقدين القادمين. وهذه السيطرة لن تتوفر إلا بتفكيك السودان بحيث يتحول كل إقليم فيه إلى دولة صغيرة ناشئة لا تقوى على تسيير أمورها بدون وصاية دولية ومساعدات وإغاثات. وهذا ما يمكن قراءته بسهولة في البنود والبروتكولات «المفخخة» التي امتلأت بها اتفاقية نيفاشا 4002م ونيفاشا 5002م، حيث تؤسس الاتفاقية إلى فصل جنوب السودان عن بقية القطر عبر صيغة الاستفتاء على تقرير مصير «شعب» جنوب السودان، ثم تنتقل الصيغة الى ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق تحت مسمى المشورة الشعبية، وهي صيغة حمَّالة أوجه وخميرة صراع. ولضمان استمرار التحكم الاميركي في تسيير الأمور خُلقت من منطقة أبيي قنبلة موقوتة ذات صلة مباشرة بين شطري السودان والشمال والجنوب. وليت البرنامج الاميركي يتوقف عند هذا الحد، ولكنه يتعداه الى اقليم دارفور الذي تنشط الادارة الاميركية في تقرير مستقبله بذات الطريقة التي انتهجتها مع الأوضاع في الجنوب. فمقترح غرايشن «المبعوث الاميركي للسودان» بإقامة الانتخابات في دارفور بعد عامين من الآن لا يخرج عن الجدولة الاميركية لمراحل تفكيك السودان. حيث انه بعد عامين واذا ما سارت الامور بالطريقة التي تسير عليها الآن، فإن الجنوب سوف يكون قد انفصل عن الجسم الأم، وتشكلت وضعية جنوب كردفان والنيل الازرق تبعاً لذلك، وبالتالي تكون الساحة الدارفورية مهيأة للحاق بمسلسل الانقسام والتفتيت. وهذه الاجندة الاميركية ضمانة تحقيقها هي استمرار حزب المؤتمر الوطني في الحكم، لأنه الأكثر استعداداً للتجاوب مع هذه المطلوبات الاميركية في السودان، وكذلك استمرار سيطرة الحركة الشعبية لتحرير السودان على جنوب السودان تمهيداً لفصله وصياغة الدولة الجديدة على النهج الاميركي المطلوب. إذن فالأجندة الاميركية للسودان لا تدخل ضمنها وحدة واستقرار البلد ولا حرية مواطنين ولا معايير انسانية للحياة، بل تتقاطع معها كلية لأنها تتأسس على اضعاف البلد وتفكيكه حتى تسهل السيطرة عليه واستنزاف موارده. أما المؤتمر الوطني الذي هو امتداد لانقلاب «الانقاذ؟!» على النظام الديمقراطي الشرعي في 1989م، فإنه يعنيه من العملية الانتخابية أولاً الاستمرار في الحكم باية كيفية من الكيفيات، لأن المنظومة الانقاذية قد تحولت بعد عقدين من الحكم المنفرد واليد «المطلوقة» في البلد، إلى طبقة جديدة من الرأسمالية الطفيلية التي تفتح لها السلطة أبواب الثراء السريع الفاحش وتحميها «أي السلطة» أيضاً. وهو ما لخصه الدكتور التيجاني عبد القادر في كتابه «نزاع الإسلاميين في السودان-الجزء الاول» بمثلث الاقتصاد والقبيلة والأمن. أي أن المؤتمر الوطني الحاكم تمثل السلطة بالنسبة له مسألة حياة أو موت، لأنها ترتبط ارتباطاً مباشراً بالمصالح الاقتصادية الشخصية لجماعته التي ليس لديها أدنى استعداد للتفريط فيها ولو ضاعت البلد كلها. ويهمه ثانياً اكساب حكمه شرعية من الشعب «حقيقية أو زائفة لا يهم» لأن انعدام هذه الشرعية فرض عليه عزلة جماهيريه لسنوات عديدة، بحيث لم يستطع المؤتمر الوطني باعتباره حزبا حاكما ان يتغلغل في نفوس الناس ويحوز على تقديرهم واحترامهم، بل على العكس يعاني رموزه في أغلب المناطق والمواقع الانعزال حتى من أقرب الاقربين. والحركة الشعبية بصفتها طرفا ثالثا وشريكا أكبر يهمها من العملية الانتخابية بدرجة أساس، التوقيع على قانون الاستفتاء الذي بموجبه سوف ينفتح الباب أمام الانفصال المتداعي، ولذلك كلما اقتربت الحركة الشعبية من القوى الوطنية المعارضة للمؤتمر الوطني، ابتزها الاخير بقانون الاستفتاء، فمجرد أن أعلن الرئيس عمر البشير أنه في حال تأجيل الانتخابات فإن حزبه سوف يعرقل عملية الاستفتاء انسحبت الحركة من مطلب تأجيل الانتخابات وسايرت العملية بعلاتها، وادارتها بطريقة أسوأ مما هو في الشمال، بحيث لم يعد هناك فرق بين الحركة في الجنوب والمؤتمر الوطني في الشمال في ما يتعلق بموضوع الانتخابات. وللموضوعية فإن الحركة الشعبية تختلف بقدر كبير عن المؤتمر الوطني من حيث تعاطيها مع الشأن الوطني ورغبة تيار واسع فيها في خلق ارضية سليمة للاستقرار السياسي والاجتماعي في السودان، في مقابل دفع سلبي عنصري انفصالي من قيادات نافذة في حزب المؤتمر الوطني الحاكم. ولكن الخلاصة هي أن التيار النازع للانفصال لا يزال هو الأقوى داخل الحركة الشعبية، وهو ما تريده الولاياتالمتحدة والمؤتمر الوطني معاً. إذن فهذه الانتخابات لا علاقة لها بتحول ديمقراطي ولا بمطلوبات الشعب السوداني الملحة، وبالتالي فهي لا تعني سوى من أصروا على إعدادها هكذا «بمن حضر» ولم تتوفر فيها مناخات الحرية ولا شروط النزاهة أو المنافسة المتكافئة. إنها لا ترقى إلى أن يُطلق عليها وصف انتخابات بالمعايير السودانية، لأنها لا تختلف عن الانتخابات «الإنقاذية؟!» التي سبقتها في 1998م، إنها انتخابات لخدمة الأجندة الأميركية في السودان والمنطقة، مثلها الانتخابات التي تتبناها أميركا في البلدان التي تحتلها مثل العراق وأفغانستان.