تدل مؤشرات النتائج الانتخابية التي أعلنت حتى نهار الجمعة (23/4) أن حزب المؤتمر الوطني سيكتسح الانتخابات بكل مستوياتها في شمال السودان بنسبة قد تصل إلى 90%، وهي نسبة غير مسبوقة في كل الانتخابات التعددية الخمس (53، 57، 65، 68، 86) التي جرت في البلاد منذ الاستقلال. ولم يشك المراقبون منذ مدة بأن المؤتمر الوطني سيكون الحزب الأكبر في هذه الانتخابات ولكن النتيجة فاقت كل تقديرات المراقبين بما فيهم الكثيرون من قيادات المؤتمر الوطني أنفسهم. والسؤال الذي دار في أذهان الكثيرين: هل هذه النتيجة حقيقية بمعنى أنها تعكس الرغبة الحرة للناخب السوداني الذي شارك في هذه الانتخابات؟ أم أنها جاءت نتيجة لعملية تزوير منهجية واسعة النطاق. دعنا نبدأ بالفرضية الثانية وهي أنها نتيجة لتزوير واسع النطاق. ما هي الأدلة التي تؤيد هذه الفرضية؟ أول هذه الأدلة طبيعة المؤتمر الوطني نفسه وقابليته لممارسة التزوير. فقد بدأ المؤتمر الوطني تكوينه منذ أوائل التسعينيات كحزب شمولي وحيد قام على قاعدة تنظيم عقائدي يهمه نشر عقيدته بين الناس أكثر مما تهمه الديمقراطية أو الحرية أو حقوق الإنسان، وتمكن من السلطة عن طريق انقلاب عسكري انقض على نظام ديمقراطي منتخب وارتكب في سبيل السلطة كل ما ترتكبه الانقلابات من كبت للحريات وقمع للمعارضين، ولم يقبل بالتعددية السياسية الحقيقية إلا بعد أن أجبر عليها في اتفاقية السلام الشامل ومع ذلك تمنع إلى اليوم عن تعديل القوانين المقيدة للحريات وتأسيس مفوضية حقوق الإنسان. ولم يتورع في السابق عن طبخ وتزوير انتخابات الطلاب والنقابات والاتحادات، بل وانتخابات القياديين داخل المؤتمر الوطني نفسه! وثاني الأدلة هو الأدوات العديدة التي أتيحت له ليمارس عبرها ما يشاء من عبث بنتائج الانتخابات: من هذه الأدوات عضوية مفوضية الانتخابات التي اختارها بعناية من عناصر محترمة ومثقفة وغير منتمية للأحزاب القائمة ولكن لم يعرف عنها الدفاع عن الحرية والديمقراطية، ولا تستنكف عن المشاركة في الأنظمة العسكرية وقد سبق لبعضهم التعاون مع السلطة القائمة إبان نسختها الشمولية المغلظة، كل لجان الانتخابات على مستوى الولاية والمحلية والدائرة جاءت متعاطفة أو منحازة للمؤتمر الوطني في الشمال أو مع الحركة الشعبية في الجنوب، وكذلك الجهاز الإداري الذي أشرف على العملية الانتخابية بكاملها أثناء التسجيل والاقتراع. كما أن أجهزة الدولة التي ترتبط بالعملية الانتخابية من حكومات الولايات والخدمة المدنية والقضاء والقوات المسلحة والشرطة والأمن والإعلام مجيرة لمصلحة الحزب الحاكم في الشمال والحزب الحاكم في الجنوب بدرجة من الدرجات رغبة أو رهبة. توفر هذه الأدوات ذات السلطة والتأثير لا تعني بالضرورة أنها قد استغلت لتزوير الانتخابات بصورة منهجية واسعة لكن توفرها يعني قابليتها للاستعمال إذا دعت الحاجة وتوفرت الرغبة عند الحاكمين في أي من مستويات الحكم، ويعني منطقية إثارة التهمة ضد الحزب الحاكم الذي برهن سلوكه في الماضي أنه ليس فوق الشبهات حيال مثل هذه الممارسات السياسية المعيبة! ويتبع ذلك تساؤل مشروع: هل كان المؤتمر الوطني في حاجة لتزوير الانتخابات في الشمال؟ لقد بدأت قيادة المؤتمر الوطني بعد توقيع اتفاقية نيفاشا متخوفة جداً من الانتخابات التي قرر لها نهاية السنة الثالثة (عدلت في جدول التنفيذ إلى نهاية السنة الرابعة) من بداية الفترة الانتقالية (يوليو 2005م)، وكانت تخشى من التدخل الأجنبي لمصلحة الأحزاب المنافسة كما كانت تخشى من عقوبة الجماهير لها نتيجة الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها في دارفور والمرارات التي تسببت فيها نتيجة سوء معاملتها للمعارضين لها ومظاهر البذخ والفساد التي انتشرت حول كثير من المسئولين. ودفعها ذلك الخوف إلى استعداد ضخم وجهد جبار من أجل كسب الانتخابات ابتداءً من السنة الأولى للفترة الانتقالية. تمثل ذلك الجهد في إعادة رصد عضوية الحزب على مستوى الأحياء/القرى والمناطق والمحليات ثم الولايات، وكونت لجان انتخابية على مستوى الأحياء/القرى والمناطق والدوائر الانتخابية والولايات والمركز. وقد توفرت لي بعض الإحصاءات عن ولاية الخرطوم التي تضم 7 محليات: بلغت عضوية المؤتمر التي تحمل بطاقته حوالي 800 ألف، طلب من الأعضاء الملتزمين (حوالي ربع العضوية) أن يتعهد كل منهم بإحضار 10 مؤهل للتصويت ليسجل اسمه في كشف الناخبين ويوفر له الوثيقة الرسمية التي تثبت شخصيته (بطاقة شخصية أو جواز سفر وذلك قبل أن تتنازل المفوضية وتعتمد شهادات السكن التي لا تكلف مالاً ولا جهداً!) ثم يتولى إحضارهم في أيام الاقتراع للتصويت، بلغت الأعداد التي سجلها المؤتمر في ولاية الخرطوم بين 60% إلى 70% من جملة المسجلين بالولاية، وتعرضت القيادات القاعدية لأكثر من 50 دورة تدريب في السنوات الثلاث الماضية شملت موضوعات الخطاب السياسي ونظم الانتخابات وقانون الانتخابات والعملية الانتخابية وطريقة الاقتراع وكيفية الاستقطاب للشرائح المختلفة وسلم كل قيادي مادة كل دورة مكتوبة ومسجلة في سي دي. وأسست مكتبة سياسية في 72 منطقة (كل محلية فيها بين 7 إلى 10 مناطق)، وقام التنظيم بعقد أكثر من 20 ألف منشط سياسي على مستوى الأحياء والمناطق في السنوات الثلاث الماضية. وبذل التنظيم جهداً مقدراً في كسب رموز الطرق الصوفية والإدارة الأهلية واللجان الشعبية والأندية الرياضية وأئمة المساجد والفنانين والشعراء وفقاً لخطة مرسومة وبرامج محددة، ونالت هذه الجهات حظها من التبرعات والمساعدات والإكراميات كل على حسب قدره وتأثيره! بل (كوش) التنظيم على مجالس إدارات أكثر من نصف الأندية الرياضية ومعظم رؤساء اللجان الشعبية. ولم تكن الموارد المالية أو معدات الحركة والعمل تشكل أية مشكلة بالنسبة للعاملين في التنظيم فقد توفرت بأكثر مما يطلبون! وذلك بالإضافة إلى الحملات المركزية والنشاط الإعلامي والخدمات والمساعدات التي تقدمها الحكومة والمرشحون في المناطق والدوائر الانتخابية المختلفة. وقد توفر لي الإطلاع على نتائج استطلاع للرأي حول التصويت في الانتخابات كلف به المؤتمر الوطني جهة مهنية، أجرى الاستطلاع بين يوليو وأكتوبر 2008م وكان السؤال: لمن ستصوت في الانتخابات القادمة؟ شمل الاستطلاع 22587 شخصاً مؤهلاً للتصويت في 15 ولاية شمالية و 7 من عواصمالولايات الجنوبية. أسفرت نتيجة الاستطلاع عن الآتي: 43% لهم ميول حزبية أفصحوا عنها، 47.5% لا ميول لهم، 9.4% امتنعوا عن الإجابة. جاءت نتيجة الذين أفصحوا عن ميولهم الحزبية على النحو التالي: بين سكان المدن في الشمال والجنوب بلغ تأييد المؤتمر الوطني 57.7%، تليه الحركة الشعبية 23.8%، حزب الأمة القومي 7.8%، الاتحادي الديمقراطي 4.9%، المؤتمر الشعبي 2%. وبالنسبة للميول الحزبية في الريف (الاستطلاع لم يشمل الريف في الجنوب) حصل المؤتمر الوطني على 82%، يليه الأمة القومي 7%، الاتحادي الديمقراطي 2.9%، الحركة الشعبية 2.4%، المؤتمر الشعبي 06%. وكانت الحصيلة على المستوى القومي (الريف والحضر): المؤتمر الوطني 65%، الحركة الشعبية 17.4%، الأمة القومي 7.5%، الاتحادي الديمقراطي 5.5%، المؤتمر الشعبي 1.6%. يتضح من نتائج هذا الاستطلاع أن المنافسة بين المؤتمر الوطني وبقية الأحزاب خاصة الشمالية (الحركة الشعبية حسب الاستطلاع كانت التنظيم الأول في كل الولايات الجنوبية عدا ولاية غرب بحر الغزال حيث تفوق عليها المؤتمر الوطني بدرجتين) كانت محسومة سلفاً لمصلحة المؤتمر الوطني. يعزى ذلك إلى هيمنة المؤتمر الوطني على مقاليد السلطة لأكثر من عشرين عاماً، وما تبع ذلك من تواصل طويل ومكثف مع الجماهير في غيبة القوى السياسية الأخرى، وما أتاحته السلطة من توظيف وتدريب عشرات الآلاف من الكوادر في مواقع الدولة المختلفة، وما جلبته من موارد مالية لا حدود لها في حين كانت الأحزاب تعاني من الفقر المدقع الذي حال دون قيامها بالحد الأدنى من النشاط السياسي المطلوب أو التواصل مع قواعدها في أنحاء السودان المختلفة أو القيام بواجب تسجيل الناخبين كما ينبغي. وزاد الطين بلة انشقاقات الأحزاب المتوالية إلى مثنى وثلاث ورباع مما طعن في مقدرتها على إدارة الدولة واحتواء التنوع العرقي والثقافي والسياسي الذي تذخر به البلاد، وفشلت أحزاب المعارضة في اتخاذ موقف موحد في العديد من القضايا الهامة وعلى رأسها الانتخابات واتسمت مواقفها بالتردد والانتهازية والنظرة الحزبية الضيقة. وجاءت انسحابات الحركة الشعبية والأمة القومي والإصلاح والتجديد والحزب الشيوعي من خوض الانتخابات بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير فقد كانت القاضية لكل تنافس محتمل في كسب الانتخابات. نخلص من هذا الاستعراض إلى أن المؤتمر الوطني ما كان يحتاج إلى تزوير لكسب هذه الانتخابات، وبلغت به الثقة بالنفس في الأيام الأخيرة قبل الانتخابات حداً جعله يخشى من عدم خوض الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي للانتخابات بدلاً من أن يخشى منافستهما! وقام بدفع أموالٍ مقدرة لكلا الحزبين العريقين حتى يخوضا الانتخابات ضده فتقدم أحدهما وتراجع الثاني. كان يخشى منافسة الحركة الشعبية على رئاسة الجمهورية وليس على مستوى المجالس التشريعية وحكام الولايات الشمالية ولكن قطاع الشمال أفسد الصفقة التي تمت مع قيادة الحركة. ولكن هل هذا يعني أن المؤتمر الوطني لم يمارس أي قدر من التزوير أو الأساليب الفاسدة في هذه الانتخابات؟ لا يستطيع شخص عاقل أن يدعي ذلك مهما كان تحيزه للمؤتمر الوطني بما في ذلك بعض قادته، ولكنها تظل ممارسة محدودة لا تؤثر في النتيجة العامة للانتخابات التي كان سيكتسحها المؤتمر الوطني في كل الأحوال. وأحسب أن بعض قصص الممارسات الفاسدة التي تناولتها الصحف وشرائط الڤيديو وصفقة انتخابات النيل الأزرق قد تكون صحيحة وتطعن في تمام نزاهة الانتخابات ولكنها لا تدل على بطلان نتيجتها الكلية في عكس التفويض الشعبي الحر. أما انتخابات الجنوب فقد كانت أقوى منافسة بين المرشحين مقارنة بالشمال ولكنها جاءت أقل نزاهة وعدلاً والتزاماً بالقانون. والسؤال الهام هو: كيف تتعامل القوى السياسي المختلفة مع بعضها البعض عقب هذه الانتخابات؟ هل سيستمر التوتر والاحتقان السياسي الذي يؤدي إلى عدم الاستقرار وإلى تعطيل حل مشكلة دارفور وإلى التراجع عن هامش الحريات الذي ساد في الأسابيع الماضية؟ أم أن قدراً من العقلانية والنضوج سيتنزل على قياداتنا السياسية فتعمل معاً من أجل السلام والوحدة والاستقرار والتنمية. نسأل الله لهم الهداية.