لقد إمتلأت الساحة بالإتهامات للحزب الحاكم بأنه قد قام بتزوير الإنتخابات مما أحدث ربكة أخرجت الغالبية عن الموضوعية فى التناول وبتنا نقدم العاطفة أو الذات بدون التمعن بتجرد لما حدث وكيف حدث وماهى الأسس والأساليب التى تمكنت معها السلطة الحاكمة من توجيه عمليات التسجيل ثم التصويت لصالحها! فالنصر الذى حققه الحزب الحاكم نتيجة ماقام به دفع بغالبية من تناولوا القضية بالتشريح والتحليل إلى التركيز على الكارثة دون إعطاء العقل براح التفكير بتروى وحذر لإحتواء الأزمة والوصول إلى مخرج ! فى غمرة الحماس وكرد فعل للضربة القاسية التى وجهها الحزب الحاكم للشعب السودانى سبق أن نادينا بالخروج إلى الشارع فى محاولة لرد ما نهب منا نهارا جهارا ، وذلك أسوة بما حدث فى إيران بعد الإنتخابات الأخيرة أو كما حدث مؤخرا فى قرغيزيا ! بالطبع لم يخرج الشارع السودانى . وبالتالى لايجب علينا السكوت عن ذلك الموقف بدون البحث فى الأسباب التى جعلت هذا الشعب الذى إنتفض فى أكتوبر 1964 وأبريل 1985 أن يقف حائراَ ولم يحرك ساكنا فى هذه المرة! أن موقف الشارع السودانى تجاه ماحدث لايجب أن يمر علينا مرور الكرام بدون وقفات للمراجعة والغوص فى المسببات . فى نظرى لم يخرج الشارع السودانى برغم التغول البيين على حقوقه من قبل السلطة الحاكمة لعدة أسباب يمكن ان نجملها فى الآتى : عدم خروج الجماهير إلى الشارع كان نتيجة إقتناعها بأن سلطة الإنقاذ قد ظلت فى الحكم لفترة تزيد عن العقدين إستولت خلالها على كل شاردة وواردة فى إقتصاد البلاد ، أى أكلت من المال العام إلى حد التخمة وهذا ماسيجعلها مكتفية بما إستولت عليه وبالتالى ستولى إهتمامها فى الفترة اللاحقة للإنتخابات لرفعة شأن المواطن والخروج بالوطن من تيحه الفاقة إلى براح النمو الإقتصادى الذى سيمتد أثره إلى كل مواطن !؟ أنصار ذلك الزعم يقولون بأن من سيأتى بعد الإنقاذ سيبدأ من جديد فى نهب إقتصاد البلاد وسيحتاج إلى سنين عددا لتمتلء الجيوب ثم بعد ذلك ربما يلتفت لهذا الشعب المغلوب على أمره ! وإذا تساءلنا من أين أتت مثل تلك الأفكار المحبطة !؟ ستكون الإجابة قطعية بأن التاريخ لايرحم ، فقد سطر فيه أن كل من أتى إلى الحكم منذ الإستقلال قبع فيه ينهب من خيرات البلاد ولم يغادر مكانه إلا بعد أن ضج الشارع نتيجة الفساد والرشاوى والمحسوبيات التى مابارحت حقبة من الحقب إلى أن مل الشعب وزهد فى كل النظم السابقة التى لم تنصفه ولم تعطه حقه ! إلى أن وصل الحد ليقول الشارع أن السودان يحتاج إلى ملائكة تحكمة تخاف فيه الله وعندها فقط ربما يجد فرصة للنماء ! ونتساءل أيضا: من الذى أوصل الشارع إلى ذلك الحد وإلى درجة الكفر بأى قادم يطلب فرصة للحكم !؟ إذا ألقينا اللوم على القيادات التقليدية فسنجد أنها لم تتقدم فى يوم من الأيام لقيادة الشارع ، بل على العكس تقف متفرجة إلى أن تنضج الطبخة ثم تأتى إلى المطبخ لتغرف فقط ، وربما تحتاج إلى من يغرف لها لتأكل على الجاهز! جانب آخر من الممكن أن نسوقة لنتبين أسباب عدم خروج الشارع لأخذ حقة بإنتفاضة أو ثورة أو حتى بإنقلاب عسكرى، هو خوفه من النتائج وليس المقدمات ! فى المقدمات فالشعب السودانى مستعد فى ية لحظة أن يقدم الفداء فى سبيل حريته وكرامته ، ولكنه يخاف النتائج ! ومن النتائج أن بعد التغيير الذى سيحدثه ستأتى نفس القيادات القديمة التقليدية وتقفز على السلطة، وكأن الكرسى مخصص لها فقط دون العالمين! وكأن حواء السودانية لم تلد غيرهم ! وبالتالى يمكننا القول بأن الشارع السودانى قد ضاق بتلك الزعامات التقليدية التى تبيع وتشترى فيه بدون عائد يأتى حتى وإن كان ثمن " عتق رقبة " ، وإذا كان العائد لاشئ ، فلماذا يقاتل الشارع من أجل أن يحرك الصفر يمنة أو يسره!؟ لذا فاليبقى الصفر فى مكانه إذا كان حاصل القسمة أو الطرح أو الضرب سيظل على حاله ، وبالتالى علام التغيير !؟ خاصة إذا كان التغيير سيكون ممهورا بالدم وبلامقابل !؟ دعونا نعترف هنا حتى وإن كان مستوى التعليم قد تدنى فى عهد الإنقاذ إلا أن درجة الوعى قد إرتفعت إلى مدى بعيد وذلك ليس بسبب إجتهاد السلطة ولكن بفضل عوامل عدة منها درجة التعامل فى الأسواق دفعت بالمواطن لمعرفة أرقام فلكية لم يعهدها للشراء والبيع أو حتى سماع شراء أو بيع بملايين ومليارات الجنيهات ! أرقام لاعهد له بها قبل الإنقاذ ! ثم هناك وسائط الإتصال التى غيرت فى المفاهيم بدرجة كبيرة ! كرد فعل للتداخل الذى يشهده العالم الذى أصبح كقرية واحدة إذا لم يكن كل فرد فيها يعرف كل شئ فهو على الأقل يعرف بعض الشئ . وهذا البعض أهل الفرد للتمييز بين الصالح والطالح ومكنه من الموازنة والإختيار . فالهاتف النقال " الخلوى " ربط سكان القارات ببعضهم البعض ، وكذلك التلفاز بما يقدمة من برامج إنتشرت كإنتشار النار فى الهشيم بفضل الأقمار المتعددة التى ربطت عالم الشمال بعالم الجنوب والعكس . ثم الراديو الذى ربما بات من الوسائط الأقل أهمية ، بالإضافة إلى أجهزة الحاسوب التى وفرت للمتلقى فرص متعددة عبر الإنترنيت للحصول على المعلومة وهو قابع فى مكانه وبأقل جهد . كل تلك الوسائط وغيرها خلقت نوعا من الوعى لدى الشعوب وبالتالى أثرت فى المفاهيم فأصبح التعامل مع الشعوب يستدعى تغييرا فى الأسلوب لم تتمكن معه القيادات التقليدية فى السودان من إيجاد التوليفة التى تمكنها من القدرة على التعامل مع الوضع الجديد ، ناهيك عن صنع القرار ! لقد كانت القيادات التقليدية تسبح فى مياه شبه ركدة مما ساعدها على العوم لأعوام عديدة ، ولكن فى هذا الزمن الذى تتلاطم فيه الأمواج تصعب عليها ركوب البحر وبالتالى لم تتمكن من قيادة الجماهير ، لذا يتوجب عليها أن تعيد النظر فى مواقفها وأن تتخذ أحد قرارين كلاهما مر ، إما تطوير نفسها وإفساح الفرص للقيادات الشابة ، أم الإنزواء والتسليم بأن الموت هو النهاية المحتومة . قيادات الشمال التى سبق أن نوهنا فى مقال سابق بأن السباق قد أنهكها فمشت فى ركب الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق الذى عرف كنهها وبالتالى نجح فى التعامل معها مرحلياً إلى أن قضى وطره منها وإنصرف إلى غيرها ، لا أخال أنها قد تعلمت الدرس، فرأيناها تتسابق مرة أخرى إلى " جوبا " وشربت من نفس الكأس ولكن فى هذه المرة من سلفاكير بفضل مستشاريه من الذين واكبوا جون قرنق وساعدوه فى رسم مخططاته ! والذىن بلاشك إستفاد منهم الحزب الحاكم بطرق مباشرة أو غير مباشرة فى رسم سياساته وبالتالى فى كيفية التعامل مع الأحزاب التقليدية الشمالية التى تفهموها جيدا فخبروا أن البعض منها لايهمه إلا المنصب حتى وإن كان بدون أعباء ! فبدأ يرمى شباكه ذات اليمين وذات الشمال وفى كل مرة يخرج بصيد سمين يسهل عليه مهمته فى الحكم ! ومثالا على ذلك ماحدث إبان مفاوضات نيفاشا حيث قالها الحزب الحاكم صراحة أن " قطار الإنقاذ قد غادر المحطة فمن يود اللحاق به عليه الإنتظار فى المحطة القادمة " وبالطبع رأينا كم من المتسلقين كانوا فى إنتظار قطار الإنقاذ فى محطات لاحقة ، وبالرغم من ذلك ظل " كمسارى " القطار ينتقى منهم من يشاء ويترك من يشاء وكل يركب أو يبقى بخيباته التى أثرت كثيرا فى حصاد سنين هذا الشعب المقهور ! ومن أسباب عدم خروج الشارع السودانى ليعبر عن إستهجانه لما حدث فى الإنتخابات ونتائجها هو إحباطه مما قامت به الأحزاب من معارضة هشة حيال ماحدث فى أثناء التسجيل ثم تردد البعض فى المشاركة من عدمها ومقاطعة البعض لأسباب واهية لاترقى إلى المستوى الذى يمكن أن يقتنع به الشعب ليقف مساندا لها ، ومن ذلك المطالبة بالتأجيل لعدة أسابيع ثم لعدة أيام ، ومنهم من تقدم بشروط فى غير موعدها الشئ الذى دفع بالحزب الحاكم إلى الضرب عرض الحائط بكل ما أتت به تلك الأحزاب لميوعة مادفعت به مما أظهر للشارع السودانى عدم جدية وجدوى مطالبها ! أما العنصر الحاضر الغائب كان الموقف الدولى الذى برغم قرار المحكمة الدولية نجحت الإنقاذ بشتى الطرق إلى إستقطاب المنظمات والمراكز العالمية للإعتراف بأنه بالرغم مما شاب الإنتخابات من إنتهاكات إلا أنها لاتعترض على النتائج ! السبب الواضح أن تلك المنظمات ومن خلفها دول عدة تريد العبور من جسر الإنتخابات إلى إستفتاء عام 2011 لضمان التصويت لإنفصال الجنوب عن الشمال ! إن كان هذا هو السبب الحقيقى أو غيره وراء وقوف تلك المنظمات والهيئات مساندة لنتائج الإنتخابات ، فأين كانت أحزاب الشمال من ذلك المخطط أو من غيره !؟ فالدعم الخارجى لتحريك الشعوب بات من ضمن العناصر التى يجب توافرها لإنجاح المحاولة . فالدعم الخارجى الذى كان ينظر إليه بأنه " عمالة " أصبح فى الوقت الراهن أحد العناصر الهامة التى تحتاجها الشعوب وليس وقفاً على الحكومات . وهذا الدعم لم تمهد له قيادات الأحزاب المعارضة التى ظلت تعمل بمعزل عن مراكز القرار فى العالم ، وبالتالى تركت الساحة للحزب الحاكم يسرح ويمرح كيفما يشاء! وبذا أصبح الشعب يؤمن إيماناً راسخاً بأن قياداته التقليدية ماعادت لها القدرة على التأثير فى الداخل أو الخارج! وللنظر إلى بعض المؤشرات السلبية التى تؤكد ذلك هو سفر السيد محمد عثمان الميرغنى إلى مصر والجنازه حاره والميت لم يدفن بعد ! رؤساء الأحزاب الحقيقيين فى الدول التى تعرف مامعنى الحزب وماذا يعنى دخول ممثل أو أكثر معترك إنتخابى وعدم تحقيق النصر ، فإن رؤساء تلك الأحزاب يدعون عادة إلى إجتماع عاجل مباشرة بعد إعلان النتائج وذلك لمناقشة أسباب السقوط " الهزيمة " والكيفية التى يمكن معها الخروج بأقل الخسائر النفسية وتجميع القوى من أجل المستقيل ! أما أن يولى رئيس الحزب الأدبار عائدا إلى مقر إقامته الدائم فى مصر بدون الوقوف على مدى الخسائر التى لحقت بالحزب ، هكذا وبدون محاسبة من أحد ! فهذا لم نسمع به ولم نقرأ عنه فى أدبيات العمل السياسى ! وهناك رئيس حزب تقليدى آخر أيضا شد الرحال لمناقشة قضايا ما بعد الإنتخابات مع الشقيقة مصر ، متناسيا مواقف حزبه إبان منتصف الخمسينيات من القرن الماضى عندما إحتدم الأمر حول " حلايب " ولولا حكمة الرئيس جمال عبد الناصر لنشبت الحرب بين مصر والسودان ، ثم خلافه مع مصر إبان رئاسته للوزراء فى الحقبة ماقبل الإنقاذ ومدى تأثير ذلك على العلاقات المصرية السودانية ! فهل بعد كل تلك التراكمات كان يتوقع السيد الصادق المهدى من مصر أن تدخل يدها فى جحر الثعبان بمساندته ضد البشير الذى سلمها مفاتيح حلايب بكل ترحيب ! شريطة أن تنسى مصر محاولة الإنقاذ الفاشلة ضد الرئيس مبارك وأن تعمل على مساندتها فى المحافل الدولية لإبطال أو إفشال قرار المحكمة الدولية ضد الرئيس البشير !؟ السياسة بطبيعتها متحركة وليست ثابتة ، وربما قرأ السيد رئيس الوزراء السابق أن مصر التى سافر إليها الميرغنى سيكون فى يدها عصا موسى تتمكن معها من إبطال أفعال سحرة الإنقاذ ومن ثم أن تغير سياساتها تجاه الإنقاذ بسبب تزويرها فى الإنتخابات أو بقاؤها فى السلطة برغم أنف الجميع! إذا كان التاريخ يسطر الأحداث ومسيرات الأمم فمابال القيادات التقليدية لاتعطى بالاً للتاريخ وتتحاشى تكرار سيناريوهات الماضى !؟ ومن تلك السيناريوهات رأينا كيف كان الميرغنى بالخارج يقود التجمع ثم يلحق به الصادق المهدى ثم يعود بخفى حنين ! " طبعا يقود هذه تعطى إنطباعاً حقيقيا بأن الرجل يملك من مؤهلات القيادة " والدليل على عكس ذلك هو ماقام به الراحل جون قرنق" الذى من المفترض أنه كان تحت إمرته أو قيادته " من تفاوض منفرد مع الحزب الحاكم مما أثمر عن نيفاشا ومابعدها ! وأسوق مثالا لعدم الخبرة فى القيادة ، أنه فى اواخر التسعينيات من القرن الماضى رتبت للقاء مع السيد محمد عثمان الميرغنى فى فترة تواجده فى واشنطن ، ليكون ضيفاً عبرالهاتف على برنامجى الأسبوعى فى إذاعة الشبكة العربية الأمريكية/ أم بى سى وفى اليوم التالى وقبل الموعد بعشرة دقائق قمت بالإتصال به ليكون جاهزاً للقاء السودانيين المتعطشين لسماع رئيس التجمع ، وبكل أسف وكانت الصدمة أن أتلقى رداً من أحد مساعديه يخطرنى بأن " السيد " قد ألم به صداعا مفاجئاً ولن يتمكن من إجراء اللقاء ورشح نيابة عنه الدكتور/ منصور خالد ! لقد كانت صدمتى فى ذلك السيد عظيمة ! وكذلك المستمعين الذين كانوا قد علموا عبر المذياع بموعد ذلك اللقاء! فهل ياترى أن السيد قد أوكل قبل سفره إلى مصر من ينوب عنه من خارج حزبة ليتلقى العزاء فى خسارة حزبه فى الإنتخابات !؟ أرجو ألا يكون قد فعلها وإن كان فى حالته كل فعل جائز! الشئ الذى يدعو إلى العجب هو أن كل من حزب الأمة و الحزب الإتحادى فيه من القيادات الشابة التى تمتلك كل القدرة على تفعيل الحزب والخروج به من عنق الزجاجة لو أتيحت لها الفرصة لتولى مهام قيادية فيه ، ولكن تأبى الديناصورات ومهما تقدم بها السن إلا وأن تبقى فى مكانها وترنو إلى التوريث ! فما الذى إذن يدعو الجماهير للخروج إلى الشارع معترضة على نتائج إنتخابات زورت أو حتى أخذت عنوة طالما قياداتها لازالت على نفس المنوال القديم " يافيها يا أفسيها!؟ " Ahmed Kheir [[email protected]]