مجلس الأمن يعبر عن قلقله إزاء هجوم وشيك في شمال دارفور    أهلي القرون مالوش حل    مالك عقار – نائب رئيس مجلس السيادة الإنتقالي يلتقي السيدة هزار عبدالرسول وزير الشباب والرياض المكلف    وفاة وزير الدفاع السوداني الأسبق    بعد رسالة أبوظبي.. السودان يتوجه إلى مجلس الأمن بسبب "عدوان الإمارات"    السودان..البرهان يصدر قراراً    محمد صلاح تشاجر مع كلوب .. ليفربول يتعادل مع وست هام    أزمة لبنان.. و«فائض» ميزان المدفوعات    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا "أدروب" يوجه رسالة للسودانيين "الجنقو" الذين دخلوا مصر عن طريق التهريب (يا جماعة ما تعملوا العمائل البطالة دي وان شاء الله ترجعوا السودان)    شاهد بالفيديو.. خلال إحتفالية بمناسبة زواجها.. الفنانة مروة الدولية تغني وسط صديقاتها وتتفاعل بشكل هستيري رداً على تعليقات الجمهور بأن زوجها يصغرها سناً (ناس الفيس مالهم ديل حرقهم)    اجتماع بين وزير الصحة الاتحادي وممثل اليونسيف بالسودان    شاهد بالفيديو.. قائد الدعم السريع بولاية الجزيرة أبو عاقلة كيكل يكشف تفاصيل مقتل شقيقه على يد صديقه المقرب ويؤكد: (نعلن عفونا عن القاتل لوجه الله تعالى)    محمد الطيب كبور يكتب: السيد المريخ سلام !!    حملات شعبية لمقاطعة السلع الغذائية في مصر.. هل تنجح في خفض الأسعار؟    استهداف مطار مروي والفرقة19 توضح    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الغابة والصحراء صراع الهوية ومأزق السودان الحديث ... بقلم: تيسير حسن إدريس
نشر في سودانيل يوم 06 - 05 - 2010

واهم من يظن انه يستطيع أن يقف في وجه حركة التاريخ والتطور الطبيعي لنمؤ ونضج قوانين وشروط الحراك الثوري الجماهيري ، فهذا الميكنيزم (الآلية) يظل كامنا حيا في رحم المجتمعات في انتظار توافر الشروط اللازمة ( موضوعية و ذاتية ) لنعتا قه من شرنقة الكمون و خروجه للنور ، معبرا عن ذاته في صور كثيرة و متعددة سلمية و غير ذلك من وسائل العمل النضالي. والتي قد يغيب فهمها عن البعض في حينه خاصة و أن فهم طبيعة هذه القوانين يحتاج للحد الأدنى من آلية البحث الفلسفي لحركة و تطور المجتمعات في صيرورتها و مسيرة نضالها من أجل انتزاع الحقوق و إرساء نظم للحكم راشدة يتراضى عليها الجميع، وهي عادة ما تعبر عن ذاتها في شكل ظواهر مجتمعية سياسية واسعة الخطى الشيء الذي يجعل بين طلائعها الثورية و بين عامة شرائح و مكونات المجتمع الأخرى بون يضيق و يتسع ولكنه دائما و أبدا في حركة تطور لولبية إلى الأمام.
و المتعارف عليه فلسفيا أن المنظمات السياسية من أحزاب و خلافه لا تزدهر و تتطور ولا تكتمل آليات عملها ونشاطها الفاعل إلا بتوفر الحد الأدنى من الحريات المكتسبة بديمومة الحياة السياسية الطبيعية أو المنتزعة بقوة و شراسة العمل الثوري المقصود ، ولكن في نهاية الأمر يظل شرط الحريات بمفهومه الفلسفي المجرد و المطلق العامل الأهم في عملية تطور التنظيمات السياسية و نضجها و فعاليتها لقيادة الفعل السياسي من بث الوعي و نشر التنوير واستنهاض الجماهير ولفها حول برنامج عمل يحقق لها المزيد من المكاسب المغتصبة. فهذه المنظمات السياسية إذا ما توفر لها شرط الحريات تستطيع استيعاب جوهر الحراك الاجتماعي و توجيه الوجه السليمة وصهره في بوتقة العمل الثوري الملتزم وغير المنفلت ولا المتهور لتعبر بمد الجماهير في اللحظة الحاسمة إلى بر الأمان محققة بذلك مطالب الطبقات المستضعفة و أحلام وأماني الأمة بأقصر الطرق و اقلها كلفة ، بعد أن تكون قد اكتسبت وراكمت في مسيرة نضالها كم من الخبرات تمكنها من تخليص وسائل كفاحها من الشوائب و العناصر الهدامة خاصة في المجتمعات ذات الخصائص المعقدة و غير المتجانسة و التي تتعدد فيها القوميات و الأعراق و الأديان و المعتقدات مثل مجتمعنا السوداني ، خصوصا إذا ما أبتلاه الله بنظم حكم شمولية و قهرية عمقت الفوارق الطبقية بين عناصره دينيا وعرقيا فعطلت بذلك مسيرة تطوره الطبيعي والمتمثل في انصهاره ألاثني و الثقافي الذي كان يمكن أن يكون قد أوصلنا بعد نصف قرن من خروج المستعمر إلي صياغة هوية سودانية وطنية تزيل من الأذهان تشوهات وعقد الفروق العرقية و القبلية المترسبة في أعماق وجداننا الوطني.
فمن المعيب و نحن أمة تتألف من مكونات أثنية قديمة لها بعدها الضارب في عمق التاريخ يرجع إلي أكثر من سبع ألف سنة أن لا نكون قد انصهرنا حتى الآن في بوتقة وطنية سودانية لا خلاف و لا تمييز بين مكوناتها ، فلابد لنا كمنطلق لمعالجة هذا الوضع الشاذ أن نقر و نعترف بأن المكون الزنجي كان و سيظل هو الأصل في السودان و الشاهد علي ذلك إن نوبة الشمال و الغرب والقبائل النيلية الزنجية في الجنوب هي من أقدم الأثينيات التي ثبت تواجدها في هذه الرقعة من الأرض مع عدم إغفال حقيقة أن الهجرات العربية لها تاريخها في المنطقة ، بالإضافة إلي أنها كانت عامل إضافة وليس خصم لتلك المجتمعات الأصلية حيث جلبت معها خبرات و علوم و ارث إنساني وحضاري أسهم في ترقية معارف و زيادة وعي تلك المجتمعات في حراكها الأول من أجل التطور و التحضر.
عليه فاني أرى إن الإشكال لم يتمثل ابد في ذلك الكم من الأثينيات المختلفة الذي إن وجد المواعين والأطر المناسبة لاستيعابية لأفضي بغير شك لنوع مشرف ولأصبح إضافة نوعية مهمة وحقيقية في مسيرة تطور البشرية ، إن الإشكال الحقيقي تمثل في تأخر وطريقة ولوج هذه الرقعة من الأرض لنظام الدولة الحديثة ، حين لم يتوفر لها ما توفر لجارتها الشمالية (مصر) والتي بدأت مسيرة إرساء دعائم الدولة الحديثة منذ حملة نابليون بونا برت الذي جلب معه العلماء الذين ساهموا في نشر الوعي والعلوم ونظم إدارة الدولة الحديثة و التي استكملت بعد ذلك في ظل الإمبراطورية العثمانية ، ورغم أننا قد ارتبطنا تاريخيا بما يحدث في الجارة الشمالية إلا أن أصحاب الشأن قد تجاهلوا بلادنا وأهملوها و اختاروا لنا مصير أخر حين اعتبروا أرضنا منجما كبيرا للموارد البشرية و الطبيعية فقط لا غير.
من هنا بدأت ماساتنا الوطنية و التي تمثلت في تفاوت و تضارب بل و تناقض مشاعر القوميات المختلفة المكونة للنسيج الاجتماعي السوداني تجاه الوافد من الشمال مسالما كان آم مغتصبا ، ففي حين انحازت مشاعر بعض القوميات من الهجين (المتعرب) و اتجه هواها شمالا نجد إن قوميات أخري و اغلبهم من الزنج أو الهجين (المتآزنج) قد اختاروا التصادم كلغة في تعاملهم مع القادمين إلينا من الشمال و الشاهد علي ذلك أن أغلب المكونات ذات الأصول العربية رفضت أو تأخرت في الالتحاق بالثورة المهدية التي وقفت في وجه الاستعمار (البريطاني/التركي) المتقدم من الجارة الشمالية مما جعل زعيم الثورة المهدية يلجا إلي غرب السودان حيث تتوافر كثافة للعنصر الزنجي طلبا للنصرة والغوث أما الشاهد الثاني فان الصف الأول من قادة حركة عام 1924م ما يعرف (بحركة اللواء الأبيض) التي اندلعت في وجه المستعمر البريطاني كانوا من ذوي الأصول الزنجية ( علي عبد اللطيف و عبد الفضيل الماظ وغيرهم) ومن هنا يتضح جليا إن تضارب و تناقض المشاعر الوطنية لمكونات المجتمع السوداني المختلفة تجاه مصير و قضايا الوطن الكبرى أسهم بشكل جذري و أساسي في تعطيل مسيرة اندماج و انصهار المكونات من عرب و زنج في بوتقة الوطن الواحد خصوصا في غياب الآليات الفاعلة للدولة الحديثة مما اقعد من تطور مجتمعنا و أفشل الصياغة الحقيقية للهوية السودانية. فبدلا عن الانصهار المفضي لنوع بشري نستطيع أن نطلق عليه مواطن سوداني أصيل اخترنا ثوبا مهلهلا و نسيجا باليا يعري أكثر من ما يستر عورتنا الاجتماعية و تشوهاتنا الوجدانية المنقسمة علي نفسها ما بين (غابة و صحراء) ، لقد اخترنا المراوغة و دفن الرؤوس في الرمال بدلا عن مواجهة الأسئلة الصعبة ، فأضمرنا و بلا استثناء غير ما إعلانه وتلك هي المأساة الحقيقية التي تواجه سودان اليوم.
ففي ظل معادلة وطنية غير موزونة و وجدان وطني مختل تجزم فيها المجموعات الزنجية بأن المكون العربي يمارس عليها الاستعلاء و التمييز نجد إن المجموعات العربية تعتقد بدورها أنها مهما أبدت من حسن التعامل و النوايا طيبة يظل المكون الزنجي متشككا و غير راض بل و مضمرا للحقد والسوء فسادت نتيجة لكل ذلك المشاعر السالبة من الارتياب و التخوين و تبادل الاتهامات فاحتقنت النفوس و ناءت بحملها الصدور فتفجرت الصراعات الدامية أولا بين (الغابة و الصحراء) ولاحقا بين (الصحراء و الصحراء) كما تشهد عليه هذه الأيام السوداء من تاريخ السودان الحديث.
قاد كل هذا إلي ارتداد المجتمع بكلياته ونحن ندلف للألفية الثانية إلي عصبية القبيلة و العرق حتى بين مجموعات ما يطلق عليها (الصفوة) من المثقفين و المستنيرين حيث عبرت هذه المشاعر السوداء عن نفسها بصور مخزية و محزنة داخل كثير من الأحزاب المنظمات السياسية و الشاهد علي ذلك ما عرف (بالكتاب الأسود) لمجموعة أولاد الغرب من الإسلاميين واتهامهم لأولاد الشمال داخل الحركة الإسلامية بممارسه التهميش و الإقصاء عليهم وكذلك الصراع الدائر في (حزب الأمة) أكبر الأحزاب السودانية بين (أولاد البحر) و (أولاد الغرب) نتيجة لنفس الأسباب وان تدثرت بثوب أخر و لا استثني من هذا الصراع البائس بقية الأحزاب و المنظمات السياسية والتي كان من المفترض أن تحمل مشاعل التنوير لتعبر بأمتها من النفق المظلم لأفاق أرحب من الثقة و التوحد و التقدم و الازدهار.
هذه الأمثلة المشوهة تكشف وتعرى ما وصلنا إليه من تمزق و ردة و شتات ينذر بلا شك بتفكك و تمزق أوصال الدولة السودانية، و ما الاستفتاء القادم في يناير 2011م لتقرير مصير جنوب السودان إلا رأس جبل الجليد الظاهر والمخفي أعظم إذا لم يأخذ زعماء و حكماء هذه الأمة العبرة ويتركوا الركوض وراء المكاسب الحزبية الضيقة و المصالح الشخصية الرخيصة. أن الوطن يعايش أزمة كبرى و من ما زاد الطين بله وجود نظام ظلامي استبدادي يتدثر برداء الدين و يمارس الميكافيللية في أبشع صورها فالغاية تبرر الوسيلة مهما أوغلت تلك الوسيلة في الحرام والخراب ولو أدت إلي تمزيق الوطن أربابا. فما (الحرب الجهادية) التي ابتدعوها لحشد الشباب المسلم المغرر بيه لقتال إخوانهم في الجنوب إلا صورة بائسة تشي ببؤس الفكر وفقر الوسيلة و من بعد ذلك مشروعهم الفاشي المسمى (بالحزام العربي في الغرب) و الذي يهدف لتهجير القبائل الزنجية من حوا كيرها و مناطق عيشها التاريخية و إحلال قبائل عربية مكانها و لو كانت من غير المكون السوداني الأصيل إلا دليل آخر علي قصور نظرهم و سقم فكرهم الشيء الذي أدى لدخول الوطن في أتون صراع مهلك في إقليم دارفور الذي أضحي جرحا غايرا في خاصرة الوطن وشاهد علي ضعف المعتقد الديني والحس الوطني لقيادات هذا النظام التعيس و الذي مازال يصر علي مواصلة رهانه الخاسر.
وما مسرحية الانتخابات المهزلة مؤخرا والتي بداء مسيرة تزويرها و تزيفها في اليوم الذي اقر بها مجبرا كبند أساسي لاتفاقية (نيفاشا) للسلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان التي أزلته في ميدان القتال فجاء لعملية السلام مجبرا صاغرا لا بطل إلا دليلا دامغا علي رعونته و سوء تدبيره السياسي ورغم عن ذلك لم يتخلله عن طيشه و نزقه و حيله و خداعه فقام بتزوير السجل الانتخابي و تفصيل الدوائر الانتخابية علي مقاسه وجند إمكانيات الدولة و مقدراتها لصالحه ومارس شراء الذمم وأتم مسرحيته الهزلية علي مسرح العبث بتعين مفوضية قومية للانتخابات موالية وكسيحة فنيا و أخلاقيا فتحولت انتخابات 2010م من انتخابات لمعالجة أزمة الوطن و قضايا التحول الديمقراطي إلي أزمة في حد ذاتها زادت من أزمات الوطن وأدت إلي مزيدا من الاحتقان الذي ينذر بانفجار عظيم.
ولكن رغم كل هذا الواقع المأزوم والذي خلقه و جود نظام الإنقاذ علي سدة الحكم في السودان لمدة تجاوزت العشرون عاما ،لا استطيع أن أمارس فعل النعامة و ادفن راسي في الرمال راميا بكل علل الواقع الراهن علي عاتق هذا النظام الاسلاموي وحده رغم إيماني العميق بان سياساته الرعناء قد كان لها القدح المعلى في تكريس واقع الأزمة الخانقة التي يعيشها الوطن من تعميق الهواة والخلاف بين مكونات امتنا السودانية إلي تعطيل صياغة هويتها. إلا إن جذور المشكلة والحق يقال ضاربة في القدم وقدر مقدر من وزرها الحقيقي يتحمله الرعيل الأول من ساستنا الكرام مع حفظنا لمقاماتهم و تضحياتهم و دورهم المجيد في طرد المستعمر عن بلادنا إلا أنهم لم ينتبهوا لحقيقة إن مسيرة تطور الوطن تبدءا من لحظة خروج المستعمر.
لقد اعتبروا خروج المستعمر نهاية المطاف لنضالهم وقد حان الوقت ليتفرغوا بعد هذا الانجاز للعمل علي توسيع نفوذ أحزابهم ، ويا ليتهم اختاروا التنوير ورفع الوعي طريقا لذلك ولكن للأسف اختاروا أسهل الطرق واقصرها وانشغلوا بتوزيع الغنائم وحصد المغانم ونكصوا عن الجهاد و المنافحة ضد أهم و أخطر ثالوث عرفته البشرية عبر تاريخها الطويل ( الفقر – المرض و الأمية) وأداروا له ظهورهم و انصرفوا عنه للاهتمام بالمركز و عاصمته لتثبيت دعائم حكمهم و تجاهلوا هموم و مشاكل الأقاليم و الأطراف وهمشوها وبذلك أسسوا لتنمية عرجاء و غير متوازية مما أدي لتراكم عوامل التخلف في اغلب بقاع الوطن التي تركت صريعة لثالوث الدمار.
كان لغياب برامج التنمية المتوازية للأقاليم المترامية في قطر شبه قارة و تباين اهتمام المركز بها الأثر الكبير و الخطير في تعطيل عملية دمج المكون ألاثني السوداني و صهره في بوتقة تصاغ فيها الهواية السودانية وفق معاير عادلة يتراضى عليها الجميع حيث أدى غياب هذه المعاير العادلة إلي تراكم الشعور بالإحباط و الغبن لدى السكان في شتي الأقاليم الطرفية ، ولكن قد تفاوتت حدة هذه المشاعر من إقليم لأخر للأسباب ذاتية تخص كل إقليم ، ففي حين نجد الأقاليم التي نال بعض أبناءها بجهد خاص حظ من التعليم قد أسهموا نوعا ما في تنميتها و نشر الوعي فيها نجد الأخرى موغلة في التخلف والجهل و الأمية مما فأقم من حالة الغبن الاجتماعي و الشعور بالإهمال عند أهل الأقاليم التي غابت عنها المبادرات الذاتية فلم تنل حظا من التنمية أو التعليم ، فساد في أوساط أبناءها اعتقاد بأن الحكومات المتعاقبة مدنية كانت أم عسكرية قد انحازت لأقاليم بعينها دون أخرى ولقد زاد من عمق هذا الاعتقاد أن جل قادة الحكومات المتعاقبة كانوا من أبناء الإقليمين الأوسط و الشمالي وهذا اعتقاد فيه نذرا يسيرا من الصحة و المصداقية ولكن يبقي السبب الرئيس و المباشر لحالة التفاوت في تنمية الأقاليم هو السياسات التنموية المنعدمة أو العرجاء وغير المدروسة أن وجدت و التي يتحكم فيها المزاج الشخصي للحاكم عسكريا كان أم مدنيا هرولا وراء الكسب السياسي الرخيص. ورغم عن كل ذلك نجد إن حدة هذا التفاوت بين الأقاليم السودانية المختلفة من حيث المشاريع التنموية و الشعور بالغبن الاجتماعي و التمييز العرقي في المراحل التاريخية التي سبقت وصول نظام الإنقاذ الاسلاموي اضعف صوتا واخف وتيرة.
أما الجديد و الخطير في تراكم هذه التجربة السياسية الخرقاء الذي دق إسفين في خاصرة الوطن يصعب علي المرء تصور كيفية معالجته و استئصاله وصول نظام عسكري شمولي و عقائدي ظلامي النهج والتوجه مدعوما بتنظيم عالمي لا يقل عنه ظلاما و ظلما و ضلالا ليتربع علي صدر الوطن ، فأختنق نتيجة لدلك مجرى التطور الطبيعي للوطن (السياسي و الاجتماعي) علي ضعفه و عللته فأحتضر الوطن و تفتت خلال العقدين الأخيرين و هاهو ينتظر مترقبا من أبناءه في الجنوب إطلاق رصاصة الرحمة عليه وذلك عبر استفتاء لتقرير المصير مقرر له بداية العام القادم 2011م دون إن نكون قد أنجزنا أي شيء يذكر من مهام مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية و برنامجها الطموح و الذي طالما حلمنا بيه و كنا نأمل في تنفيذه بعد خروج المستعمر.
أعود في هذا المقام وأقول إن وصول نظام الإنقاذ إلي سدة الحكم في السودان و تطبيقه لبرنامجه المشئوم الذي أطلق عليه مسمي (التوجه الحضاري) كان نكالا و وبالا علي الوطن و المواطن فماذا فعل هذا النظام البغيض خلافا لنظامان الشموليان اللذان عرفهما السودان ( نظام الفريق إبراهيم عبود 1958م و نظام مايو 1969م) حتى نصل لهذا الحال من تفكك عضد و مفاصل الدولة السودانية. لقد وصل هذا النظام كما هو معلوم للسلطة علي ظهر دبابة بالليل منقلبا علي السلطة الشرعية المنتخبة ديمقراطيا جاء مدعوما بالقوة العسكرية بعد إن خدع بعض كبار الضباط فضمن بذالك ولاء الجيش و انحيازه له ولكن ما لبث أن انقلب علي تلك القيادات العسكرية التي دعمته فقلب لها ظهر المجن بعد أن ثبت أركان حكمه مباشرا وعاث فيها قتلا و تصفيا وتشريدا لتكون أول ضحاياه و لينطبق عليها القول (علي نفسها جنت براقش) واكتفى بالدعم و الغطاء التنظيمي الذي وفره له تنظيم الجبهة القومية الإسلامية بقيادة (حسن الترابي) و تلميذه النجيب (علي عثمان) العقل المدبر لتفاصيل ذلك الانقلاب المشئوم و من خلفهم التنظيم الإسلامي العالمي بكل إمكانياته المالية و علاقاته الدولية و شعاراته الرنانة و التي تعود العب بها علي مشاعر البسطاء من أبناء الدول الإسلامية حيث ظاهرها الرحمة و باطنها الجحيم. ليدخل السودان مرة أخري في النفق المظلم عبر الفكر ألظلامي العنصري مدعوما بالتنظيم الإسلامي العالمي لتتنزل أفكار و خطط ذلك التنظيم الفاشي في محاولة جادة لتطبيقها علي شعب السودان فيتحول الوطن إلي حقل تجارب للمشعوذة و شذاذ الأفاق من السفلة من أفغان عرب و منظمات إرهابية أخري لفها جميعا تحت مظلة ما سمي (بالمؤتمر الإسلامي العالمي) الذي أصبح مقره الخرطوم و شيخه ومنظره حسن الترابي و صار الشعب السوداني فئران للتجارب في معمل الإنقاذ الإسلامي.
كان أول آيات ( المشروع الحضاري) نافثات شيطانية تمثلت في فهمهم العميق لحقيقة أن المحرك الأساسي للتغيير الاجتماعي هي الطبقة الوسطي (الطبقة العاملة الماهرة وصغار الموظفين) كما علموا أيضا انه كلما كبرت مساحة الطبقة الوسطي أصبحت إمكانية وجود مجتمع ليبرالي ديمقراطي واضح الهوية وارد، وأيقنوا من إن أخلاق و قيم الطبقة الوسطي هي محرك التحولات الاجتماعية في المجتمعات النامية ومن هنا بداء التخطيط الماكر و الذي فاق عمل الشيطان خبثا وذلك بابتداع نظرية دمج (وزارتي الشباب والرياضة والشئون الدينية والأوقاف) في وزارة واحدة و أطلق عليها أسم (وزارة الشئون الاجتماعية) تحت قيادة الوزير في حينها (علي عثمان) و الذي لم يتوان للحظة و هو صاحب المقدرات الفكر- أمنية الفذة من الإمساك بهذا الملف الحساس وبداء تنفيذ مخطط الإنقاذ الجهنمي والذي كان هدفه إحداث تحولات جوهرية و عميقة في تركيبة و أخلاق الطبقة الوسطي للمجتمع السوداني (عمال مهرة و صغار موظفين) للاعتبارات التي ذكرناها آنفا ولأنها تعتبر الاسمنت الذي يربط طبقات المجتمع الدنيا والعليا بعضها البعض لموقعها وسط الطبقتين فكان لابد من ضربها وتفتيتها ومن ثم يسهل (صياغة الإنسان السوداني الجديد) كما ذكر ذلك (علي عثمان) بلسانه في لقاء له نشرته احدي الصحف اليومية في ذلك الحين و لعلها صحيفة (الإنقاذ أو السودان الحديث).
إن منظري نظام الإنقاذ الاسلاموي و سدنته فطنوا بخبثهم و مكرهم ألي إن انهيار المكون الأخلاقي أو تعرض نسيج منظومة القيم الأخلاقية للتآكل هو ما يؤدى إلي سقوط الطبقة الوسطي وهذا هو هدف الإنقاذ ولب (المشروع الحضاري) الذي بشروا بيه حتى يتمكنوا من إحلال طبقة طفيلية يسهل السيطرة عليها و من ثم تطويعها خدمة لمخططهم الخبيث محل الطبقة الوسطي رائدة التغيير الاجتماعي فبدأت عملية استهداف الطبقة الوسطي و ضرب أساسها الأخلاقي بمجرد استيلاءهم علي السلطة عبر آليات أقل ما يمكن إن توصف بيه أنها همجية و متوحشة و لا إنسانية ( التشريد من العمل و المضايقة في الأرزاق و الدفع إلي الهجرة و الاغتراب) عبر قانون (الإحالة لصالح العام) حتى ظهرت ظواهر في المجتمع السوداني هي ضرب من الكوميديا السوداء كأن يكون الأب علي رأس وظيفته و الابن بالمعاش!!! و أما البقية فتم إثقال كواهلهم بتكاليف الحياة الباهظة بعد إن انسحبت حكومة الإنقاذ المجيدة!! و تمنعت عن القيام بواجبات الدولة من توفير التعليم و العلاج المجاني والخدمات و دعم السلع الضرورية و رمت بالكرة في ملعب المواطن المسحوق و انصرفت هي للعمل كسمسار و مضارب في سوق الله واكبر فأصبح للرئيس و عائلته وكلاء تجارين يضاربون بأموال الجبايات من ضرائب و زكاة في صفقات مشبوهة و كذلك بقية العقد الفريد من وزراء و ولاة وهلم جرا... في حين عم الفقر و العوز وسط إفراد الطبقة الوسطي المستهدفة حتى شاعت الإمراض الاجتماعية وسطهم من رشوة و اختلاس و رذيلة وبذلك نسف الأساس الأخلاقي لهذه الطبقة وتمزق الغشاء ألقيمي الذي كان يحميها و يدفعها للعب دورها الطليعي في التصدي لقضايا التغيير الاجتماعي و السياسي وبذلك تم تدججينها تماما فانفرط عقد الطبقات الاجتماعي و عمت الفوضى و ظهرت الطبقة الطفيلية لتقوم بتنفيذ المخطط المرسوم لها بعناية و دقة خدمة للهدف المنشود هو برنامج (التوجه الحضاري) و بمعني أخر مشروع صياغة الإنسان السوداني (الداجن) لا يسمع- لا يرى- لا يتكلم ويرضى بالمكتوب.
إن استهداف الطبقة الوسطي كان و لا يزال احدي الحلول الشيطانية التي استوردها نظام الإنقاذ من تجارب بعض الدول ذات الأنظمة القمعية (إيران ، مصر ، ليبيا ، وغيرهم) لإجهاض المشروع الوطني السوداني المتمثل في استكمال برنامج مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية وصياغة الهوية السودانية. فعندما تضرب المنظومة الأخلاقية لهذه الطبقة يكون جل همها الحفاظ علي مصالحها الضيقة المرتبطة بالعائلة (الصغيرة أو الممتدة) فالمواطن في مثل هذه المجتمعات( الدجنة) لا يشعر بالانتماء إلي الوطن و يصعب صهره في بوتقة وطنية تفضي إلى هوية أصيلة يتراضى عليها جميع مكونات المجتمع.
والآن و مع اقتراب انفضاض سامر الشطر الجنوبي من الوطن عبر حق تقرير المصير والذي تشير كافة الدلائل و المؤشرات إلي أن خيار الانفصال هو الراجح فيه سوف يطوي ولو لحين صراع (الغابة و الصحراء) و لكن في وجود نظام الإنقاذ الشمولي الإقصائى ورغم و محاولاته البائسة من أجل إن ينال شرعية تؤهله للاستمرار في الحكم يبقي يلوح في الأفق سهم يشير إلي حتمية تأزم الوضع أكثر في إقليم دارفور وبقية الأقاليم المهمشة في الشرق و الشمال لينتقل الصراع و يتحول من صراع(الغابة و الصحراء) إلي صراع (الصحراء و الصحراء) لعقود قادمة من تاريخ هذا الوطن المنكوب مع إمكانية عودة صراع (الغابة و الصحراء) مرة أخري إلي الانفجار و لكن بصورة أكثر ضراوة نتيجة للقضايا العالقة حتى الآن (الاستفتاء - ترسيم الحدود - الموارد المائية- الدين الخارجي - منطقة آبيي) ما لم يتم اجتثاث هذا النظام و مشروعه ألإقصائي الفاسد من جذوره و الذي يهدف في جوهره لتفتيت و حدة السودان و تنفيذ أجندة خفية ليس للمواطن السوداني المساكين ناقلة فيها ولا جمل.
تيسير حسن إدريس
بريده / السعودية/ 1-5-2010م
تيسير ادريس [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.