الغابة والصحراء صراع الهوية ومأزق السودان الحديث 1-2 تيسير حسن إدريس [email protected] واهمٌ من يظن أنه يستطيع أن يقف في وجه حركة التاريخ والتطور الطبيعي لنمو ونضج قوانين وشروط الحراك الثوري الجماهيري ، فهذا الميكنيزم (الآلية) يظل كامنا حيا في رحم المجتمعات في انتظار توافر الشروط اللازمة ( موضوعية وذاتية ) لانعتاقه من شرنقة الكمون وخروجه للنور ، معبرا عن ذاته في صور كثيرة ومتعددة سلمية وغير ذلك من وسائل العمل النضالي. والتي قد يغيب فهمها عن البعض في حينه خاصة وأن فهم طبيعة هذه القوانين يحتاج للحد الأدنى من آلية البحث الفلسفي لحركة وتطور المجتمعات في صيرورتها ومسيرة نضالها من أجل انتزاع الحقوق وإرساء نظم للحكم راشدة يتراضى عليها الجميع، وهي عادة ما تعبر عن ذاتها في شكل ظواهر مجتمعية وسياسية واسعة الخطى الشيء الذي يجعل بين طلائعها الثورية وبين عامة مكونات المجتمع الأخرى بون يضيق ويتسع ولكنه دائما وأبدا في حركة تطور لولبية إلى الأمام. والمتعارف عليه فلسفيا أن المنظمات السياسية من أحزاب وخلافه لا تزدهر وتتطور ولا تكتمل آليات عملها ونشاطها إلا بتوفر الحد الأدنى من الحريات المكتسبة بديمومة الحياة السياسية الطبيعية أو المنتزعة بقوة وشراسة العمل الثوري المقصود ، ولكن في نهاية الأمر يظل شرط الحريات بمفهومه الفلسفي المجرد والمطلق العامل الأهم في عملية تطور التنظيمات السياسية ونضجها وفعاليتها لقيادة الفعل السياسي وبث الوعي ونشر التنوير واستنهاض الجماهير ولفها حول برنامج عمل يحقق لها المزيد من المكاسب والأهداف. فالمنظمات السياسية إذا ما توفر لها شرط الحريات تستطيع استيعاب جوهر الحراك الاجتماعي وتوجيه الوجهة السليمة وصهره في بوتقة العمل الثوري الملتزم وغير المنفلت أو المتهور لتعبر بمد الجماهير في اللحظة الحاسمة (اللحظة الثورية) إلى بر الأمان محققة بذلك مطالب الطبقات المستضعفة وأحلام وأماني الأمة بأقصر الطرق وأقلها تكلفة ، بعد أن تكون قد اكتسبت وتراكمت في مسيرة نضالها كمٌ من الخبرات تمكنها من تخليص وسائل كفاحها من الشوائب والعناصر الهدامة خاصة في المجتمعات ذات الخصائص المعقدة وغير المتجانسة التي تتعدد فيها القوميات والأعراق والأديان والمعتقدات مثل مجتمعنا السوداني. الذي ابتلاه الله بنظم حكم شمولية وقهرية ساعدت في تعميق الفوارق الطبقية بين عناصره وميزت بينهم دينيا وعرقيا فعطلت بذلك مسيرة تطوره الطبيعي وانصهاره الاثني والثقافي الذي كان من ممكن أن يكون قد وصل بمجتمعنا بعد نصف قرن من خروج المستعمر إلى صياغة هوية سودانية تزيل من الأذهان تشوهات وعقد الفوارق العرقية والدينية المترسبة في أعماق وجداننا الوطني. فمن المعيب بل والمخجل ونحن أمة تتألف من مكونات أثنية قديمة لها بعدها الحضاري الضارب في عمق التاريخ (أكثر من سبع ألف عام) أن لا نكون قد انصهرنا في بوتقة وطنية سودانية لا خلاف ولا تمييز بين مكوناتها حتى اليوم . وكمنطلق لمعالجة هذا الوضع الشاذ لابد لنا أن نقر ونعترف بدئًا بأن المكون الزنجي كان وسيظل هو الأصل في السودان والشاهد على ذلك أن نوبة الشمال والغرب والقبائل النيلية الزنجية في الجنوب هي من أقدم الأثينيات التي ثبت وجودها في هذه الرقعة من الأرض مع عدم إغفال حقيقة أن الهجرات العربية لها تاريخها في المنطقة ، بالإضافة إلى أنها كانت عاملَ إضافة وليس عامل خصم على تلك المجتمعات الأصلية حيث جلبت معها خبرات وعلوم وإرث إنساني وحضاري أسهم في ترقية معارفها وزيادة وعيها في حراكها الأول من أجل التطور والتحضر. إن أس المشكل وجذره لم يتمثل أبدًا في ذلك الكم من الأثينيات المختلفة التي استوطنت هذه المساحة من الأرض والتي إن وجدت المواعين والأطر المناسبة لاستيعابها لأفضت بغير شك لنوع مشرف ولأصبحت إضافة نوعية مهمة وحقيقية في مسيرة تطور البشرية إن الإشكال الحقيقي تمثل في تأخر وطريقة ولوج هذه الرقعة من الأرض لنظام الدولة الحديثة. حيث لم يتوفر لها ما توفر لجارتها الشمالية (مصر) والتي بدأت مسيرة إرساء دعائم الدولة الحديثة منذ حملة نابليون بونابرت الذي جلب معه العلماء والخبراء الذين ساهموا في نشر الوعي والعلوم ونظم إدارة الدولة الحديثة والتي استكملت من بعد ذلك في ظل الإمبراطورية العثمانية . وعلى الرغم من أننا قد ارتبطنا تاريخيا بما يحدث في الجارة الشمالية وتأثرنا بما يحدث فيها إلا أن أصحاب الشأن في هذا الأمر بالذات قد تجاهلوا بلادنا وأهملوها (لشيء في نفس يعقوب) واختاروا لنا مصيرًا آخر حينما اعتبروا أرضنا منجما كبيرا مستباحا للموارد البشرية والطبيعية فقط ليس غير. ومن هنا بدأت مأساتنا الوطنية والتي تمثلت في تفاوت وتضارب بل وتناقض مشاعر القوميات المختلفة المكونة للنسيج الاجتماعي السوداني تجاه الوافد من الشمال مسالما كان أم مغتصبا ، ففي حين انحازت مشاعر بعض القوميات من الهجين (المتعرب) واتجه هواها شمالا نجد أن قوميات أخرى وأغلبهم من الزنج أو الهجين (المتأزنج) قد اختاروا التصادم كلغة في تعاملهم مع القادمين من الشمال والشاهد على ذلك أن أغلب المكونات الاجتماعية ذات الأصول العربية رفضت أو تأخرت في الالتحاق بالثورة المهدية في أول عهدها رغم أنها قامت ووقفت في وجه الاستعمار (البريطاني/ التركي) المتقدم من الجارة الشمالية مما جعل زعيم الثورة المهدية يلجأ إلى غرب السودان حيث تتوافر كثافة للعنصر الزنجي طلبا للنصرة والغوث. ومن هنا يتضح جليا أن تضارب وتناقض المشاعر الوطنية لمكونات المجتمع السوداني المختلفة تجاه مصير وقضايا الوطن الكبرى أسهم بشكل جذري وأساسي في تعطيل مسيرة اندماج وانصهار المكونات من عرب وزنج في بوتقة الوطن الواحد خصوصا في غياب الآليات الفاعلة للدولة الحديثة مما أقعد من تطور مجتمعنا وأفشل الصياغة الحقيقية للهوية السودانية. فبدلا عن الانصهار المفضي لنوع بشري نستطيع أن نطلق عليه مواطن سوداني أصيل اخترنا ثوبا مهلهلا ونسيجا باليا يعري أكثر من ما يستر عورتنا الاجتماعية وتشوهاتنا الوجدانية المنقسمة على نفسها ما بين (غابة وصحراء) ، لقد اخترنا المراوغة ودفن الرؤوس في الرمال بدلا عن مواجهة الأسئلة الصعبة ، فأضمرنا وبلا استثناء غير ما أعلناه وتلك هي المأساة الحقيقية التي تواجه سودان اليوم. ففي ظل معادلة وطنية غير موزونة ووجدان وطني مأزوم تجزم فيها المجموعات الزنجية بأن المكون العربي يمارس عليها الاستعلاء والتمييز نجد أن المجموعات العربية تعتقد بدورها أنها مهما أبدت من حسن التعامل والنوايا طيبة يظل المكون الزنجي متشككا وغير راض بل ومضمرا للحقد والسوء فسادت نتيجة لكل ذلك المشاعر السالبة من الارتياب والتخوين وتبادل الاتهامات فاحتقنت النفوس وناءت بحملها الصدور وانفجرت الصراعات الدامية أولاً بين (الغابة والصحراء) ولاحقًا بين (الصحراء والصحراء) كما تشهد عليه هذه الأيام السوداء من تاريخ السودان الحديث. قاد كل ذلك المجتمع للارتداد بكلياته ونحن ندلف للألفية الثانية إلى عصبية القبيلة والعرق حتى بين مجموعات ما يطلق عليها (الصفوة) من المثقفين والمستنيرين حيث عبَّرت هذه المشاعر السوداء عن نفسها بصور مخزية ومحزنة داخل كثير من الأحزاب المنظمات السياسية والشاهد على ذلك ما عرف (بالكتاب الأسود) لمجموعة أولاد الغرب من الإسلاميين واتهامهم لأولاد الشمال داخل الحركة الإسلامية بممارسه التهميش والإقصاء عليهم وكذلك الصراع الدائر في (حزب الأمة) أكبر الأحزاب السودانية بين (أولاد البحر) و (أولاد الغرب) نتيجة لنفس الأسباب وإن تدثرت وتجملت بثوب آخر ولا استثني من هذا الصراع البائس بقية الأحزاب والمنظمات السياسية والتي كان من المفترض أن تحمل مشاعل التنوير لتعبر بأمتها من النفق المظلم لأفاق أرحب من الثقة والتوحد والتقدم والازدهار. هذه الأمثلة المشوهة تكشف وتعري ما وصل إليه المجتمع السوداني من تمزق وردة وشتات ينذر بلا شك بتفكك وتمزق أوصال الدولة السودانية. وما الاستفتاء القادم في يناير 2011م لتقرير مصير جنوب السودان إلا رأس جبل الجليد الظاهر والمخفي أعظم إذا لم يأخذ زعماء وحكماء هذه الأمة العبرة ويتركوا الركوض وراء المكاسب الحزبية الضيقة والمصالح الشخصية الرخيصة. إن الوطن يعيش أزمة كبرى ومستفحلة ومما زاد (الطين بِله) وجود نظام استبدادي يتدثر برداء الدين ويمارس الميكافيلية في أبشع صورها (فالغاية تبرر الوسيلة) مهما أوغلت تلك الوسيلة في الحرام والخراب ولو أدت إلى تمزيق الوطن أربابا. فما (الحرب الجهادية) التي ابتدعوها لحشد الشباب المسلم المغرر به لقتال إخوة لهم في الجنوب إلا صورة بائسة تشي ببؤس الفكر وفقر الوسيلة ومن بعد ذلك مشروعهم الفاشي المسمى (بالحزام العربي في الغرب) والذي يهدف لتهجير القبائل الزنجية من حواكيرها ومناطق عيشها التاريخية وإحلال قبائل عربية مكانها ولو كانت من غير المكون السوداني الأصيل إلا دليل آخر على قصور نظرهم وسقم فكرهم الشيء الذي أدى لدخول الوطن في أتون صراع مهلك في إقليم دارفور الذي أضحى جرحا غايرا في خاصرة الوطن وشاهد على ضعف المعتقد الديني والحس الوطني لقيادات هذا النظام الذي مازال يصر على مواصلة رهانه الخاسر. وما مسرحية الانتخابات (المهزلة) مؤخرا والتي بدأ مسيرة تزويرها وتزيفها في اليوم الذي أقر بها مجبرا كبند أساسي لاتفاقية (نيفاشا) للسلام الشامل مع الحركة الشعبية لتحرير السودان إلا دليل دامغ على رعونته وسوء تدبيره السياسي ورغمًا عن ذلك لم يتخلَّ عن طيشه وخداعه فقام بتزوير السجل الانتخابي وتفصيل الدوائر الانتخابية على مقاسه وجنَّد إمكانيات الدولة ومقدراتها لصالحه ومارس شراء الذمم وأتم مسرحيته الهزلية على مسرح العبث بتعين مفوضية قومية للانتخابات موالية وكسيحة فنيا وأخلاقيا فتحولت انتخابات 2010م من انتخابات لمعالجة أزمة الوطن وقضايا التحول الديمقراطي إلى أزمة في حد ذاتها زادت من أزمات الوطن وأدت إلى مزيدٍ من الاحتقان الذي ينذر بانفجار عظيم. ولكن رغم كل هذا الواقع المأزوم والذي خلقه وجود نظام الإنقاذ على سدة الحكم في السودان لمدة تجاوزت العشرين عاما ،لا أستطيع أن أمارس فعل النعامة وأدفن رأسي في الرمال راميا بكل علل الواقع الراهن على عاتق هذا النظام وحده رغم إيماني العميق بأن سياساته قد كان لها القدح المعلى في تكريس واقع الأزمة الخانقة التي يعيشها الوطن من حيث تعميق هوَّة الخلاف بين مكونات أمتنا السودانية وصولا إلى تعطيل صياغة هويتها. إلا أن جذور المشكلة والحق يقال ضاربة في القدم وقدر مقدر من وزرها الحقيقي يتحمله الرعيل الأول من ساستنا الكرام مع حفظنا لمقاماتهم وتضحياتهم ودورهم المجيد في طرد المستعمر عن بلادنا إلا أنهم لم ينتبهوا لحقيقة أن مسيرة تطور الوطن تبدأ من لحظة خروج المستعمر. لقد اعتبروا خروج المستعمر نهاية المطاف لنضالهم وقد حان الوقت ليتفرغوا بعد هذا الانجاز للعمل على توسيع نفوذ أحزابهم ، ويا ليتهم اختاروا التنوير ورفع الوعي طريقا لذلك ولكن للأسف اختاروا أسهل الطرق وأقصرها وانشغلوا بتوزيع الغنائم وحصد المغانم ونكصوا عن الجهاد والمنافحة ضد أهم وأخطر ثالوث عرفته البشرية عبر تاريخها الطويل ( الفقر – المرض والأمية) وأداروا ظهورهم له وانصرفوا عنه للاهتمام بالمركز وعاصمته لتثبيت دعائم حكمهم وتجاهلوا هموم ومشاكل الأقاليم والأطراف وهمشوها وبذلك أسسوا لتنمية عرجاء وغير متوازية مما أدي لتراكم عوامل التخلف في أغلب بقاع الوطن التي تركت صريعة لثالوث الدمار. نواصل تيسير حسن إدريس.