تداعى إلى ذاكرتي وأنا أشرع في كتابة هذه العُجالة عنوان للدكتور منصور خالد مستشار رئيس الجمهورية والقيادي البارز في الحركة الشعبية، صدره سلسلة من المقالات التي جٌمعت في كتاب تحت ذات العنوان "لا خير فينا إن لم نقلها ولا خير فيكم إن لم تسمعوها"؛ وهي مقولة شهيرة لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وتضمنت تلكم المقالات في ثناياها عمقاً فكرياً مشهوداً، ونقداً موضوعياً معروفاً للأوضاع التي كانت سائدة في ذلكم العهد المايوي آنذاك. وأذكر أن حملات صحافية وغير صحافية شُنت عليه يومذاك مّما دفعه إلى إنزال قول الله تعالى في حاله ذاك "أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا"، فهاجر وانضم إلى الحركة الشعبية وفقاً لقناعاته السياسية، اتفقنا معها أو اختلفنا. وأحسب أن الدكتور منصور خالد من الذين يبذلون جهداً مقدراً في صمت، في معالجة بعض خلافات الشريكين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية)، وأعرف أنه من دعاة وحدة السودان، يعمل جاهداً مع آخرين في الحركة الشعبية لجعل خيارها خياراً جاذباً. فلما كنت أرغب في تصدير هذه العُجالة بالعنوان نفسه اتصلت به هاتفياً، تأدباً ولياقةً لاستئذانه في ذلك فقال لي مشكوراً: "إنه من المهم أن ينظر الشخص من أفق بعيد لأحوال بلاده، ويعمل جاهداً في سبيل الإصلاح، وإنه من الضروري أيضاً أن تتضافر جهود السودانيين داخل الوطن وخارجه من أجل القول الحق في قضايا الوطن، فإنه لا خير فينا إن لم نقلها ولا خير في رؤسائنا إن لم يسمعوها. لذلك عندما رأيت من الضروري أن أقولها إبان عهد مايو الذي كنت شريكاً فيه، كتبت سلسلة من المقالات لتحليل الأوضاع التي كانت في مايو آنذاك، والذي دفعني إلى الكتابة أنني رأيت أن الاتحاد الاشتراكي لم يعد تنظيماً به رؤى وضوابط ونظاماً أساسياً، بل أصبح جهازاً نفعياً في حاجة ماسة إلى المراجعة والتقويم. وبالفعل تكونت لجنة لتقويم أداء الاتحاد الاشتراكي من شخصي والدكتور حسن الترابي والراحل أحمد عبد الحليم وآخرين، ورفعنا إلى المكتب السياسي تقريراً طالبنا فيه بمعالجة الكثير من الممارسات الخاطئة، وضرورة إنهاء الشللية في التنظيم، ولكن قُتل هذا التقرير في اجتماع المكتب السياسي، وبعدها وصلت إلى قرار أنّ الاتحاد الاشتراكي تنظيم تحكمه الشللية، ولا فائدة من إصلاحه من الداخل، فكتبت ما كتبت في ذلك". فالمقاربة بين العنوانين هي في كيفية معالجة قضايا الوطن، ولكن المفارقة بينهما في ماهية قضايا الوطن المطروحة، لذلك كان من الضروري هذه التقدمة قبل الولوج في لبِّ موضوع هذه العُجالة. بادئ ذي بدء لا بد من الإقرار بأن المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم) يواجه أكثر من غيره من الأحزاب والقوى السياسية السودانية، تحدّيات جسام ومسؤولية وطنية تاريخية في مواجهة انفاذ استحقاق الاستفتاء على تقرير المصير في جنوب السودان، ضمن متبقيات استحقاقات اتفاقية نيفاشا للسلام، لذلك أحسب انه لا أحد في المؤتمر الوطني يجهل أهمية العمل بإخلاص من أجل أن تتم عملية الاستفتاء بسلاسة وسلام، خالية من أي عنف أو انفلات أمني أو حتى خلل فني أو إداري، كالذي استصحب العملية الانتخابية الأخيرة. ومن قبل ذلك على المؤتمر الوطني العمل بجدٍ واجتهادٍ في سبيل جعل خيار الوحدة خياراً جاذباً للجنوبيين، ومن ثم، لبعض الشماليين المغالين في تأييد الانفصال، إقناعاً لا إرغاماً. فمن هذا المنطلق يجد المؤتمر الوطني مستقبله الحزبي السياسي مرهوناً بين إدراكه للمسؤولية التاريخية الخطيرة وقدرته على مواجهة المهمة الوطنية التي تستدعيه بالضرورة للعمل بصدق وتجرد من أجل شراكة وطنية حقيقية، لا تنزل من علٍّ، ولكنها تُبسط بلغة الرفق واللين، لا بلهجة الاستعلاء والكبر والغطرسة، للبحث عن شركاء حقيقيين يجمعهم الهم الوطني والخطر المدلهم. والمأمول في هؤلاء الشركاء أن يتعالوا على المرارات الحزبية ويتناسوا الأهواء الشخصية، استجابةً لنداء الوطن، وتغليباً للحس الوطني على الحس الحزبي. وأحسب أن ذلك لا يتأتى بالنيات الطيبات، ولكن بالعمل المخلص الدؤوب، تحقيقاً لهذا الهدف الوطني السامي، مصداقاً لقول أمير الشعراء أحمد بك شوقي: وما نيلُ المطالب بالتمنّي ولكن تؤخد الدنيا غلابا وما استعصى على قوم منالٌ إذا الإقدامُ كان لهم ركابا ومن شرائط تحقيق هذه الشراكة الوطنية أن يسهم الشركاء جمعيهم في البرنامج الوطني مشاركة فاعلة، سواء كان ذلك ضمن المشاركة في حكومة ذات قاعدة عريضة لمواجهة التحديات الوطنية في المرحلة المقبلة - ومن أخطرها تحدي انفاذ استحقاق الاستفتاء على تقرير المصير في الجنوب - أو خارج تلكم الحكومة، أياً كانت مسمياتها، ولكن في إطار رؤية وطنية مشتركة ضمن إجماع وطني للأحزاب والقوى السياسية. ومن الضروري أن تتسع دوائر الشورى بين المستجيبين للشراكة الوطنية، تنزيلاً لقوله تعالى: "وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ". ومن أهم هذه الشرائط الشورية، التشاور مع الأحزاب والقوى السياسية في أمر تشكيل مفوضية الاستفتاء على تقرير المصير في الجنوب، وإعمال فقه الجُرح والتعديل في اختيار مسؤولي تلكم المفوضية، وذلك بالاستفادة والاعتبار من تجربة تشكيل المفوضية القومية للانتخابات، وتجربة اختيار مسؤوليها، وما صاحب ذلك من اضطراب وشكوك في الصدقية والنزاهة والتجرد والحياد، مهما اتفق البعض مع هذه الشُبهات أو اختلف. ومن الضروري أيضاً التأكيد على ما قاله الرئيس عمر البشير لدى مخاطبته احتفال الهيئة القومية لترشحيه في أرض المعارض ببري يوم السبت الماضي "إن هذا النصر لم يكن على الأحزاب التي شاركت في الانتخابات، بل كان نصراً على أعداء السودان الذين ظنوا أن الانتخابات ستكون قاصمة الظهر"، مما يعني أنه لا ينظر إلى هذا النصر باعتباره فوزاً يُغنيه عن عونها، ويصرفه عن الاستعانة بها. وكذلك التأكيد على ما أعلنه السيد علي عثمان محمد طه نائب رئيس الجمهورية ونائب رئيس المؤتمر الوطني للشؤون التنفيذية "أن الأسبوع القادم سيشهد إعلان تشكيل مفوضية استفتاء جنوب السودان من شخصيات قومية تتسم بالوطنية والموضوعية"، مؤكداً "أن المؤتمر الوطني سيتعامل بكل المسؤولية مع الحركة الشعبية وكل الأطراف الوطنية الأخرى الهادفة إلى ترسيخ وحدة البلاد". من هنا يجب على الجميع البحث الجاد عن آلية تمكن الحادبين على وحدة السودان من أداء دورهم الوطني في جعل خيار الوحدة خياراً جاذباً للجنوبيين لمواجهة تحدي الاستفتاء على تقرير المصير في الجنوب في يناير المقبل. وفي رأيي الخاص أن الآليات المطروحة غير مؤهلة لأداء هذا الدور الوطني العظيم الذي يتطلب تتضافر الجهود السياسية كافة، ووفاقاً وطنياً جامعاً، في إطار استراتيجية وطنية متفق عليها، لتحقيق وحدة مرغوبة غير مرهوبة من الجنوبيين، يستشعرون معها أن مواطنتهم من الدرجة الأولى وليس الثانية، وأنهم سواسية مع نظرائهم في المواطنة، إذ أن تحويل الهيئة القومية لدعم ترشيح الرئيس عمر البشير، برئاسة المشير عبد الرحمن سوار الدهب إلى الهيئة القومية لدعم الوحدة لن تستقطب الأحزاب والقوى السياسية المعارضة الراغبة في الاستجابة لدعوة الشراكة الوطنية لمواجهة تحديات المرحلة المقبلة، سواء بالمشاركة في حكومة ذات قاعدة عريضة أو من خارج تلك الحكومة. ودليلي على ذلك بيان السيد حاتم السر مرشح الحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل) لرئاسة الجمهورية الذي اصدره يوم الأحد الماضي، حيث شنّ فيه هجوماً عنيفاً على الهيئة القومية لدعم ترشيح البشير، مبدياً تحفظه على قرار الرئيس عمر البشير بتحويل هيئة ترشيحه إلى هيئة لدعم الوحدة، معتبراً هذه الهيئة غير مؤهلة للقيام بهذا الدور. وقال في بيانه: "إن الأخطار والتحديات التي أصبحت تهدد وحدة السودان بعمقها وتشابك حلقاتها لا يمكن مواجهتها عبر تحالف هش أو شراكة ثنائية بين طرفين. كما لا يمكن التعامل مع قضية وحدة السودان التي سيتقرر مصيرها بعد شهور بهذه السطحية في الفهم والاستخفاف في التناول"، معتبراً قرار تكليف الهيئة القومية لدعم ترشيح البشير بعد تغيير اسمها إلى الهيئة القومية لدعم الوحدة يعكس عدم جدية المؤتمر الوطني في التعامل مع قضية مصيرية مثل قضية وحدة السودان. وقال البيان: "لأن مثل هذه الهيئة لا تصلح إلاّ للقيام بمهمة دفن الوحدة وليس دعمها". وكذلك ما يُتداول ضمناً أو صراحةً في الدوائر الحزبية المعارضة والصحف المستقلة من أن قضية وحدة السودان ليس شأناً يخص المؤتمر الوطني وحده، وهذا لعمرك ما يعني مدى تنامي الحس الوطني في مواجهة هذا التحدي الأكبر لسودان الغد. Imam Imam [[email protected]]