شاهدت على مدى الأسبوع المنصرم من خلال شاشة قناة النيل الأزرق الفضائية الحلقة الأخيرة من برنامج "عشرة الأيام" التي أجريت مع الموسيقار والملحن المبدع الأستاذ بشير عباس ، كما شاهدت إعادتها بعد ذلك مرتين كذلك ، بل إنني دعوت بعض الأصدقاء عبر الهاتف لمشاهدتها. وقد شدتني في تلك السهرة الرائعة وجذبت انتباهي تلك المعلومات التوثيقية الثرة عن مسيرة ذلك المبدع الفنان ، وذلك السرد الممتع لملامح سيرته الإبداعية الظافرة التي تتوجت بحصوله على الجائزة الثالثة في مسابقة عالمية في العزف و التأليف الموسيقي نظمت مؤخرا في ألمانيا ، كما استوقفتني بصفة خاصة مداخلات الأستاذة أسماء حمزة ، إحدى الرائدات السودانيات بكل تأكيد في مجال الموسيقى ، فضلاً عن أنها قريبة المحتفى به ، وأول من تعلم عزف العود على يديها ، بالإضافة إلى إضاءات الدكتور يعقوب عبد الماجد الباهرة حول مكانة بشير عباس في خارطة الغناء والموسيقى في السودان ، والتي تنم عن علو الدكتور يعقوب ، ورسوخ قدمه ، وعمق معرفته في مجال تاريخ فن الغناء والموسيقى في بلادنا ، واطلاعه على مختلف حقبه وتطوراته بتفاصيلها الدقيقة ، على الرغم من أنه طبيب استشاري متخصص في طب النساء والتوليد والعقم. وقد ذكرني الدكتور يعقوب في هذا الجانب من موسوعيته الفنية بصديقي طبيب الأسنان المغترب حالياً بسلطنة عمان: الدكتور أحمد القرشي عبد الرحمن ، ومعرفته المدهشة بفن غناء الحقيبة وتاريخه بمختلف رموزه ورواده من مطربين وشعراء ومؤدين ، معرفةً تكاد تضارع تلك التي يمتلكها الأستاذ عوض بابكر ، الإذاعي القدير ومعد ومقدم برنامج " حقيبة الفن " عبر موجات الإذاعة السودانية. بيد أن شدّ ما جذبني وأثار انتباهي في تلك السهرة ، هو الأداء الرائع الذي أدى به الأستاذ (عاطف) بعض ألحان بشير عباس من خلال تلك الأمسية المبهجة. لقد جاء ذلك الأداء في الحقيقة غاية في التجويد والإتقان والإطراب ، ومن خلال صوت جمع بين القوة والعذوبة وسلامة المخارج والتطريب ، وخصوصاً مراعاة الميلودية السودانية العتيدة ، المرصعة بالحداثة في الأحاسيس والاستطراف غير المتصنّع ، حتى أنه ظفر باعتراف بشير عباس نفسه بأنه قد أطربه ، ويا لها من شهادة ، إذ لا ينبئك مثل خبير. لقد كان صوت عاطف وأداؤه ليلتئذٍ صوتاً وأداءً جمعا في تقديري بين أصوات وطرائق أداء جملة من كبار مطربينا الأفذاذ من ذوي الأصوات القوية والندية معاً مثل: عبد العزيز داؤود ، وعوض الجاك ، والكابلي ، ومحمد الأمين ، وهاشم مرغني. فكنت حين تستمع إليه وتتملّى في طبقات صوته وتموجاته ، تكاد تسمع أصوات هؤلاء جميعهم في آن واحد. ولكنّ صوت عاطف – مع ذلك – كان صوتا ذا شخصية متفردة لا تلتبس مع غيرها. ولا شك في أنّ انعدام الشخصية المتفردة صوتاً وأداء قد أضحت – مع الأسف – من أبرز مآخذ وآفات هذه المرحلة من مسيرة فن الغناء في السودان في نظر الكثيرين من النقاد المتخصصين ، فضلاً عمن سواهم من سائر المتابعين والمستمعين أمثالنا ، حتى أنهم ليقولون على سبيل المثال ، إنه إذا ما استثنيت فلاناً وفلانا من المطربين الجدد ، فإن معظمهم عبارة عن صور مستنسخة بعضها عن البعض الآخر لا غير. هذا، مع احترامنا وتسليمنا بحتمية التغيير، وتبدل الأمزجة، وتحول الذائقة، والاختلاف بين الأجيال وهلمّ جرا. ولقد ظل فنانو الأغنية السودانية الحديثة من لدن إبراهيم الكاشف وطبقته، وحتى مصطفى سيد أحمد ومجايليه لكل واحد منهم وإبداعه لونه ورائحته وطعمه المميز. كنتَ تستمعُ إلى غناء الواحد منهم من خلال المذياع أو من على خشبة أحد المسارح أو بيوت الأفراح، وأنت على بعد ميل أو نحوه، فتعرف أن هذا فلان بعينه يغني. وعلاوة على الصوت الجميل ، والمقدرة المدهشة على التطريب ، يتمتع المؤدي عاطف بحيوية ملحوظة ، ومعايشة صادقة للألحان ، وتجاوب وانفعال طروب مع الموسيقى والإيقاع ، تزينها خفة في الروح ينبئ عنها ذلك التقافز وتلك الحركة اللولبية مع الإيقاع التي تشبه (نطّيط) الفنان: أحمد شارف ، أو (نقّيز) عازف العود الماهر الأستاذ (عوض احمودي ) في انتشاء طالما أبهج مشاهدي برنامج "أغاني وأغاني" الرمضاني الدسم ، وأثار التفاتات وابتسامات العازف الكبير الأستاذ (محمدية). وقد بلغ الأستاذ عوض الغاية في صدق المعايشة والتجاوب مع الإيقاع وخفة الروح عندما اختتم أداءه لأغنية البلابل من كلمات: علي سلطان ( نحييك ما بتحيينا ) ، بمحاكاته لصوت إحدى آلات الإيقاع الوترية ، وهي تنهي الأغنية بنغم خيشومي أغن هكذا: بنقْ .. بنقْ .. بنقْ .. بانق.