وصلت مسألة إدارة المال العام في سوداننا الحبيب إلى ما هو أشبه بالمهزلة ، فلم يعد بإمكان أحد مناقشة أو استفهام وزارة مثل وزارة البنى التحتية بولاية الخرطوم حول أهم منصرفات مال الدولة. وصار يسمح لإدارة الإعلام والعلاقات العامة فيها أن تنفّس عن بطَر موظفيها بإعلانات تهاني نجاح أبنائهم بما يكلف الملايين بينما تشهد الولاية قصوراً حاداً في أهم المنشآت ، فالكباري معلق اكتمالها ، والحفرة الواحدة على الأسفلت تكفي لمساحة قبر. إنَّ المشكلة الرئيسية التي تجعل من مثل هذه الأمور لا تُقيم ولا تخضع لمحاسبة أو متابعة هو غياب الحس الوطني وتغييب الضمير الاجتماعي الذي بيقظته لن تتجاوز الوزارة نظرات الفقراء والمساكين والكادحين ودافعي الضرائب والرسوم بأشكالها المختلفة . نظرة من هؤلاء كفيلة بأن توخز الضمير الحي فتكبح جماح ورغبة الصرف البذخي من مال الدولة وكأن هذا المال بوزارة إقطاعية خاصة ورثها موظفي الوزارة عن آبائهم. بعد أن كانت إعلانات تهاني النجاح في الصحف لا تتجاوز صيغتها :"الأهل والأصدقاء بالسودان والسعودية والإمارات وأمريكا يهنئون ابنهم أو ابنتهم....بالنجاح الباهر ، والتهنئة موصولة من الخالة فلانة والعم فلان " وبعد أن كانت مساحتها لا تتجاوز عدد من البوصات ، أصبحت الآن التهنئة من ولاية الخرطوم – وزارة البنى التحتية - إدارة الإعلام والعلاقات العامة أي باسم الوالي والوزير والمدير العام والعاملين بالوزارة والهيئة النقابية وفي مساحة قدرها نصف صفحة في عدد من الصحف الرئيسية واسعة الانتشار . الوالي الخضر والوزير فضل المولى والمدير العام فضل المرجي يهنئون أبناء واخوان وأحفاد الموظفين بالملايين وقد كنت أظن قبلها أن هناك عجز في تمويل بعض المشاريع خاصة وأن الوالي وجّه وزارة البنى التحتية "بإجراء مفاوضات مع جهات تمويل عدة من أجل الاتفاق على تنفيذ مجموعة من المنشآت ، ضمن خطة الولاية القاضية بإنشاء طرق جديدة وتأهيل الطرق القائمة وبناء الجسور على النيل واقامة الكبارى الطائرة والأنفاق وإكمال جسرى الحلفايا – الحتانة والدباسين والبدء فى تشييد جسر سوبا ، لتيسير الحركة وفك الاختناقات المرورية". وقد حسبت أن وزير البنى التحتية يشكو لطوب الأرض عندما سُأل عن ميزانية الوزارة وتمويل المشاريع في أحد الحوارات معه والمنشورة على الأسافير فأجاب :" أقل كبري يكلّف 40 مليون دولار وبمداخله ومخارجه يكلّف قرابة 50 مليون دولار وإذا عملنا جسرين في السنة نأخذ نسبة 10% من ميزانية الولاية وبعض هذه المشاريع لها دعم والميزانية المحددة لوزارة البنية التحتية لعمل الطرق والمصارف والمياه والصرف الصحي وغيرها (432) مليون جنيه. هذه مبالغ مفترض نأتي بها كتمويل من جهات مختلفة والباقي موارد، والمشاريع الآن التي تنفذ وتحت التنفيذ تكلفتها أكثر من (800) مليون."!! فأي مرجعية قيمية وأخلاقية تبيح للوالي والوزير ووزارته أن يهنئوا من المال العام ، فإن لم يكن هناك نص شرعي واضح يحرّم ، فإن الاستفادة من منطقة الفضاء التشريعي وفقاً لمتطلبات الواقع لا تلهي عن اعتبارات إنسانية أخرى. وهذه الاعتبارات إذا نظرت لها وزارة البنى التحتية فإنها ستجد أنه من العسير صرف مال عام من خزينة الدولة وعرق دافعي الضرائب والرسوم على تهاني نجاح أبناء وإخوة وأحفاد موظفي الوزارة الذين يدرسون كلهم في مدارس خاصة على حساب الدولة بينما هناك أطفال محرومون من التعليم حتى في المدارس الحكومية بسبب الفقر . عن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة"(رواه البخاري). وقيل أن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان عنده مصباحان أحدهما للدولة يستعمله عند قضاء مصالحها والآخر مصباح شخصي له يشعله إذا انتهى من مصالح الدولة.فهل فرزت لنا وزارة البنى التحتية مصباحها من مصباح الدولة إن كان لها. عن صحيفة "الأحداث"