(Dualism and the Destructive Politics of Polarization in Sudan) [email protected] توطئة: ليس من أغراض هذه الورقة (Presentation) تقديم عرض مفصل لتاريخ السودان القديم الذي يمتد لآلاف السنين قبل الميلاد ويتواصل في سلسلة إفريقية/ مسيحية خالصة بدءاً من الممالك الفرعونية القديمة مروراً بممالك كوش ومروي ونبتة، وإنتهاءاً بآخر ثلاثة ممالك مسيحية/أفريقانية وهي نوباتيا وعاصمتها فرس، والمقرة وعاصمتها دُنقلا، وعلوة وعاصمتها سوبا، والأخيرة تُمثل آخر الممالك الإفريقية/المسيحية في السودان والتي قامت على أنقاضها مملكة الفونج (السلطنة الزرقاء) في القرن السادس عشر الميلادي كأول نظام حُكم سوداني يتكون من العنصرين الزنجي والعربي، ويتخذ من الإسلام الصوفي الممتزج بعادات وثنية وديانات إحيائية، مرجعية تشريعية ودينية له، في أول تحالف ثُنائي مهد لظهور الثُنائيات التي تصبغ الساحة السودانية المُعاصرة، وتتجلى هذه التباينات في أربعة ثُنائيات "عرقية، لغوية، دينية، واقتصادية/إجتماعية"، هي: العروبة/الزنوجة، اللُغة العربية/اللغات السودانية الأُخرى، الإسلام/المعتقدات الأُخرى، المركز/الهامش، إضافة إلى أنماط أُخرى من التباين والتعدد تتمثل في كمٍ هائل من اللُغات واللهجات المحلية والقبائل المختلطة التي انبثقت عنها عادات وتقاليد متداخلة، تتنافر حيناً وتتآلف أحياناً مُشكلة مزيجاً مُدهشاً وهشاً، يُسمى السودان الحديث، وهو بهذا التكوين المتنوع قابل للتجزئة والتشرذم والإنشطار إن سادت سياسة الإستقطاب ونفي الآخر، كما أنه يمكن أن يكون نموذجاً فريداً للتعايش المتنوع المتعدد المنابت والأصول، إن غلبت روح تعميق ما يجمع ونبذ ما يفرق وتطوير القواسم المشتركة وحُسن إدارة التناقضات، وذلك وفق نظام سياسي/إقتصادي/إجتماعي/ثقافي مُرتكز على المواطنة والديمقراطية والعلمانية والعدالة الإجتماعية والإقتصادية والتنمية المتوازنة، دون هيمنة عرق أو ثقافة أو دين أو لغة، وفوق هذا وذاك الحُرية والمساواة والعدالة. نستطيع أن نزعم بقدر غير قليل من الإطمئنان إلى أن هذه الثُنائيات الأربعة (اللغة، الدين، العرق، والإطار الإقتصادي/الإجتماعي) تُشكل في جوهرها عناصر ومكونات هوية أي أُمة، إذ من خلال تداخلها وتأثيرها المتبادل، نفياً وإحلالاً وإمتزاجاً، تتكون العادات والتقاليد وتتشكل العلاقات الإجتماعية/الإقتصادية في عملية أخذ وعطاء متبادل، أو قد تتصارع عنفاً لا يذر الأخضر واليابس. ومن المعروف أن سؤال الهوية ظل سؤالاً مُلحاً وعاملاً أساسياً في النزاعات السودانية، خاصة بعد بروز دعاوى الدولة الدينية خلال فترة الثورة المهدية وما سبقها وتلاها من تبني الثقافة العربية/الإسلامية ومحاولات فرضها قسراً منذ بروز الدولة الوطنية بعد الإستقلال (1956) من خلال عدة مغامرات كان الهدف منها الكسب السياسي ودغدغة العواطف الدينية وإستغلالها، وأبرز هذه المحاولات في مرحلة مابعد الإستقلال؛ السعي لإقرار الدستور الإسلامي (الأخوان المُسلمون)؛ رفع شعار الجمهورية الإسلامية (الإتحاديون)، برنامج الصحوة (حزب الأُمة)، و النهج الإسلامي وقوانين سبتمبر (نظام مايو/جعفر نميري)، وقد إزداد صراع الهوية حدةَ بعد إستيلاء الإسلاميين على السلطة السياسية (إنقلاب 30/يونيو/1989) وإعلانهم للدولة الدينية الأصولية التي جعلت من المشروع الحضاري مرجعية للحكم، ومن الدين (وليس المواطنة) معياراً للحقوق والواجبات، وتبني هوية عربية/إسلامية، وليس هوية سودانية تحترم التعدد الإثني والديني واللغوي لشعوب السودان التي لا تزال في طور التدامج والإنصهار، وبذلك شكلت قطيعة حادة لعملية الوحدة الوطنية الطبيعية/الطوعية، وننتيجة لهذه المحاولات القسرية التي توسلت بالجهاد والإرهاب لفرض رؤيتها الآحادية تأججت نزاعات السودان والتي وإن تعددت أسبابها وأختلفت أساليبها إلا أنها لا تخرج عن تناقض وصراع الثُنائيات الأربعة التي سلف ذكرها. أولاً: ثُنائية العروبة/الزنوجة: ظل السودان دولة نوبية مسيحية خالصة حتى دخول العرب إلى السودان، ومع أن التاريخ يقول بأن أول دخول للعرب إلى السودان تم في عصور ما قبل الإسلام (أي قبل القرن السابع الميلادي) إلا أنه من الثابت أنه كان دخولاً غير مؤثر، وقد تمت أول هجرة عربية ذات بال في بداية العهد الأموي (القرن السابع الميلادي) بدخول القائد الإسلامي الأموي (وليس العباسي)/ عبد الله بن سعد بن أبي السرح وإبرامه لإتفاقية البُقط المعروفة (Albaqut/pactum Treaty)، والتي كانت أول تماس ذي أثرٍ مُباشر بين زنج السودان وإعرابه القادمين من الجزيرة العربية، ولكن لم يمكث إبن أبي السرح ومن معه في السودان ولم يكن لدخولهم أثر ديني أو عرقي أو لغوي كبير، وإنما كان بمثابة طلعة إستكشافية مهدت للهجرات التالية التي استمرت ببطء وأناة من خلال التجار العرب، الذين استوطن بعضهم في شمال السودان المسيحي وتصاهر مع سُكانه، وفي عام 1093 ولأول مرة تولى عرش مملكة دُنقلا أمير نوبي تجري في دمائه دماء عرب مُسلمين. إزددات كثافة هجرات القبائل العربية (قبائل جُهينة) إلى السودان خلال القرون الخامس عشر والسادس العشر والسابع عشر الميلادي، والتي للمفارقة تمت بوتيرة أكبر وأسرع عن طريق شرق السودان (من اليمن والجزيرة العربية-عبر البحر الأحمر وإثيوبيا) وعن طريق غرب السودان؛ من المغرب العربي وغرب إفريقيا، حيث إنتشرت الطُرق الصوفية (السنوسية والشاذلية والتجانية). هذه الهجرات هي التي شكلت ملامح السودان الحديث الذي نعرفه اليوم، وزرعت بذرة تنوعه وتآلفه و تنافره. وهنالك عدة ملامح أساسية للدخول العربي للسودان: أ- لم يأت غالبية العرب بزوجاتهم، ومن ثم فقد تزوجوا أو استرقوا أو تسروا بجداتنا الإفريقيات وكان الناتج هو هذا الشعب الهجين الخُلاسي الجميل، أما أولئك الذين أتوا بزوجاتهم فقد أطلقوا على نسلهم لقب الأشراف، دلالة على سمو مكانتهم وتمييزاً عُنصرياً لهم من بقية الهجين العربي الإفريقي، وهذا سلوك يدُل على نزعة الإستعلاء العُنصري الذي لا تزال بلادنا تعاني من ويلاته حتى يومنا هذا، كما يلاحظ في لاحق الأزمان بروز مُصطلحات ذات دلات عُنصرية مُشابهة مثل؛ أولاد البحر وأولاد الغرب، أولاد البلد وأولاد الريف، وأخيراً العرب والزُرقة. ب- التحول التدريجي السلس للأفارقة من المسيحية إلى الإسلام عبر بوابة الحركات الصوفية المتسامحة (الإسماعيلية "إسماعيل الولي"، القادرية "عبد القادر الجيلاني"، السنوسية، الشاذلية، التيجانية، الختمية "محمد عثمان الختم") وبعض الشخصيات الدينية ذات الأثر الكبير في النسيج السوداني مثل حمد ود أم مريوم وخوجلي أبو الجاز وإسماعيل صاحب الربابة، والشيخ الهميم، وود دكين، والشيخ حمد النيل العركي، وغيرهم من المشايخ الدُعاة والمتصوفين الزُهاد، ولذا تميز إسلام السودانيين بخاصيتين جليتين؛ هُما التسامح؛ وامتزاج الممارسات الدينية ببعض الطقوس والعادات والممارسات الوثنية. ت- أما على الصعيد الإقتصادي فقد تحول السُكان الأصليين (Indigenous) إلى الرعي والزراعة بدلاً عن الصيد والجمع والإقتصاد البُدائي، فالعرب المشهورين بتربية الإبل كانوا ولازالوا يرعون الإبل في شرق السودان (الرشايدة والبني عامر والبجة)، وفي غربه (الأبالة من الميدوب وأولاد حميد والهبانية وبني هلبة وغيرهم) أما الذين توغلوا وسطاً وجنوباً (كردفان وجنوب دارفور ووسط السودان) فقد تحولوا إلى رعاة للأبقار وأصبح يُطلق عليهم البقارة (قبائل المسيرية والرزيقات، والبقارة بمختلف مُسمياتهم). ث- أما على صعيد التداخل الإجتماعي وتحور العادات والتقاليد ونسيج القيم الإخلاقية، فقد تمازجت العادات الإفريقية المُتسامحة مع التشريعات الإسلامية المُتشددة (وإن خفف التصوف من وطأتها)، ومن مظاهر ذلك التمازج؛ التسامح في شُرب الخمر، والنظرة المُتسامحة إلى المرأة واحترام حقوقها في العمل، والحرية النسبية التي تتمتع بها المرأة لدى قبائل غرب السودان وكردفان، وقد فطن إلى ذلك دكتور/ فرانسيس دينق في كتابه "صراع الرؤى والهوية"، عندما أشار إلى عرب البقارة ونظرتهم المتسامحة إلى المرأة، وحلقات الزار والنُقارة وما يكتنفها من ممارسات شبه وثنية. تمت مواجهة هذا الوافد الجديد القوي (العرب المُسلمين) وما حمله من تغييرات وخلخلة للمجتمع السوداني القديم، إما بالإندماج فيه والتفاعل الإيجابي معه، أو بالهروب منه جنوباً (وأبرز مظاهره إنتقال سلطنة الدينكا من النيل الأبيض –منطقة الكوة- والإحتماء بالغابات جنوباً) وهذا يُفسر وجود بذرة الإنقسام كلما اتجهنا نحو إفريقيا الإستوائية، وفي مظهر آخر لمواجهة الوافد العربي/الإسلامي؛ إنتقلت بعض القبائل النوبية من أقصى الشمال إلى وسط السودان، ويرى كثير من الباحثين وجود صلة بين لغة النوبيين (المحس والسكوت والدناقلة والحلفاويين) وبين لغة النوبة الذين استعصموا بقمم الجبال في جنوب غرب كردفان. لم تكن الثقافة الوافدة الجديدة كلها خيراً على المجموعات السُكانية الأصلية، فبحكم التقدم النسبي للثقافة العربية/الإسلامية حملت معها (ضمن مفاهيم اُخرى) ممارسات سلبية كالإسترقاق (الذي يقره الدين الإسلامي) والإستعلاء العرقي والديني والتباهي بالتفوق الإقتصادي والثقافي وتعزيزه عبر الاستغلال الإقتصادي في مزيد من التمكين (سلطوياً وإجتماعياً) ولذا أصبحت درجة النقاء العرقي تُقاس بالإنتساب إلى النبي محمد "صلعم" عبر عمه العباس-الأشراف، وأصبح معيار الشرف والسؤدد يكمن في التطلع إلى الجزيرة العربية وإيجاد صلة نسب بالقبائل القُرشية وخاصة اليت النبوي، والعجيب أن نظام الحُكم الحالي في السودان يحاول بوعي أو دون وعي منه إحياء ذات العصبية القبائلية في زمن تغيرت فيه الرؤى والمفاهيم، ولعل أبرز تجليات هذا التغيير، الإعتزاز بالهوية الإفريقانية (Pan-Africanism) التي أرسى قواعدها كوامي نكروما وسيكوتوري ونايريري والشيخ ديوب، وأخيراً نلسون مانديلا وجون قرنق وغيرهم، وقد أتت مؤخراً مفاهيم حقوق الإنسان والعلمانية والديمقراطية لتدق آخر مسمار في نعش دعاوى التفوق العرقي والديني، وما محاولات طالبان والقاعدة إلا حركات يأس تجاوزها الزمن والتطور الطبيعي، تماماً كما حدث للصليبية وللنازية والفاشية ويحدث حالياً للصهيونية والأصولية الإسلامية وكل الحركات الشوفينية الإستعلائية، التي تتسربل بالدين كمطية سهلة لتسنم ذُرى السُلطة. لعله من المُسلم به أنه لا يوجد مجتمع بشري كامل النقاء أو التجانس العرقي، ومع التطور العلمي المذهل وسهولة المواصلات والتواصل أصبح العالم قرية كونية صغيرة، ولعل الهجرات واللجوء (المشروع وغير المشروع) خير شاهد على تسارع وتيرة التمازج بين كافة الأعراق، والسودان ليس استثناءاً بل ربما يجئ على رأس الدول التي تشهد درجة عالية من النزوح الداخلي والهجرة الخارجية إلى مشارق الأرض ومغاربها نتيجة عدم الإستقرار السياسي والإقتصادي، والحراك الإجتماعي.