مدير شرطة ولاية القضارف يجتمع بالضباط الوافدين من الولايات المتاثرة بالحرب    محمد سامي ومي عمر وأمير كرارة وميرفت أمين في عزاء والدة كريم عبد العزيز    توجيه عاجل من"البرهان" لسلطة الطيران المدني    حركة المستقبل للإصلاح والتنمية: تصريح صحفي    جبريل إبراهيم: لا يمكن أن تحتل داري وتقول لي لا تحارب    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    برقو الرجل الصالح    مسؤول بالغرفة التجارية يطالب رجال الأعمال بالتوقف عن طلب الدولار    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد عمليات تأهيل مطار عطبرة ويوجه بافتتاحه خلال العام    لماذا لم يتدخل الVAR لحسم الهدف الجدلي لبايرن ميونخ؟    مصر تكشف أعداد مصابي غزة الذين استقبلتهم منذ 7 أكتوبر    هيومن رايتس ووتش: الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها ارتكبت جرائم ضد الإنسانية وتطهيراً عرقياً ضد المساليت.. وتحمل حميدتي وشقيقه عبد الرحيم وجمعة المسؤولية    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    مقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر.. معلومات جديدة وتعليق كندي    توخيل: غدروا بالبايرن.. والحكم الكارثي اعتذر    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    النموذج الصيني    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    مكي المغربي: أفهم يا إبن الجزيرة العاق!    ضمن معسكره الاعدادي بالاسماعيلية..المريخ يكسب البلدية وفايد ودياً    الطالباب.. رباك سلام...القرية دفعت ثمن حادثة لم تكن طرفاً فيها..!    بأشد عبارات الإدانة !    موريانيا خطوة مهمة في الطريق إلى المونديال،،    ثنائية البديل خوسيلو تحرق بايرن ميونيخ وتعبر بريال مدريد لنهائي الأبطال    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل مصري حضره المئات.. شباب مصريون يرددون أغنية الفنان السوداني الراحل خوجلي عثمان والجمهور السوداني يشيد: (كلنا نتفق انكم غنيتوها بطريقة حلوة)    شاهد بالفيديو.. القيادية في الحرية والتغيير حنان حسن: (حصلت لي حاجات سمحة..أولاد قابلوني في أحد شوارع القاهرة وصوروني من وراء.. وانا قلت ليهم تعالوا صوروني من قدام عشان تحسوا بالانجاز)    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    الولايات المتحدة تختبر الذكاء الاصطناعي في مقابلات اللاجئين    الخليفي يهاجم صحفيا بسبب إنريكي    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو كيان جديد: العرنوبية : أهرامات وكنائس وقباب ... بقلم: ا. د احمد عبدالرحمن
نشر في سودانيل يوم 26 - 05 - 2010

(توطئة: لقد بقينا على الرصيف طويلا نتفرج على المستعمر وهو يحدد لنا هويتنا وحدود دولتنا وعلى ساستنا وهم يحتضنون تلك الحدود والتعاريف وعلى حكامنا العسكريين وهم يعملون لفرضها قسرا على الاطراف ومازلنا نتفرج على بعض تلك الاطراف وهي تممل للانسلاخ من هذا الركام منتظرين ما ستسفر عنه الاحداث. حسنا,لقد انتهى وقت الفرجة وحان وقت الالتزام منذ زمن .واجبنا الذي ندين به لاهلنا وابنائنا نحن مثقفوا هذا البلد,هو ان نبلور اسسا فكرية يمكن أن تبني دولة مستدامة. وهذه محاولة في هذا الاتجاه من افكار تدور في رأس الكثيرين فقط لم نعمل لايصالها الى نهايتها المنطقية. الآن اصبح الامر ملحا اكثر من أي وقت مضى ونأمل ان تحرك هذه الافكار المياه.)
قبل سنوات كتبنا داعين قادة الرأي الشمالي ساسة ومفكرين ومثقفين إلى الصحيان ومواجهة صورة المستقبل فكرياً وعملياً (Sudanile 12/6/2006أفيقوا ايها السادة) واعدنا نشرذلك الموضوع حديثا في احدى الصحف السيارة (الاحداث 26نوفمبر2009). مع الأسف مازلنا غافين فهاهما اثنان من مفكرينا ( د . منصور خالد و د . عبد الوهاب الأفندي) يؤكدان لنا "أننا نعاني محنة كبرى وإن أبرز معالم هذه المحنة هي " قصور المفكرين ونكوص المثقفين عن أداء دورهم في أعمال الفكر وضرب المثل في الاستقامة والسلوك الأخلاقي . (Sudanile 6/3/2007) . قلة قليلة من مفكرينا ومثقفينا نشطة فكرياً في الشأن السوداني لكن تفكيرها قصير النظر ، ما يشغلها هو أما تأييد النظام القائم (الحالي أو ما قبله) أو معارضته . قليل جداً من له رؤيا مستقبلية تمتد إلى جيلين أو ثلاثة في المستقبل وما ينبغي أن تكون عليه الأمور أو ما هو الشكل المثالي للبلد الذي يمكن أن يدوم ويستدام . فيما يختص بهذا الأمر نحن عموماً مستسلمون تحركنا الأمواج حيث تشاء . الخارطة التي تلقيناها من المستعمر نحارب كل من يحاول تعديلها حتى لو كان من أهلها ونرى أن ذلك سيكون نهاية العالم . الحركات الانفصالية (الاستقلالية) التي تقوم نعارضها ثم نهادنها على أمل أن "يعودوا إلى رشدهم " ويبقوا في دولة الوحدة بدون أي تفكير أنها قد تنفصل وبدون أي رؤيا ايجابية لما ينبغي أن يكون عليه وضعها .فلربما كان الانعتاق من مصلحة الطرفين .
يعيب علينا الكاتبان أعلاه أننا نهمل بعداً مهماً في تكويننا وهويتنا . حقيقة أننا لا نهمل بعداً معيناً فحسب بل نهمل التفكير في الأمر من أصله . نحن فقط نتقبل ما يقوله لنا الساسة والشعراء والفنانون الذين يتحدثون وكأنما نحن دولة متحدة في صورة زاهية,علما بأن مهمة المثقفين والمفكرين الشماليين هي بلورة أساس فكري لبناء دولة أو أمة مستدامة على الأصح . لا يكفي أن نتقبل الدولة الحالية بحدودها ومن تحتوي على أنها ما وجدنا عليه آباءنا أو ما ورثناه( من المستعمر) ونتقاتل من أجله . نقول هذا لأن بعض أهل الأطراف ظلوا منذ مدة يفكرون باستقلالية ويريدون لأنفسهم كياناً منفصلاً بل تخطوا مرحلة التفكير وحملوا السلاح . بينما نحن أهل الوسط نتفرج على حكوماتنا العسكرية تحاربهم ونعتقد أنه فقط لو تغيرت النظم الشمولية فسيعودون إلى رشدهم لأننا نرفض تفكيرهم الانفصالي ونأمل أن "يتعافوا" منه !
نحن كما قلت لا نهمل جانباً مهماً من هويتنا فحسب ولكننا لا نفكر في الأمر برمته. نحن نتفرج على مكون أساسي في هويتنا يدعيه الآخرون ولا نحرك ساكناً كأنما الأمر لا يعنينا . أنا هنا أفكر بأشياء مثل " عايدة " الأميرة القادمة من الجنوب وبطله الأوبرا الشهيرة التي لا نفكر بها إطلاقاً ومن يسمع بها يتقبل ما يقال من أنها أميرة أثيوبية من ذلك القطر المجاور بينما كل الدلائل تشير إلى أنها مما يسمى بلاد السودان اليوم .
نعم تلك مجرد أسطورة في أوبرا كتبها الموسيقار الإيطالي فردى في افتتاح قناة السويس ، لكن لها قيمة اعلامية حيث تؤدى كل شتاء بواسطة فرقة عالمية عند اسفل الاهرامات. علينا أن نصحح ذلك ونحتضنها كجزء من أساطيرنا مثل تاجوج وغيرها . أفكر كذلك في بلقيس التي ينتسب إليها آخرون وتتقبل نحن ذلك بدون سؤال رغم أن هنالك ما يثبت تاريخياً أنها هي الكنداكة التي حكمت أواسط السودان قبل الميلاد بسنوات . (عبد المنعم عجب الفيا : بلقيس الحبشية وكنداكة السودانية ، سودانايل 16/5/2007) .
أفكر كذلك في بعانخى وترهاقا حماة وغزاة وادي النيل الذين ترقد بقاياهم في المتحف المصري بالقاهرة تحت مسمى " الأسرة الخامسة والعشرين " أي أنهم تم استيعابهم كجزء من السلالات التي حكمت مصر فتركناهم لها بينما نحن أولى بهم . تنكُرنا لتاريخنا القديم ظهر في أقوى صوره في تلك الدعوة التي برزت مع بداية "الإنقاذ" الداعية إلى تحطيم تماثيلهم القليلة الموجودة في متحف الخرطوم على أساس أن ذلك كفر . الحمد لله أن تلك الدعوة الطالبانية لم تجد آذاناً صاغية حينها . أفكر كذلك في النجاشي ملك " الحبشة " الذي أوى مهاجري المسلمين والذي نفكر فيه كشخص من بلد آخر لا يمت إلينا بصلة بينما كل القرائن تقول أنه من مملكة المقرة المسيحية كما ذكر الأساتذة عبد الله الطيب وحسن الفاتح قريب الله وعبد العال عثمان ( إمام محمد إمام : السودان في الكتب المقدسة, الشرق الأوسط 12/11/2002). ولماذا نذهب بعيداً فقد كان د. جون جرنج أعلن أنه ينوى إصدار جريدة باسم " كوش " ولم نستغرب أن يدعى قائد حركة " انفصالية " انتسابهم إلى مملكة تبعد عن موطنه مئات الأميال ولم يقل أحد منا أننا أولى بكوش ، نحن الذين نعش وسط آثارها !
نعم نحن نهمل جانباً مهماً في هويتنا ونفكر وكأنما تاريخنا بدأ بمملكة الفونج . لا اقصد بذلك الجانب الذي يسميه د . منصور خالد " الأفريقانية" فكما أوضح الكاتب أعلاه (عبد الوهاب الأفندى) أن الأفريقانية مفهوم غير مفهوم لم يبلوره من أتوا به . لكنني أعني بذلك أننا نهمل ما كان موجوداً قبل دولة الفونج من حضارة نوبية ، ثم حضارة نوبية مسيحية والتي تطورت في النهاية على حضارة نوبية - عربية – مسيحية - مسلمة . كل هذه المكونات شكلت هويتنا من ناحية ثقافية حضارية . وتم ذلك باختلاط بشر من عرقيات مختلفة ولكن أساسها نوبة وعرب وذلك أساس كل سكان أواسط السودان على جانبي النيل وفي البطانة والجزيرة وكردفان والبحر الأحمر . وفيما يختص بالمكون النوبي وبالرغم من أن اسم النوبيين يقتصر على من يعيشون حول و شمالً دنقلا اليوم ، إلا أن الدراسات الحديثة أكدت ارتباط اسم النوبة بالقبائل التي كانت تتجول في مناطق كردفان ودارفور والشمالية وعلى النيل ( أحمد الياس حسين ،Sudanile 13/2/2008) . بل أن هنالك من أوضح أن حدود مملكة علوة امتدت حتى بحيرة تانا مما يدخل البجا في تجانس مع النوبة. وبالنسبة الى البجا فقد اوضح نفس الكاتب اعلاه صلتهم القوية بالنوبة وانهم عاشواعلى شواطئ النيل والبحر الاحمر وتزاوجوا وكانوا يمثلون قطاعا كبيرا من مملكتي نبتا ومروي وهم بذلك جزء من الشعوب الكوشية(د. احمد الياس حسين:سكان منطقة البحر الاحمر والنيل قبل القرن السابع الميلادي,سودانايل, 7مارس 2007.) كذلك يرى المؤرخ الامريكي هيرمان بل ان اللغة النوبية كانت سائدة من جنوب مصر حتى سنار(الشرق الأوسط 18/2/2003.)
هذا الهجين الثقافي تم بوسائل عديدة أهمها هجين عرقي وليست هنالك اليوم مجموعة نوبية صرفة ولا مجموعة عربية صرفة بل تتفاوت هذه المكونات في كل منا . تستطيع قبيلة كالرشايدة التي هاجرت حديثاً أن تقول أنها عربية صرفة لكن قليل غيرها من يستطيع إدعاء ذلك ويستطيع سكان جبال النوبة أن يقولوا أنهم أفارقة صرف . لكن حتى الجعليين والشايقية مثلاً بهم مكون عرقي نوبي كبير وكذلك الدناقلة من الجانب الآخر بهم مكون عرقي عربي (من الجنس السامي) كبير كما ان للمحس صلة قوية بالخزرج .
هذا الهجين هو في سحنتنا ، في ملامح وجوهنا ، في عاداتنا ، في لغتنا في موسيقانا ، في قيمنا وفي سلوكنا وفي صفاتنا . هذه هي برأيي الصفات الموحدة لأهالي أواسط السودان التي يمكن أن تكون أساساً لقيام دولة قومية (Nation-State) . هذه ليست دعوة لاستبعاد آخرين بل هي ردة فعل أو على الأصح مبادرة لبلورة هوية وتحديد أساس . ردة فعل لأن الآخرين بدأوا سلفا ومنذ زمن يبعدون بأنفسهم عنا ويبحثون عن هوية مختلفة غير تلك التي نحاول نحن فرضها عليهم . ففيما يختص بالجنوب فالأمر لا يحتاج إلى برهان فهم حملوا السلاح علي ثلاث دورات (1955 / 1962 / 1981) والآن هم بصدد إقامة دولتهم المنفصلة بل انها قامت فعلاً وفقط الغافلون هم من سيفاجئون باختيار الجنوبيين الاستقلال . أما دارفور مثار الصراع الحالي فالإشارات تترى كل يوم . هذا هو متحدث باسمهم يقول لنا " تقرير المصير لدارفور طلب جدي وليس مناورة " . ويحذرنا بأن" الحقيقة التي يتوجب على حكومة الخرطوم أن تعرفها هي أن قيادات دارفور الحالية التي درست بالجامعات في المركز وتزوجت من بنات المركز .. الخ هي آخر جيل دارفورى يمكن أن يتمسك بالوحدة مع المركز بعد الفظائع التي شهدتها الأجيال الأخيرة ذات الارتباط الضعيف بالمركز". (سودانايل ,18/7/2007). أما المتحدثة باسم المجموعة الحرة ( من الذين وقعوا على اتفاقية أروشا) فهي تدعو الى تبني أسلوب نيفاشا لحل مشكلة دارفور طبقاً لتصريحها في برنامج تلفزيوني حديث ( تلفزيون النيل الأزرق – 10/8/2008) .
حقيقة لا يمكن لوم أهل دارفور إذا أرادوا تمييز أنفسهم وإذا شعروا بالغبن الذي يفترض أنهم عبروا عنه في " الكتاب الأسود " ( الذي نسمع به ولا نراه) ، فهم كانت لهم دولة مستقلة حتى عام 1870 عندما أمنتها جيوش الزبير لمصلحة خديوي مصر واستمرت كذلك لفترة وخلال المهدية حاول يوسف, أحد سلالة ملوك الفور والذي كان عاملاً من قبل المهدية على دارفور, الاستقلال عن الخليفة إذ حن لملك أبائه ، لكنه فشل في ذلك وبعد المهدية أقاموا دولتهم مرة اخرى بقيادة على دينار. فهنالك أذن أساس لتلك النزعة الاستقلالية شجعتها سياسة حكومة الإنقاذ القاهرة وتلقفت الامر الجماعات الليبرالية الغربية التي كانت تبحث عن قضايا تتبناها فوجدت ضالتها في قضية دارفور وفعلت ذلك بهستريا كما ذكر احد كتابهم (جوناثان ستيل ,الجارديان 10/8/2007) . نعم ساعدتهم الحركة الشعبية لتحرير السودان وغذتهم فتبنوا نموذجها ، لكن وضع اللوم على الحركة لا يجدي ، كما أن تبني نظرية المؤامرة لن يجعل المشكلة تختفي . وعلينا أن نستفيد من تجربة الجنوب حيث كنا ندفن رؤوسنا في الرمال ونلقي اللوم على الاستعمار ونرفض مواجهة وجود مشكلة حقيقية فدفعنا الثمن غالياً هو خمسون سنة من الفرص الضائعة والأدهى: ملايين الأرواح التي زهقت وفقر مدقع ودولة فاشلة .
علينا أن نذكر أنفسنا بالاتي :-
1 ) عملية بناء الدول ( nation – building) ليست شيئاً يحدث عفوياً أو نتيجة للصدف بل عمل واع مقصود (purposeful) .
2 ) بالرغم من المثاليات فما زالت الأسس لبناء الأمم هي ما قال عنه علماء السياسة (من أبن خلدون إلي حسن نافعة) : تجانس في اللغة والدين والتاريخ والمصالح بدرجات متفاوتة . كذلك أكد علماء الاقتصاد أنه كلما زاد التجانس كلما زاد النمو والازدهار الاقتصادي (Adelman & Taft.Society,Politcs and Economic Development 1971) أو كما كتب أحدهم حديثاً :
" Ethno-nationalism was not a chance detour in European history. It corresponds to some enduring propensities of the human spirit that are heightened by the process of state creation. It is a crucial source of both solidarity and enemity and, in one form or another, will remain for many generations to come. One can only profit from facing it directly. " J Miller, Foreign Afairs, March / April, 2008.
3 ) أننا ركام متنافر خلقة الاستعمار به نقاط انفجار خاصة في أطرافة الجنوبية والغربية وليس هنالك قانون سماوي يقول انه يجب أن يبقى في دولة واحدة .
إذا قبلنا هذه المسلمات يبقى البحث عن أسس جديدة ولذا نقترح العرنوبية ونوضح أسباب اختيارنا أدناه :-
العرنوبية لماذا ؟!
أولاً : غالبية سكان مناطق وسط السودان الحالي يمكن إرجاع أصلهم العرقي إلى واحدة من هاتين المجموعتين بدرجات متفاوتة وذلك شئ أوضحناه أعلاه وقليل جداً من يستطيع أن يدعى النقاوة العنصرية لأي من المجموعتين .
ثانياً : هذه المجموعات تعايشت مع بعضها عبر السنين في سلام . لا نقل أن حياتها خلت من النزاعات ، لكن لا تشعر أي من المجموعتين بالغبن والظلم من الأخرى ، مثلما يشعر أهل الجنوب من أهل الشمال عموماً أو ما يشعر به بعض أهل الغرب من أهل " البحر " ، فعلى مستوى القادة نجد رؤساء من الجانبين (نوبة وعرب)حكموا القطر وبين الرأسماليين وعلى مستوى المهنيين والطبقة الوسطى نجد الجانبين ممثلين بدرجة كافية .
أرث العرنوبية :
نتكلم هنا عن السمات والخصائص والقيم التي تمثل أساساً لخلق أمة .
أ-الأرث النوبي : تاريخ النوبة تاريخ حافل بالرغم من أن الكثير منه مازال مطموراً وكانت لهم حضارة و مساهمات قيمه في التقدم البشري نذكر بعضاً منها أدناه.
1 ) ديانة التوحيد : معلوم أن الديانات الموحدة الثلاث كانت حاضنة لأهم الحضارات . هناك الحضارة العربية التي أساسها الإسلام كما أن الحضارة الغربية توصف بأنها الحضارة اليهو- مسيحية (Judo – Christian) . اليوم هنالك دلائل كثيرة أن ديانة التوحيد خرجت من بلاد النوبة إلى مصر ثم إلى الشرق الأوسط (هيرمان بل : حضارة وادي النيل انتقلت من النوبة السودانية : الشرق الأوسط 18,/2/2003) .
2 ) صهر المعادن وشغلها : طبقاً لبازل ديفد سون المتخصص في التاريخ الأفريقي أن مملكة مروي هي أول من صهر الحديد بأفريقيا وقد اكتشفت فرق كشفية حديثة أن صناعة الذهب كانت متقدمة في كوش .
(http :/chronicle.uchicago.edu/070712/sudan.shtml. )
حقيقة إن مجوهرات الملكة شنحيتو (أحدى ملكات مروي) ترقد اليوم في المتاحف الألمانية (مجلة الشرق الأوسط ، العدد 474 ، 26 يوليو - أغسطس 1995) .
3 ) بناء الأهرامات : هنالك اليوم ما لا يقل عن أربعين هرماً في السودان لكنها ليست قبلة السياح – ومع ذلك هنالك أعداد متزايدة من علماء المرويات الذين يرون أن أول أهرام بني كان في بلاد النوبة . الأهرامات هي إعجاز هندسي معماري ومازال العلماء يحارون في كيف تم بنائها ويتعجبون من جوانبها الفنية المدهشة .
4 ) ثقافة التسامح والتعاون : سكان هذه المناطق كانوا دوماً على استعداد للتعايش مع الآخر وكانت بلادهم دوماً مفتوحة للمهاجرين الجدد . ولم تكن حضارتهم حضارة غزو للجيران .وحتى احتلال بعانخي وترهاقاً لمصر كان دفاعاً عنها من غزاة كانوا حتماً سيغزون بلاد النوبة أن نجحوا في غزو مصر . احتضن النوبة الهجرات المختلفة من قديم الزمن ولم يحاربوا من سعى إلى مناطقهم سعياً وراء الرزق والكلأ والماء,وقد أتى المهاجرون من جميع الجهات : من الجزيرة العربية وشمال وغرب أفريقيا . كانوا كذلك في السابق ومازالوا في القرون الأخيرة كالرشايدة الذين نزحوا في القرن التاسع عشر والفلاته الذين أتوا ليجنوا الشهادة مع المهدى في القرن التاسع عشر أو ليجنوا القطن في القرن العشرين ( حقيقة الكرم السوداني وتقبل الضيف الأجنبي والسماحة السودانية لا بد أن جذورها نوبية لأنها تفوق ما عند العرب) .
ب – الأرث المسيحي : لم يكن من الصعب على من كانوا يتبعون ديانة الرب الواحد أن يتقبلوا المسيحية . وبلاد كوش مذكورة في الإنجيل وقد تبنت الديانة المسيحية في القرن السادس الميلادي (ضرار صالح ضرار : تاريخ السودان الحديث : جده ، مطابع سحر 1898, الطبعة العاشرة) .
وما زالت الكشوفات تترى لكن مازال هنالك الكثير الذي نجهله عن تاريخ الممالك المسيحية في السودان . هذا جزء مهم من تاريخنا لا نذكره إلا نادراً ولا نجله ، بل نتحدث عنه كأنما هو يختص بأسلاف ليسوا أسلافنا . نعم أجدادنا كانوا مسيحيين قبل خمسمائة سنه وهنالك كتابات قليلة عن عادات أصلها مسيحي مازالت سارية مثل زيارة النهر في أربعين المولود وعند الختان وهي شبيهة بالتعميد (baptization) وكذلك اربعين النفساء . نحن بحاجة إلى البحث أكثر في هذا التاريخ والنظر إليه بعين الرضا لا الخجل منه . جزء كبير من الأرث المسيحي تم استيعابه في الإسلام فالإسلام يجب ما قبله والإسلام هوآخر الأديان الموحدة فهنالك قصص وقيم مشتركة كثيرة بين المسيحية والإسلام وذلك طبيعي لأن أصلهما واحد .
ج – الأرث العربي : وفي هذا ليست هنالك حاجة للإطالة لأن هذا واقع نعيشه والأرث العربي يتمثل اكثر مايتمثل في الدين الإسلامي لأن العروبة بدون الإسلام لم تكن شيئاً مذكوراً والإسلام هو ما قدمه العرب للعالم وهو الدين الذي أتي ليكمل مكارم الأخلاق ، ( وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) . لاحظ أن النبي صلعم لم يقل أنه أتي ليبدأها بل ليكملها فالإسلام هو تمام الأديان السابقة وهو دين كل أهالي المنطقة التي نتحدث عنها حالياً .
الكيان الجديد : كوشنار
تلاحظون أن عنوان هذه الرسالة هو نحو كيان جديد ، ولم نقل نحو سودان جديد مثلاً وذلك لأسباب عدة نوجزها أدناه .
أولاً : السودان الجديد دعوة أطلقها الزعيم الراحل جون جرنج ولكنه لم يسترسل في شرحها وبقيت مبهمة وقد قدم أحد مفسريه قبل فترة محاضرة يشرح معناها وقد قمت بقراءتها وكل ما فهمته منها أنها دعوة للمساواة في المواطنة بصرف النظر عن الأصل والدين والعرق والقبيلة(د. الواثق كمير:السودان الجديد:نحوبناء دولة المواطنة) . وهي لذلك دعوة حميدة لكنها لا تكفي لبناء أمة فاسس بناء الأمم كما وضحنا أعلاه عديدة وحقيقة لا يذكر علماء السياسة ذلك كأحد شروط قيامها فالمساواة في المواطنة لم تمنع الباكستان من الانفصال عن الهند كما لم تمنع الشيك من الانفصال عن السلوفاك . وحيث أن الحركة التي كان جرنج يقودها سائرة لقيام دولة مستقلة في الجنوب فنحن نتمنى لها أن تطبق هذه الفكرة بين قبائلهاو مجموعاتها المختلفة لأن سلمنا من سلمها .
ثانياً : هذا اللفظ السودان في أحسن أحواله هو وصف للون بشرة المجموعات التي تعيش في وسط وشرق إفريقيا وفي أسوأ حالاته يعني " العبيد " وهنا أحيلكم إلى شراح المتبني في بائيته "أعيدوا صباحي " حيث قال :
أتاني وعيد الأدعياء وأنهم اعدوا لي السودان في كفر عاقب "
وإذا كنت في دول المشرق العربي و طلبت من صاحب مسحنة أن يبيعك " فستق عبيد " فسيناولك ما تسميه أنت " الفول السوداني " .
من حيث الجغرافيا السياسية ، هذا الاسم اختاره لنا المستعمر وتقبلناه ونحن في عجالة التخلص منهم . ويقال أن هنالك من اقترح " سنار " اسماً لدولتنا الفنية ولكن لم يلق أحد بالأ له .
الاسم من الأشياء المهمة في حياة الفرد وحياة الأمم . من الناحية العائلية نجد أننا نختار أسماء المواليد بعفوية علماً بأن صاحب الاسم سيحمله طيلة حياته وقد يسعد أو يشقى به ، لكن مع الأسف أغلبية الآباء لا تعير ذلك شأناً . فالاسم يجب أن يكون مميزاً يميز صاحبه عن الآخرين ويجب أن يكون له معنى إيجابياً . والشركات اليوم تنفق الملايين من اجل اختيار اسم للمؤسسة أو لمنتجاتها لعلمها أن ذلك مهم . وبالنسبة للدول يجب أن يوحي الاسم لمواطني تلك الدولة بإيحاءات عديدة موجبة . وهنا اقترح كوشنار المختار من الكلمتين :كوش – وسنار(مثلما صغنا العرنوبية من كلمتين) وفيه يتمثل المكونان الأساسيان لتاريخنا وثقافتنا . دولة النوبا بتاريخها ودولة سنار باعتبارها أول مملكة افريقية عربية مسلمة .
أما ما حدود هذه الدولة فأعترف أنه لن يكون سهلاً وسيخضع للتفاوض ولكنها حتماً ستضم أواسط السودان الحالي (الشمالية والجزيرة بنيليها والبطانة و كردفان والشرق (كسلا والبحر الأحمر) . قبائل الشرق هي جزء من منظومة العرنوبية فهي بها قبائل عربية كما ان للبجا صلة قوية بالمجموعتين ويصنفهم البعض ضمن النوبة وقد كانوا دوماً يتاجرون ويتعاملون مع أهل النيل . أما قبائل دارفور العربية فلها الخيار واراهن أنها ستنضم للدولة الجديدة .
ردود على تحفظات : قد يرد البعض بأن هذه دعوة عنصرية حصرية ولكنه قول مردود . أنها ليست كذلك لأن أساسها هجين من عنصرين أساسين ولا تدعى النقاء العرقي . أما القول بأنها تعزل أهل الجنوب ودارفور فهؤلاء ليسوا بحاجة إلى من يستوعبهم أو يعزلهم فهم قاموا بملء إرادتهم لتأكيد اختلافهم عن الآخرين ونادي كثير من الجنوبيين بذلك صراحة وامر انفصالهم ليس واردا فحسب بل حتمي. واما ثوار دارفور فلم يفصح كلهم عن ذلك بل بعضهم فقط الى عهد قريبالآ لكن الدلائل تشير إلى توجههم الاستقلالي وتترى الاشارات كما اشرنا إلى بعضها أعلاه وكما هدد بذلك خليل ابراهيم قبل فترة(النهار الكويتية ،20/9/2007) .ومنذ ذلك الحين توفرت شواهد عديدة تؤكد ماذهبنا اليه فهاذا مؤرخ فذ للحركة ينبئنا ان اكبر حركات التمرد (حركة تحرير السودان) كان اسمها في البداية حركة تحرير دارفور(عبده مختار موسى:دارفور من ازمة دولة الى صراع القوى العظمى) وتلك في رأينا هي عين استراتجية جون جارانج, حركة انفصالية تغلف في شكل حركة تحرير عامة لاسباب تاكتيكية. واليوم ترك قادتها المراوغة وصاروا ينادون علنا بحق تقرير المصير كما فعل النذير ادم موسى حديثا(سودانايل10يناير 2010.) كذلك قام فصيل من الحركة حديثا بزيارة الى جوبا للتهنئة والاستفادة من تجربة الجنوبيين في اجازة قانون الاستفتاء( الشرق الاوسط11 يناير 2010). في حقيقة الامر ان من اهم اسباب فشل االاتفاق في ابوجا وفشل محادثات الدوحة ان تبدأ حتى هو ان بعض اهم الفصائل ليست مهتمة باقتسام السلطة والثروة وانما يريدون كل السلطة وكل الثروة لأنهم يعلمون ان اقصى ماسيلقون من التفاوض هو مجرد منصب نائب رئيس وصندوق لدارفور. واخيرا صرحوا بذلك حيث اشترطت حركة تحرير دارفور تضمين حق تقرير المصيرفي مفاوضات الدوحةSudaneseonline,24/1/2010 ). ونحن هنا لانلومهم, فقط ننبه ان نضع ذلك نصب اعيننا ونحن نفكر في بناء دولة العرنوبية.
العرنوبية تتسع لجميع سكان منطقة وسط السودان لأن أهلها تقبلوا كل القادمين من الجهات الأربع كأهل لهم كأولاد الريف (ذوي الأصل المصري والتركي) والقادمين من غرب أفريقيا كالفلاته وكلهم يعيشون بيننا في وئام ويتبأون أعلى المناصب . كل ما نقوله أن السمات الأساسية للكيان الجديد هي " العرنوبية " مثلما أن الأنجلو – ساكسون هم أساس انجلترا ولكن المجال واسع أمام الهنود والأفارقة وأهل شرق أوروبا في إنجلترا وبنفس الوتيرة اليهو- مسيحية هي عماد ثقافة أمريكا لكنها تتسع للمسلم والبوذي . فكذلك ستكون العرنوبية لمن يريد.
قد يقول قائل أننا دعاة انفصال . لا, نحن فقط ننبه إن الانفصال قادم لا محالة فلنستعد له . هذا الاتهام يذكرني بمقولة للزعيم مالكوم اكس الذي تنبأ وحذر المجتمع الأمريكي من العنف القادم فوصفوه بأنه " داعية عنف " لكنه كان يرد عليهم بأن ذلك مثل اتهام من ينبهك باشتعال حريق أنه هو من أشعل النار .
نحن فقط ننبه أن أجزاء من القطر في سبيلها إلى الانعتاق وقد حملت السلاح وأن لها أسباباً موضوعية . ولذا علينا أن نستعد لذلك ونلملم ما تبقى على أساس وصدقونا أن ما سيتبقى ليس بالقليل . فعلينا أن نحدد هويتنا التي تجمعنا نحن من عاش سوياً وتداخل خلال التاريخ وأن نفخر بذلك . نعم علينا أن نردد مع محجوب سراج ومحمد وردي :
يوم خط المجد في الارض دروبا عزم ترهاقا وايمان العروبة
عربا نحن حملناها ونوبة
اللهم قد بلغت فأشهد
ملحوظة:كتبت هذه المقالة قبل سنتين تقريبا ووزعت على نطاق ضيق بين الاصدقاء والمعارف وحينها تحفظ البعض على بعض الافكار ونصحوني باعادة النظر في بعض جوانبها مما جعلني اتردد في نشرها لفترة غير ان الايام اتت بشواهد كثيرة اكدت ما ذهبت اليه فضمنا بعضها هنا.
Dr. Ahmed Abdulrahman [[email protected]]
ا. د احمد عبدالرحمن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.