منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث: المدنيون في الفاشر يكافحون بالفعل من أجل البقاء على قيد الحياة    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يهزم مازيمبي بثلاثية نظيفة ويصعد لنهائي الأبطال    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    وصول طائرة للقوات المسلّحة القطرية إلى مطار بورتسودان    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تمرينٌ في أدَبِ الرّسَائلِ والخوَاطِرِ: عن الفريق عبود وعاصم خليفة والتعايشي.. بقلم: جمال محمد ابراهيم
نشر في سودانيل يوم 27 - 05 - 2010

أستميح قراء هذا الباب، لأن أدخل عليهم برسالة حميمة من أدب الرسائل ، جائتني قبل عدة أشهر من الصديق الأستاذ عمر جعفر السَّوري، وأذكّر أن لقبه ينطق بفتح السين وتشديدها ، لا ضمّها حتى لا يلتبس على البعض أنه نُسبَ إلى بلد !
يتذكر متابعي مقالاتي أني خصصت بتاريخ 21/ 4/ 2010 ، مقالاً عن الراحل محمد سليمان الخليفة التعايشي ، وحكيت شيئاً مما ورد عن استشهاده في حادث الطائرة الشهير، بعد يوم من انقلاب هاشم العطا في يوليو من عام 1971. إلى جانب ما ورد من الأستاذ السوري حول استشهاد الراحل محمد سليمان، وما تواتر في رواية السفير اللبناني المتقاعد جهاد كرم في كتابه "ذكريات في السياسة والدبلوماسية والمرأة" ، فقد حوت رسالة الأستاذ عمر جعفر السوري استطرادات وتداعيات ، حول الأدب والفن والغناء . نظرت في رسالة الصديق السوري ، فحزنت أني أبقيتها حبيسة ملفاتي في حاسوبي ، بل سقطت عن عيني زماناً، وخذلني حاسوبي في استعادتها إلا قبل أيام قليلة ، وبعد نشر مقالي عن الراحل الشهيد محمد سليمان التعايشي.
ولكي أبعد الحرج عن القراء الأكرمين، فإني أقول إن الأستاذ السَّوري منحني الأذن مفتوحا للتصرف برسائله البديعة ، ولي أن أشرك فيها قراء "الأحداث" متى ما عنّ لي ذلك . ولعل هذا الباب من الأدب يكاد أن يندثر ، إلا فيما سمعنا وقرأنا مؤخراً ، إن لم تخني الذاكرة - عن رسائل كنفاني للأديبة السورية غادة السمان ، أو رسائل الراحل محمود درويش وسميح القاسم . لن يكون مقال " أقرب إلى القلب"، هذه المرة إلا رسالة الأستاذ السوري . .
( 1 )
أخي السفير الأعزّ جمال محمد إبراهيم
إليك سلام يهنأ عندك و يطيب مقاما،
سررت برسالتك الأخيرة وما حوت، سروراً بالغا، فقد أيقظت همة استكانت، ولواعج إلى زمن مضيء، وأشواقاً وأحزاناً وهمومَ، ظننتها قد خبت ومضت إلى غير رجعة، لكنها لم تزل متقدة، تضطرم تحت رماد السنين، وتتوهج خلف صدأ الأيام. فلك شكر لا ينقطع حبله على هذه التذكرة!
محقٌ أنت فيما ذهبت إليه عن ركاكة الغناء هذه الأيام في السودان وغير السودان؛ ليس فيما يخصّ الكلمات فحسب، بل اللحن الذي أصبح لا يطرب نفساً، كما أضحى لا يحرك قلباً نابضاً، وقد كانت الأغاريد فيما مضى تهزّ ما فتر من جوانح هزّاً، وتحيّ جيف المشاعر البليدة حتى تضجّ بالحياة.
حدثني الموسيقار السوداني المبدع، عاصم عبدالله خليفة - قبل حين من الزمن - عن رسالة الدكتوراة التي أعدّها في موسكو منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وكانت عن (أغاني المدينة السودانية في مائة عام)، فأسهب. وكان السفير العزيز، محي الدين أحمد سالم (حاليا سفير السودان في اثيوبيا)، حضر مناقشة تلك الرسالة إبان خدمته في العاصمة السوفيتية يومذاك، ووصف لي، يوم جاء منتقلا إلى دمشق من موسكو، النماذج التي قدمها عاصم بمصاحبة فرقة من جياد العازفين ورديف المغنين المصاحبين، جعلت القاعة تعلو وتهبط وتميد وترتعد طرباً. فكأني كنت حاضرا معهم تلك الأمسية، من دقة وصف محي الدين البديع - وأنت تعرفه حينما يصف الأشياء ويرسل نفسه على سجيتها. كان اللحن الشجي وليد الكلم الجميل يسبغ عليه حلاوة ويمنحه طلاوة.
عرفت عاصما منذ الصبا، فهو من أبناء حي العمدة. حينما يعود إلى بيته من وزارة الصحة، يحتضن عوده، يداعب أوتاره، فيهيم ما بينها لساعات طوال، وأنا أنصت إليه، ثم نعرّج على العتيق من موسيقى العالم؛ وكنا حزبين مؤتلفين: باخ، وهو من أنصاره، وتشايكوفسكي أثير لديّ، أسرني بنشازه المستحب! ثم نخرج للعشاء عند أحمد سعد في أطراف ود نوباوي، وهو بائع فول منقطع النظير! فنمحو عنده أثر الهولندي الطائر، و"القدر يقرع الأبواب" والفرح و"ماسكرادا" و"بحيرة البجع" والسوناتات جميعا وهلمجرا، وقد نلتقي في الغدو أو الرّواح، الشاعر محمد سعد دياب، الذي كان يسكن إلى جوار عاصم، لنتوقف قليلا عند أبيات من الشعر. رسالة عاصم تلك - للأسف - لم تجد طريقها إلى الناس بعد، والنماذج التي قدمها أثناء المناقشة، فسحرتْ محي الدين سالم وبقية الحضور، من سوفيت وسودانيين وعرب وعجم وغيرهم، ما زالت بعيدة عن الآذان. أما صاحب الرسالة فقد انصرف عن الموسيقى إلى "الإغاثة الإسلامية"!! فماذا أقول.
( 2 )
ألحان الغناء السوداني فيما مضى، استلهمت موسيقى الكلمة وإيقاعات القوافي، وانداحت مع سحر القريض المتين؛ فأجمل الأغاني الخالدات هي التي نُظمت بالفصحى. المطربون حينذاك تخّيروا عذب القصيد من كل نبع صافي، وكانوا على معرفة به يبحثون عنه في متون الكتب و ينقبون دواوين الشعر حتى يظفروا بما يطربهم فيصوغونه غناء يدير الرؤوس كأنه الخندريس الرائق. صدحوا بقصائد لابن العفيف التلمساني المعروف بالشاب الظريف، وهو شاعر رقيق.. رقيق .. رقيق، وغنوا لأبي القاسم الشابي، ولطفي جعفر أمان وعباس محمود العقاد وعلي محمود طه، ومن ذكرت في رسالتك وغيرهم كثير. وأنشد عبدالعزيز داؤود من شعر سلطان العاشقين، عمر بن الفارض، (أطلق السودانيون هذا الوصف على الشاعر محمد بشير عتيق أيضا، كما أذكر)؛ وللسودانيين غنّى عبدالعزيز داؤود من شعر صاحب "الصباح الجديد"، حسين عثمان منصور؛ ولمحمد محمد علي، الذي مضى كما المنفلوطي في يوم الهول. رحل محمد محمد علي، الذي لم يلق ما يستحق من انتباه بعد، يوم رحيل عبد الناصر، أما المنفلوطي فقد انتقل إلى الباقية يوم الاعتداء على سعد زغلول، وتذكر أنت رثاء أحمد شوقي له:
اخترت يوم الهول يوم وداعِ و نعاك في عصفِ الرّياح النّاعي
هتفَ النعاةُ ضُحى فأوصد دونهم جرح الرئيس منافذ الأسماعِ
من مات في فزع القيامةِ لم يجد قدماً تشيّع أو حفاوة ساعي
و هذا ما جرى لكليهما، خرج خلف نعشيهما أفراد يعدّون على الأصابع.....
كذلك لازم عوض حسن أحمد أبا داؤود، بل كان صوت عوض شبيها بصوت (السواد الأعظم) إلى حد بعيد، فإذا ما استمعت إليه يغني من خلف حجاب، خلته عبدالعزيز ذاته هناك. وقد عرفت كليهما، وربطتني بهما صداقة حتى فارقت البلاد. عرفت عبدالعزيز أول مرة في برلين الشرقية بعد اعتراف السودان بجمهورية ألمانيا الديموقراطية، وابتعاث عوض أحمد محمد ليفتتح السفارة ويصبح قائما بالأعمال (خرج السفير عوض أحمد من وزارة الخارجية في هوجة مايوية واشتغل بالترجمة زمانا في سلطنة عمان وعاد مؤخرا ليستقر في الخرطوم- جمال). أما عوض حسن أحمد فقد كان مدرساً للغة الانقليزية في الأهلية الثانوية بأم درمان حينما كنت تلميذا بها، وقد ضمت يومئذ محمد عبد القادر كرف وسيد أحمد الحردلو من بين الشعراء. عُرف عوض حسن أحمد بانتمائه إلى الحزب الشيوعي – القيادة الثورية (أنصار ماو تسي تونغ)، وبأنه كان أحد قيادات جناح أحمد جبريل، بعد أن تشظت القيادة الثورية إلى عدد من الأجنحة. كما كان هو كل قيادة وأعضاء اتحاد الأدباء السودانيين الثوريين في آن، يدعوه أهل الصين إلى بكين ليمثل أدباء السودان كلما انعقد مؤتمر لاتحاد كتاب وأدباء آسيا و أفريقيا الموالي لهم، فينضمّ إلى اثنين آخرين كانا يقيمان هناك، أحدهما رجع إلى السودان في سبعينيات القرن المنصرم فعمل في وكالة السودان للأنباء، ثم توفاه الله و هو بين أهله وعشيرته.
ولعل أجمل أغاني سيد خليفة هي تلك التي غناها بالفصحى. كان حريّ أن يعرف بها لا بالمامبو السوداني. فقد شدى ب"أسراب الحسان" لعوض حسن أبي العلا (إن أسعفتني الذاكرة)، وصدح بعذب قصيد إدريس جماع وبغيرهما كثير. كل المطربين الكبار يومئذ تغنوا بالفصحى، وحتى العامية كان لها ألق وعنفوان وضياء في قصائدهم، فظلت كما هي في ميعة الصبا، لم ينفك المطربون والغاوون يهيمون ويترنمون بها. إذ إن لجنة النصوص بإذاعة امدرمان حرصت في تلك الأيام على تمحيص وتدقيق كلمات الأغنيات، لا تجيز غناءها إلا بعد فحص متأني. أما اليوم فقد أمدت التقنية الحديثة كل من هبّ و دبّ بأسباب الالتفاف على الحسّ السليم وخدش آذان الناس، وربما حياءهم أيضا. أنا لا أدعو هنا إلى الرقابة، فتلك هي ما عملت، قدر استطاعتي، على محاربتها والدعوة إلى تقويض أسسها وهدم بنيانها الذي شيده المستعمر، ثم دعم الطغاة البناء بمزيد من القيود، ولكني أنشد الضوابط وبناء القواعد، والانفكاك من أسر كل الأسوار انطلاقا إلى المروج لا السير إلى المهامه واليباب، وإلى لبس الدمقس الناعم والإستبرق القشيب، لا الأسمال البالية. ولعل الرقابة التي تأتت من قوانين سبتمبر/أيلول 1983 المشئومة التي ابتدعها موتورون وأمر بتنفيذها النميري، تلك الرقابة التي أشرف علي تطبيقها عوض الجيد وبدرية سليمان وأبو قرون وأمثالهم ، هي التي أدت - إلى أسباب اخرى - لفساد الذوق وانحطاط "الإبداع" وإلى غاسق قد وقب.
( 3 )
أما الوشائج التي تربطنا بلبنان ومصر، فهي ليست عميقة فحسب بل هي أزلية، أكانت معهما أو مع بقية المحيط. فالإرث الثقافي واحد، وهو الإرث الذي يحوي كل الموروثات السياسية والاجتماعية وأنشطتهما الاقتصادية والعلمية والروحية ، من أدب وفن وضروب أخرى من الإبداع. لا أجد في هذه المناسبة وصفاً لهذا أبلغ من خمرية ابن الفارض:
ولُطْفُ الأواني في الحقيقة تابع لِلُطْفِ المعاني والمَعاني بها تَنْمُو
وقد وَقَعَ التفريقُ والكُلّ واحد فأرواحُنا خَمْرٌ وأشباحُنا كَرْم
فجلّ الطرق الصوفية من تيجانية وشاذلية وقادرية وغيرها أتت من المغرب العربي، وظل السودانيون ينادون حفظة القرآن والنابغين في العلوم (دينية أو دنيوية) بالشناقيط حتى غلب على صحيح اسمه من تسمى بالشنقيطي. ذلك لم نخض فيه كثيرا؛ بل ينبغي لنا أن نفعل. وإن ظلت جدائل الروابط بمصر وبلاد الشام متينة فان الروابط مع تلك الأنحاء من شمال القارة ومغربها قد جُبلت بأديم البيئة و البنية الاجتماعيتين في غرب ووسط السودان وأجزاء من شماله، إن لم تكن قد شملت جميع الأراضي السودانية. ليس النيل وحده ما يربط السودان بمصر كما يحلو للكثيرين في البلدين التغني والتكرار، بل درب الأربعين لم يزل يشكل الشريان الاقتصادي والاجتماعي الأميز. فإن كانت دراو في صعيد مصر أهم سوق للإبل، فقد حملت العير إلى المحروسة، حتى رشيد ودمياط، ما هو أكثر من ذلك مما يمكث في الأرض. وبين مصر والسودان ما تعرف منذ عهود كوش والأسر الفرعونية، مرورا بالمسيحية والإسلام، حتى يومنا هذا إلى أن جاء النقيضان (حركة الإخوان المسلمين و الحزب الشيوعي) من شمال الوادي فهبت الرياح الهائجة وضربت العواصف السياسية الهادرة سواحل العلائق الهادئة مؤخرا وما كان يجدر بها، لولا ضيق الأفق والعداء للآخر واستعدائه.
( 4 )
بلاد الشام، خصوصا سورية و لبنان، تركت في السودان أثرًا كنا نلمسه و نحسه في الحياة اليومية من غير أن ننتبه له. لا أريد في هذه الرسالة أن أتحدث عن العلاقات الثقافية والسياسية والاجتماعية بيننا و بينهم. سأترك ذلك إلى وقت آخر، وقد طرقت أنت هذا الباب عن قريب. ولكن هل تذكر (فركة القرمصيص) التي ما خلا عرس أو ختان أو خفاض منها في تلك الأيام؟ لم يصحّ في عرف الناس هناك، أن تجري طقوس تلك الأفراح بدونها. كانت فرضا وواجباً. ذلك النوع من النسيج والأردية يصنع في دمشق وريفها. هل كان سودانيو المدن يصومون رمضان من غير القمردين والزبيب والتين المجفف، لزوم الخشاف؟ تلك كانت صادرات سرّ تجار دمشق، بدر الدين الشلاّح، وأسلافه ورهط أبي راتب من الدمشقيين وسكان الغوطتين. ويظنّ الناس أن (الكركب) أو القبقاب الذي قُتلت به شجر الدّر، قد ورد إلينا مع الأتراك، أو هو من صنعهم، بل غالب الظن أنه جاء من سورية. وفي دمشق سوقٌ وحيّ عتيق عند أطراف سوق الحميدية، يدعى القباقبية، أشتهر بصنع (الكراكب).
لم أحسّ في مصر وسورية بالغربة البتة، وقد لقيت الترحاب في لبنان. عشت في سورية ردحاً من الزمن لم أعرف فيه طريق وزارة الداخلية أو مصلحة الجوازات والهجرة إلا لأشفع لأحد السوريين عند أصحاب القرار! كان الأطباء و المهندسون ومن في حكمهم لا يغادرون سورية إلا بعد سنوات طويلة من أداء الخدمة العسكرية الإلزامية. وكان لي بينهم أصدقاء في حاجة ماسّة للسفر، فكنت أذهب إلى من أعرف من مسؤولي الجوازات والهجرة أو وزارة الداخلية، فيقبلون وساطتي في مواطنيهم. كان ذلك تكريما لي ما بعده تكريم! لم تعرف سورية (على الأقل حتى رحيلي عنها منذ عقدين) التفرقة بين الناس أيا كانت أجناسهم وأصولهم. فقد أصبح فلسطيني يحمل وثيقة سفر خاصة بالفسلطينيين وزيرا للإسكان في إحدى حكومات حافظ الأسد، ولم يكتشفوا ذلك إلا بعد أن أقسم اليمين، لكنه لم يقال من منصبه بعد أن عرفوا. وكان رئيس الاتحاد الرياضي العسكري السوري هو اللواء دانيال شكبازوف، من أصول روسية قحة، كما خدم في الجيش السوري ضباط من جنسيات عددا، بما فيهم الفلسطيني والروسي والقفقازي والإرتري وكثير من البشناق وغيرهم.
( 5 )
لم أعرف السفير اللبناني جهاد كرم الذي جاء ذكره في رسالتك، ولكن حدثني عنه بعض عارفي فضله. غير أني عرفت سفراء لبنانيين آخرين، أذكر منهم السفير خليل تقي الدين، أحد مؤسسي عصبة العشرة مع الياس أبي شبكة وميشيل أبي شهلا. وهو قاص و روائي يشار إليه بالبنان. معرفتي به جاءت بمحض الصدفة. فقد دعاني اتحاد الصحافيين والكتاب الفلسطينيين في نهاية السبعينيات إلى حفل تكريم يقيمه في بيروت، لشاعر فلسطين الكبير عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، شقيق حسن الكرمي، صاحب البرنامج الإذاعي الأشهر (قول على قول) الذي قدمه من هيئة الإذاعة البريطانية. قبلت الدعوة وحزمت الأمر على تلبيتها. عزمت على دخول لبنان من أبوابه الرسمية وذلك بالحصول على سمة دخول. كان لبنان في ذلك الوقت من الحرب الأهلية، قد فرض تأشيرة الدخول على عدد من رعايا الدول ومن بينها السودان. لم أكن أواجه من قبل ولم أواجه من بعد مشكلة في زيارة لبنان عبر الحدود السورية قط، سواء عن الطريق العسكري أو من نقطة المصنع الحدودية حيث عرفت جميع العاملين بها من ضباط ورتباء وعناصر. غير أن هاتفا ألح علي أن أتوجه إلى قبرص كي أحصل على تأشيرة لي ولوالدتي التي كانت تزورنا وقررت العودة إلى ام درمان عن طريق بيروت مثلما أتت. لم توجد آنذاك – كما تعلم - و حتى هذه اللحظة سفارة لبنانية في دمشق. كانت سفارة لبنان في قبرص تقع بالقرب من فندق "تشرشل"، حيث أنخت رحلي، فعبرت الشارع إليها في اليوم التالي لوصولي إلى بلاد افروديت الساحرة، وقدمت جواز سفري وجواز والدتي مع الصور الضوئية والرسوم وغيره إلى الموظف القبرصي المحلي الذي دعاني إلى الجلوس في قاعة الاستقبال. بُعيد هنيهة عاد وطلب مني مرافقته إلى مقابلة السفير، فتوجست خيفة. ظننت إن طلبي لم يلق قبولا و أن الرفض سيسبقه تحقيق. سألت الموظف عن اسم السفير، فأنباني انه خليل تقي الدين. سألته إن كان يمت بصلة قربى للسياسي اللبناني بهيج تقي الدين، فردّ بأنهما شقيقان. اطمأن قلبي قليلاً، لأنني عرفت وزير داخلية لبنان الأسبق عن طريق الصحافي أمين الأعور، و كان يومها يصدر مجلة "الكفاح العربي"، ويرأس تحريرها.
فور دخولي مكتبه وقف السفير مرحباً، ثم عرّفني على ضيوفه الثلاثة، وهم من لبنان. دعاني إلى الجلوس. قبل أن اجلس رأيت الجوازين فوق منضدته، لينعقد لساني، ويمسك عن النطق، و تكسو الدهشة تعابير وجهي. لمح بعين القاص والروائي اللّماحة، ما أنا فيه من ارتباك. ابتسم وقال، لقد كنت سفيراً للبنان في السودان لسنوات، شهدت خلالها أحداثا وتطورات، وعرفت من جوازك انك تمتهن الصحافة، فأحببت أن ألقاك. كانت فترة سفارتي في السودان مما لا أنسى قط. أنا أحمل للبلاد وأهلها طيّب المشاعر. ثم ناول الجوازين إلى الموظف وأمره بختم السمتين عليهما، وإعادة قيمة الرسوم إلي.
في ذلك اللقاء الأول الذي أمتد لساعة ونيف، روى لي ولضيوفه بعض ذكرياته هناك، وسأل عن معارف وأصدقاء. حكى لنا عن استدعاء الفريق إبراهيم عبود رئيس البلاد، له بصورة عاجلة. قال: "تلقيت مكالمة هاتفية ذات صباح من رئيس المراسم بوزارة الخارجية يخطرني بتحديد موعد لي مع الرئيس عبود لأمر عاجل بعيد الظهر، وأن الأمر لا يحتمل انتظار إرسال مذكرة دبلوماسية. لم تكن بين لبنان والسودان أزمة حينئذ، ولم يكن في سماء العرب ما ينذر بشر أو يبشر بخير. تملكتني الحيرة، وقضيت كل ذلك الصباح في ضيق شديد، أقلب الأمر يمنة و يسرى. دار بخلدي أن الحكومة اللبنانية أو الرئيس اللبناني قد بعث برسالة لم أدر عنها، فيها ما فيها. لم أستقر على رأي ولم أصل إلى ما ينير لي الطريق. قررت أن أستعد للأسوأ. ذهبت إلى موعدي مع الرئيس عبود، وهو رجل متواضع وودود وخجول. استقبلني فور وصولي ولكن بفتور ظاهر من غير عداء، ثم دلف إلى الأمر الخطير الذي جعله يستعجل المقابلة."
استطرد السفير تقي الدين في روايته ومضى إلى القول : "تمخّض الجبل فولد فأرا. لقد كان في خدمتي طباخ سوداني ماهر ولكنه طاعن في السن، فصار ينسى بعض الأشياء ويتجاهل في بعض الأحيان أوامري وطلباتي عن قصد أو غير قصد، مما دفعني في يوم من الأيام إلى تقريعه بحدة متناسياً فارق السن ولطف الرجل، أتبعت التقريع بحسمٍ في المرتب، ولم اكتف بالتوبيخ بل وجهت إليه إنذاراً بالفصل إن عاد إلى ذلك. لم أحسب قط انه سيذهب إلى رأس الدولة يشكوني إليه، وأن الرئيس سيأخذ المسألة على محمل الجدّ إلى درجة تدفعه لأن يقوم شخصياً باستدعاء السفير. قال لي الرئيس إن الرزق على الله ولكن كرامة كل سوداني تعنيه هو بالذات، ولا يتسامح فيها أبدا، ولذلك أراد أن يبلغني هذه الرسالة ولفت نظري إلى هذا الموضوع، وأنه سيكتفي باعتذار للطباخ عما بدر مني، وأن اصرفه عن الخدمة مكرماً معززاً، إن لم أشأ بقاءه في عمله. اعتذرت للرئيس أولا عن ثورتي على الرجل، ثم رويت له بعض أفعاله التي أنستني وقاري. ووعدته إنني سأعتذر له فور عودتي إلى السفارة، وانه سيبقى على رأس عمله. وهذا ما جرى. لم يكن ذلك الطباخ من أقرباء الرئيس، كما لم يكن من قبيلته أو منطقته. هزّني ذلك الموقف الإنساني والسياسي والدبلوماسي والاجتماعي وما شئتم من الوصف، حتى يومنا هذا." تلك رواية خليل تقي الدين، فأين كرامة السودانيين اليوم من ذلك الموقف، في ذلك الزمان؟!
( 6 )
كما روى السفير تقي الدين في مجلسنا ذاك الحكاية التالية عن ذكرياته في السودان : "في العام 1963، وجهت رقاع الدعوة إلى عدد كبير من الشخصيات السودانية والعربية والأجنبية والسلك الدبلوماسي لحضور حفل استقبال بمناسبة عيد الاستقلال اللبناني. غصّت حديقة السفارة بالمدعوين وامتد الحفل إلى ما يقارب منتصف الليل، كانت حفاوة الحضور من السودانيين بلبنان أكثر دفئا من حفاوتي بهم رغم ما بذلت من جهد لتجاذب الحديث مع كل من حضر. لكن فوجئت في اليوم التالي بعنوان صحيفة الأيام الرئيس على امتداد خمسة أعمدة (سفير لبنان يكرّم رجال العهد البائد). اشمأزت نفسي مما كُتب واعتراني حزن غضب، إذ لم آلف في أهل السودان هذا الحقد، بل عرفت عنهم الترفع عن الصغائر والضغائن. صحيح كان بين الحضور وزراء سابقون وسياسيون من قبيل محمد أحمد محجوب ومبارك زروق، ولكنهما محاميان لامعان يمارسان المهنة علانية، وهما من نجوم المجتمع مثل غيرهما ممن احترف السياسة بعد استقلال السودان، ولهما حضور في البلد وبين شعبه. أهملت الخبر، رغم انه حزّ في نفسي كثيرا. ثم عادت الحياة البرلمانية الديموقراطية بعد انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر، وجاء عيد الاستقلال اللبناني، فأرسلت بطاقات الدعوة لعدد كبير مثلما فعلت في العام الذي سبقه. كان بين المدعوين الذين لبوا الدعوة أعضاء من المجلس العسكري الذي حكم السودان ست سنوات وبعض وزرائهم، ومن بينهم وزير الخارجية أحمد خير. ففعلت مثل فعلي العام الفائت. حرصت على التحدث مع كل من حضر، حتى جاء دور بشير محمد سعيد، فقلت له : هذه هي المرة الأولى التي أعرف فيها عنوان خبر صحيفة قبل أن تطبع الجريدة: (سفير لبنان يكرّم رجال العهد البائد) وانصرفت."
لما بلغ ختام الحكاية كانت في حلقة غصة وبقية من مرارة ، ما غسلت علقمها الأعوام. أحسست أن الجفوة بينه وبين عميد أسرة الأيام ظلت قائمة حتى ودع البلاد مغادرا. ثم سألني عن كثيرين عرفهم، روى عنهم حكايات وطرفا. توطدت العلاقة بيننا مذاك، وكان وجود خليل تقي الدين في قبرص حافزا لي لتكرار الزيارة. زرته بعد أن عاد إلى لبنان مرات قليلة، لكن فاتني يوم وداعه الأخير، فقد كنت في المكسيك، وحزنت حزنا شديدا.
( 7 )
سأقرأ كتاب السفير جهاد كرم " ذكريات في الدبلوماسية والمرأة" ، لمّا اقتنيه. فمثله يقرأ. لكني لست واثقا من قصة الطائرة العراقية. فما أعرفه عنها يختلف كل الاختلاف مما ورد في المقطع الذي نقلته في رسالتك، و لست متأكدا من نجاة أحد ركابها. ربما أعود إلى هذه الحادثة، ومحمد سليمان وتلك الفترة في رسالة قادمة. فقد أثقلت عليك بما فيه الكفاية.
حزنت لرحيل منصور الرحباني (توفي منصور الرحباني في يناير 2009)، إلا أن حضور المتروبوليت جورج خضر على رأس مودعيه أثلج صدري، وسرّني انه أبلى من وعكته الأخيرة. كانت عظته في القدّاس الجنّاز تليق بالراحل الكبير. كذلك ساءني رؤية جميع الطوائف المسيحية ممثلة بقياداتها الروحية في ذلك الوداع، وليس بين طوائف المسلمين شيخ من شيوخ (الدين) أتى إلى صلاة الوداع، كأن منصور لم يكن لهم، و كأنهم ملوك الطوائف في زمن حكم الرعيان! هم كذلك ما دام اليفاع يمسكون بدفة الربان في مراكبهم. أمازالوا يحرمون غذاء الروح و بلسم النفوس؟ لله دره مطران العرب حينما خاطب الراحل الكبير: "تجئ من لغة العرب التي يطيب فيها الاستلذاذ." ثم خاطبه بالقول: "و مع اختفائك يستطيع العارفون أن يخترقوك من نواحٍ كثيرة، ولا سيما من خلال الشعر الفصيح، الذي انسال منك." أليس هذا ما يفتقده المغنون في السودان هذه الأيام؟
لك فيض مودتي مع فائق الاعتزاز. .
عمر جعفر السَّوري
jamal ibrahim [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.