التلفزيون الجزائري: الإمارات دولة مصطنعة حولت نفسها الى مصنع للشر والفتنة    بتعادل جنوني.. لايبزيج يؤجل إعلان تتويج بايرن ميونخ    منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    "من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    المرة الثالثة.. نصف النهائي الآسيوي يعاند النصر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. منصور خالد ... هل تنبأ بفصل الجنوب !! .... بقلم: علي عثمان المبارك
نشر في سودانيل يوم 13 - 06 - 2010

كعادة السودانيين دائماً ما يأتون متأخرين في كل شيء.. في مواعيدهم .. في قضاياهم الخاصة والعامة.. حتى في المناسبات الاجتماعية ، لا قيمة للزمن عند الكثيرين. والأدهى والأمر ما يقوم به السياسيون عند معالجة كثير من القضايا الملحة ، إنهم ينتظرون حتى الساعة الأخيرة. انظروا إلى الانتخابات الأخيرة .. كيف كانت الفعاليات السياسية تعالج الأمور وكأنها في نزهة وليس أمام تحد وتقرير مصير لمستقبل الأمة. أحزاب كبرى كانت لا تدري إذا كانت ستشارك أم لا في العملية الانتخابية ، وحتى في الزمن الضائع لم تقرر بعد !!
واليوم نشاهد مسرح اللامعقول .. الكل يتحدث عن الوحدة الجاذبة بعد مضي خمس سنوات من عمر اتفاق نيفاشا ولم يتبقى من الوقت لتنفيذ الاستحقاق الأكبر الاستفتاء إلا خمسة أشهر فقط.
أي ( وحدة ) هذه التي يريدون أن تتحقق. استغرب للفئات السياسية التي انتفضت فجأة وكأن الاستفتاء نزل من السماء (اليوم) وليس كان مقرراً قبل خمس سنوات. احترموا عقولنا ياناس!!
ماذا يريد الشماليون من هذه الوحدة؟ وما هي دواعي الوحدة بالاستناد إلي اتفاق نيفاشا ؟ هل يعني (إقناع) شعب كامل حارب سنوات طويلة من أجل حقوقه بمزايا الوحدة ؟ وكيف تم وضع هذه الصيغة في الاتفاق وتضمين كلمة وحدة جاذبة؟ وهل جرى تقييم وسائل تنفيذها أم أن الأمر هو إضافة لغوية للاتفاق دون النظر في كيفية تنفيذها ؟
من يضمن لنا أن ميزانية الدولة كلها لو حولت لمشاريع في الجنوب هل يمكن أن تقنعهم بالتصويت للوحدة والتخلي عن حلم الدولة؟ ما هي حدود المطلوب من الشمال لتتحقق شروط الوحدة الجاذبة ؟.
( افتونا ) بالأرقام ونحن نتكلم عن دول وليس عن ضيعات.كم مشروع تنموي .. كم مدرسة كم مستشفى .. كم طريق يقام. كم قانون يعد لتحقيق المساواة ورفع الضيم. أي قضايا يحتاج لها الجنوبيين حتى يعمل الشمال لتنفيذها لتتحقق الوحدة الجاذبة ؟
إنه ( فخ ) وشعار مبهم انخدع به المفاوضون من جماعة المؤتمر الوطني. لم يتم تحديد تفاصيل وإطار هذا المشروع الوطني حتى يشارك فيه الجميع فبلعوا الطعم وقبلوا هذه الصيغة وأنا متأكد أن الشمال لو جاب ( لبن الطير ) فلن يقنع ذلك أهلنا في الجنوب المصممين على هذا الانفصال وحلم الدولة التي ناضلوا من اجلها سنوات طويلة ومنحهم الاتفاق الفرصة التاريخية ! أنظروا كيف كانت قيادات الحركة الشعبية وهي تجلس ( خالفة ) رجل على رجل كناظر المدرسة في انتظار التلميذ الخائب وهو يجرجر أذيال الخيبة والفشل حتى يكمل الواجب وإلا فالعصا والطرد من الفصل ، وكل يوم نرى تصريحاً لواحد من قيادات الحركة بأن متطلبات الوحدة الجاذبة لم تلبى حتى الآن.
وإذا كان الجيش السوداني خاض كل تلك الحروب في الجنوب .. ثم تحولت بقدرة قادر إلى حرب جهادية وما تعنيه كلمة جهادية .. هل يمكن لهؤلاء الجنوبيين الذين عانوا من هذه الحروب وتشردوا في داخل السودان وخارجه القبول بوطن موحد؟ وحتى الملايين الثلاثة الموجودين في الشمال هل يمكن أن يرفضوا دولة تضمهم من اجل عيون الشمال؟
في وقت سابق قمت بإجراء استطلاع صحفي واسع وسط النازحين الجنوبيين في الشمال التقيت فيه بعدد من المثقفين الجنوبيين منهم وزراء وأساتذة جامعات وطلاب جامعيين ومواطنين بسطاء ، وكان ذلك قبل توقيع اتفاق نيفاشا نشرته في مجلة (المجلة) اللندية العدد رقم 1142 في 5 يناير 2001م . وقد تكون هذه أول مرة يجرى فيها مثل هذا الاستطلاع وسط الجنوبيين ليعبروا عن أنفسهم بكل شجاعة في تلك الفترة العصيبة من العلاقات بين الشمال والجنوبيين حتى أن بعض طلاب جامعة جوبا سخروا من إمكانية نشر آرائهم في المجلة.
لقد ذهلت من حجم المرارة التي يشعر بها هؤلاء. حدثتني زوجة احد الوزراء الجنوبيين وهي موظفة في الوزارة التي يعمل فيها زوجها بصورة قاسية عن الشعور بالمرارة من التعامل الشمالي معهم. أما الطلاب الجنوبيين في جامعة جوبا وكان معظمهم من المتعاطفين مع الحركة الشعبية فقد عبروا عن رأيهم بوضوح أنهم مع الانفصال بحق وحقيقة وارجعوا الأمر إلى النظرة الدونية التي يشعرون بها من جراء معاملة الشماليين لهم. الأستاذة الجامعية سارة .أ التي كانت تحضر لرسالة الماجستير في ذلك الوقت في جامعة امدرمان الإسلامية ذكرت العديد من المضايقات التي واجهتها في الحياة وأبدت امتعاضها من أن الأطفال الشماليين يتم تخويفهم بالجنوبيين. وتحدث جوزيف كليتو من جامعة جوبا عن القهر الاجتماعي الذي يعيشه الجنوبيون في الشمال وقال حتى مواقع تمركزهم في العاصمة فهي في أحياء الهامش مثل أحياء : (جبرونا) و ( زقلونا ) و ( طردونا) و( رأس شيكان ) وغيرها وهذا هو القهر الاجتماعي بعينه !
ومن يعتقد الآن أن الجنوبيين في الشمال سيصوتون للوحدة فإنه واهم .. وواهم جداً ، ولا يعرف حقيقة الوضع.. وأكاد أجزم أن د. لام أكول وجماعته سيكونون أول المصوتين للانفصال !! وهي المفاجأة التي ستهز الشماليين ، وسيرى الناس أن لا أحد من الجنوبيين سيشذ في هذا الاستفتاء وسترون حجم الإجماع الجنوبي على الانفصال بصورة تذهل البعيد قبل القريب..
و من شاهد مدن الجنوب وقد زرت عدد منها رمبيك وواو وجوبا وملكال وتوريت في السبعينات وكانت في تلك الفترة عبارة عن مدن أشباح فهل من السهولة أن يقبل هؤلاء البقاء في وطن واحد ويتركون الجائزة التي هبطت عليهم من السماء.
وقبل أن نذهب بعيداً... لنرى من الذي أوصلنا إلى هذه النتيجة المأساوية.
أنا لا أريد أن انبش الماضي ولكن هذه قضايا سيحاسبنا عليها التاريخ .. فإذا راجعنا المواقف السياسية لكافة القوى السياسية ماذا نجد؟ كل القيادات السياسية التي تقود الساحة اليوم ومنذ حوالي نصف قرن هي التي انبطحت أمام الحركة الشعبية دون تبصر أو رؤية سياسية واضحة يدفعها الكسب السياسي الرخيص ولتذهب قضايا الوطن إلى الجحيم. كسب سياسي آني بدون رؤية واضحة فكان حصادها هذا ( التوهان ) السياسي لأكثر من أربعة عقود:
+ اتفاقية الميرغني – قرنق التي كانت اتفاقية نموذجية في تلك الأيام.. هل أخذت نصيبها من التقييم ؟ إنها اتفاقية مفصلية كانت يمكن أن تغير تاريخ السودان. لماذا وئدت ؟ ومن هو المسؤول عن ذلك ؟ ولماذا أضاعوا تلك الفرصة التاريخية؟ لقد نصت الاتفاقية على وقف الحرب وتجميد القوانين الإسلامية وعقد مؤتمر دستوري وإلغاء اتفاقية الدفاع المشترك مع مصر وليبيا وقبل الصادق المهدي رئيس الوزراء في حينه الاتفاقية بتحفظ شديد ثم أفشلت قبل أن ترى النور وكان قد تم تحديد 3 يوليو لعقد جلسة البرلمان للموافقة عليها وتحديد نوفمبر 89م للمؤتمر الدستوري إلا انقلاب البشير نسف كل تلك الجهود في 30 يونيو.
فهل تمت أي مراجعة أو نقد ذاتي أو محاسبة للممارسات السياسية لتضييع هذه الفرصة التاريخية ؟
+ إعلان كوكا دام في 20 مارس 1986م الذي شاركت فيه القوى السياسية المعارضة ما عدا الحزب الاتحادي الديمقراطي وكان من أهم قراراته عقد مؤتمر دستوري في نفس العام وإلغاء قوانين سبتمبر الإسلامية ، لكن الصادق المهدي رئيس الوزراء رفض هذا الإعلان بحجة أنهم لا يملكون تخويلاً بإلغاء تلك القوانين.
والقيادات اليسارية التي زحفت نحو أثيوبيا من اجل التحاور مع قادة الحركة الشعبية في تلك الأيام كان مصيرها الاعتقال وذلك في عز أيام الديمقراطية ونفس الشخص الذي تولى القبض على هؤلاء وأدخلهم السجن ( مبارك الفاضل المهدي) إذا به هو المشارك الأساسي في اتفاق حق تقرير المصير للجنوبيين في أسمرا 1995م. أين المسؤولية السياسية التاريخية؟
+ د. حسن الترابي عراب النظام الحالي قبل المفاصلة انطلق لا يلوي على شيء ليلحق المولد وليصالح الحركة الشعبية ويوقع معها اتفاقاً وهو الذي زف الأبناء ( اليفع ) والشباب النضر إلى الحور العين في احتفالات عجزنا عن فهمها وبعد رسالة جهادية أخفقت وفشلت ووصلت إلى طريق مسدود. ولم ينتظر تلاميذه حتى ينعم بهذا الاتفاق فادخلوه السجن بحجة التواطؤ مع المتمردين ..
+ المؤتمر الوطني أراد أن يلحق بالجميع فدخل في خلوة منتجع نيفاشا مع الحركة الشعبية ليخرج لنا بهذا الاتفاق الثنائي. ( لا يريدون أن يخرجوا من مولد الحركة الشعبية لتحرير السودان بدون حمص )!
+ مولانا محمد عثمان الميرغني زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي والأب الروحي لاتفاق مؤتمر القضايا المصيرية في اسمرا والداعي لحق تقرير المصير 1995م هو الذي احتضن قرنق. .. فماذا كان يعني هذا الاتفاق ؟ ماذا يعني حق تقرير المصير ؟. إنه يعني شيئاً واحداً هو الاستفتاء وهو الانفصال بعينه ، وإلا فماذا كانت تهدف تلك الأحزاب التي وقعت على اتفاق اسمرا ؟ هل تريد أن تصل إلى السلطة على ظهر الحركة الشعبية ، ومن بعدها تنكث العهد كما هي شيمة أهل الساسة الشماليين!!
وهي النقطة التي فهمها (قرنق) جيداً وأصر في اتفاق نيفاشا على الضمانات الدولية ومن قبل القوي الكبرى ( أمريكا وأوروبا وغيرها ) فلا مجال هذه المرة لتلاعب في الاتفاق ..
والمتابع الدقيق يرى البداية لتطبيق الضمانات الدولية فيما نشهد فصوله حالياً في مجلس الأمن هذه الأيام !!
اليوم الميرغني يرفع شعار (الوحدة ) مهما كلف الثمن...وكأن حق تقرير المصير لا يعني غير شيء واحد وهو الوحدة ولا شيء غير الوحدة ! وكأنه لم يبصم بأصابعه العشر على هذا الاتفاق !
+ أما المؤتمر الوطني فهو الخاتمة الذي أوصلنا إلى عنق الزجاجة في هذه القضية المصيرية هو الذي يتحمل القدح المعلى في المصير المجهول لسودان ما بعد يناير 2011م.
من بقى من النخبة السياسية أو من الطبقة السياسية لم يشارك في مهرجان الإخفاق والفشل والضياع ولا أريد أن استعير عنوان د. منصور خالد ( النخبة السودانية وإدمان الفشل ) وكأنه كان يتنبأ أو يقرأ الكف بأن سودان الدولة الموحدة أصبح في كف عفريت وأن هؤلاء النخبة سيقودون البلاد إلى التشرذم والتفتت والانفصال.
قطعاً الأجيال القادمة سوف تحاسب هؤلاء جميعاً حساباً عسيراً ، فهم الذين قادوا البلاد إلى هذا النفق المظلم والى هذا المصير المجهول.
لقد عزلت ( الأغلبية الصامتة ) من كل هذا الحراك السياسي وانفرد الساسة بتقرير مصير السودان وتلاعبوا به دون مسؤولية أو خشية من ضمير .. والآن يريدون أن يقنعونا بأنهم حريصون على مستقبل هذا الوطن الذي تبخر وأصبح دويلات في رحم التاريخ وإذا ما سار عليه الأمر فستولد كيانات مستقلة واحدة بعد الأخرى اقتداء بتجربة (يوغسلافيا) وليس هناك أحد أحسن من أحد!
السياسة في السودان لا تعرف المحاسبة .. ولا تعرف فضيلة النقد الذاتي ولا تعرف المراجعة. ولا ننسى قول الرئيس الأسبق جعفر نميري في عز أيامه بان ( ثورة مايو تراجع .. ولا تتراجع ) وكان هذا شعاره المحبب عند كل منزلق أو هروب من قرار خاطئ ولكن لا مراجعة ولا شيء والكل في الأمر سواء.
ولنأتي إلى دور الحركة الشعبية لتحرير السودان في هذه المسرحية ، وهي التي قادت هذا الطريق وهذا المسلسل باقتدار شديد واستطاعت أن تلوي ذراع كل القوى السياسية.. وهي تعرف ماذا تريد. كانت تسير بكل واحدة من هذه القوى إلى أعلى الجبل وتجعلهم بعد ذلك يتدحرجون فاقدي الوزن والاتزان ، وآخر الأمثلة ( تحالف جوبا) الذي سهل للحركة كل ما تريد من المؤتمر الوطني ثم هي نفضت يدها عند أول منعرج في الطريق. واليوم تريد أن تجمع نفس القوى من أجل ماذا ..فقط من أجل الاستحقاق القادم وهو الاستفتاء وكأن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحديث عن تزوير الانتخابات هي أمور مرحلية تجاوزها الزمن. تريد أن تركب على سرج هذه القوى لتحقيق الانفصال ولتذهب القوى السياسية إلى الجحيم.
الحركة الشعبية كانت قضيتها واضحة منذ انطلاقها وهي خاضت الحرب بأجندتها المعروفة ولم تتخلى أبدا عنها وخاضت المفاوضات مع جميع القوى السياسية بتلك الأجندة. وبعد كل ذلك لا يزال البعض يتعامل معها وكأنها حركة تمرد درجة ثانية فاقدة الهوية والتجربة ، وليست قوى مؤثرة وفاعلة في الشأن السوداني بينما واقع الحال يقول أنها أكثر نضجاً وتجربة من كافة القوى السياسية والتي في معظمها صارت خاوية الفكر والمضمون..
ما هو الفرق بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والحركة الثورية الأثيوبية التي ناضلت ضد منقستو ودخلت أديس أبابا واستولت على السلطة ؟ وما الفرق بينها والحركة الشعبية لتحرير اريتريا والتي خاضت المعارك وحققت استقلال اريتريا؟
لقد حاربوا سنوات طويلة من أجل أهداف معلنه : القضاء على التهميش ، المساواة في الحقوق والمواطنة والحريات والديمقراطية والتوزيع العادل للسلطة والقضاء على المركزية في القرار وإلا فالفراق هو الأمر الحتمي ليبنوا دولة الحلم ( اليوتوبيا) كما يريدون في جنوبهم!
ولهذا جاء اتفاق نيفاشا ليحقق لهم ما ناضلوا من أجله كل هذه السنوات.
هذا الاتفاق الذي تم توقيعه ثنائياً بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وتم عزل جميع القوى السياسية التي لهثت لتجد موقعاً في مائدة المفاوضات ... فالحركة نفضت يدها عن حلفائها في التجمع المعارض ولم تسمح لها حتى الوقوف من وراء الكواليس.
والأحزاب المتوالية والمتتالية والكومبارس أيضاً لم يعرها المؤتمر الوطني نظرة. وقاد المؤتمر الوطني المفاوضات باسم الأمة كلها ووقع وعلى الجميع القبول بهذا التفويض ( الإلهي ) شاء من شاء وأبى من أبى !!
أنظروا لكل الاتفاقيات التي وقعت دولياً : اتفاقية (كامب ديفيد) بين الكيان الصهيوني ومصر رفضتها بعض الأحزاب المصرية ولم تقصى من الحياة السياسية ولا تزال تعبرعن رفضها. اتفاقية كوسوفا رفضها الصرب ولا زالوا يخوضون المعارك السياسية ضد استقلال الدولة. اتفاق تيمور الشرقية الذي تمخض عن دولة وليدة المعارضة فيها تعمل بكل حرية دون أن تقصيها أي جهة.
أما اتفاقية منتجع نيفاشا فقد جاءت بالعجب ! حظرت كل من يعارض هذه الاتفاقية حتى ولو كان جنيناً في بطن أمه. لا مجال لحزب أن يخوض انتخابات سياسية إذا لم يعلن التزامه بهذا الاتفاق .. أمر لم يحدث حتى في القرون الجاهلية !
الاتفاقية نفسها ليست منزلة من السماء حتى يحظر معارضتها فلابد من إخفاقات هنا وهناك ولابد أن يكون لآخرين رأي ولكن أن يحجر على الأحزاب معارضتها وهو الأمر الأغرب في التاريخ في وقت ادعي الطرفان أن الاتفاقية ستقود إلى الديمقراطية .. أي ديمقراطية وأنت تمنعني من إبداء رأي في أمر مصيري يهمني ويهم أبنائي والأجيال التي من بعدي!! اليس كمواطن سوداني أعيش في هذه المليون ميل مربع أن اعبر عن رأيي في رفض الاتفاقية مثلاً وان اعمل على تصحيحها؟ الطرفان بهذه الاتفاقية لايمتان للديمقراطية بأي صفة لا من قريب ولا من بعيد حتى يصادران حقوقنا في إبداء الرأي. إنني أتحدث عن الموقف المبدئي.
وحزب الأمة ( بح) صوته بالمطالبة بمؤتمر قومي للمصادقة على هذه الاتفاقية وإعادة ملاحظات الآخرين في الاعتبار وباليت الجميع التفت لهذه المناشدة. وياليت المؤتمر الوطني فهم أهمية هذه المسألة قبل التوقيع وإتاحة الفرصة للقوى الأخرى لتكون ترياقاً لأي تشدد أو تطرف في معالجة مثل هذه القضايا المصيرية.
ثم ماذا بعد؟
لنعترف بحقائق أخرى تعشعش وسط عدد من الشماليين الذين لا يزالون يستكثرون على الجنوبيين حق التفكير في تقرير مصيرهم والبعض يفكر بصوت عال نيابة عنهم ( إذا استبعدنا الطيب مصطفى باعتباره شخص قادم من خارج التاريخ !! ).
لقد استمعت لأحد أصدقائي وهو يتساءل : هل يملك الجنوبيون مقومات دولة.. كلام يلقى على (عواهنه) دون تمحيص أو كما قال الأخ إبراهيم دقش في برنامج حواري قبل فترة في قناة النيل الأزرق أن من واجبنا في المرحلة القادمة أن نزرع الخوف في الدول المجاورة والجنوبيين من مآلات الانفصال ونطقها بالكلمة الدارجية ( نخّوفهم ).
وعندما تحاور أي شخص يبدأ في كيل الاتهامات .. هؤلاء انفصاليون. وهو أمر يثير حنق الجنوبيين خاصة المتعلمين منهم.
وهناك آخرون يقولون أن الجنوب سيتحول إلى قاعدة إسرائيلية .. هواجس عفى عليها الزمن .. فما الذي يمنع أن تكون احدى الدول المجاورة قاعدة لإسرائيل ؟ ... فليس سراً أن الاستثمارات الإسرائيلية في إثيوبيا هي الأكبر من كل الدول الأخرى فهل هز ذلك في علاقات السودان مع إثيوبيا؟
لنتحدث بواقعية أكبر وننزع عن دواخلنا هذا ( التعالي) وننظر إلى الواقع المأمول نظرة واعية وليس من وراء منظار يحجب عنا كل شيء ، ولنبتعد عن هذا (الاستعلاء) الذي حجب عنا التقييم الصحيح وجعلنا بعيدين عن التفكير الواقعي في معالجة قضية الجنوب.
إننا محتاجون لان نفكر بصوت عال وبفكر جديد وبرؤية جديدة. إننا مطالبون بالعمل على انفصال ( فريندلي ) ..وودي قبل أن يقع الفأس في الرأس ويكون الخاسر الجميع.
أنا لا أنادي بالانفصال قطعاً .. وكنت أمني نفسي ألا يأتي هذا اليوم .. ولكن ما حيلتنا إذا كان هؤلاء الساسة منذ الاستقلال هم الذين يقودون بلادنا وهم أنفسهم ( لم يتغيروا ) .. ولم ( يتبدلوا ) .. ولم ( يتطوروا ). لا اعدد الأسماء ولكن أنظروا إلى الشاشة ستجدون تلك الوجوه النيرة هي نفسها تواصل العزف النشاز والتمثيل الرديء مثل أفلام الكابوي المسيطرة على الشاشة حالياً وهبط معها الذوق العام لنصف قرن !! بينما نجد الأغلبية الصامتة تدفع الثمن كل يوم.
وفي هذا الخضم ... لا تعزينا كلمات الإطراء التي نسمعها وتشنف آذاننا طوال سنوات الغربة الموحشة الطويلة :
( أنتم السودانيون مثقفون.. أمينون ... رائعون .. تعملون بكل جد وبلا كلل ولا ملل ، نثق فيكم كثيراً .. ونتعلم منكم كثيرا ... أنتم .. وأنتم..... كل صفات العز والفخر نسمعها من إخوتنا العرب وغير العرب .. وعدما نميل بالنظر غرباً في اتجاه وطننا نتوارى (خجلاً ) .. ونداري ( عورتنا ) التي هتكها السياسيون الفطاحلة في أرض المليون ميل مربع بسياساتهم العرجاء زمناً طويلا و(ننكسف) ولا نستطيع أن نرد على السؤال الذي يأتيك كالصاعقة بعد كل هذا الإطراء ( فلماذا كل هذه الخلافات والصراعات والفشل في بناء دولة حديثة وانتم تملكون كل شيء وأهمها الإنسان السوداني العظيم !! كيف نرد ؟ الصمت المطبق هو ردنا ! والحسرة على ضياع الفرصة تلو الفرصة للخروج من هذا المأزق تقطع أحشاءنا وتمزق أوصالنا.
لا خيار لي غير أن أقول في نهاية حديثي .. العذر لك يا ( ساجدة ) ابنتي الصغيرة وآخر العنقود ، فقد كنت أمل أن أحكي لك واحدة من تراثنا الخالد وأن أسمعك تلك القصيدة الرائعة ( في القولد التقيت بالصديق) وأن اروي لك كيف علمنا إياها أساتذة الأجيال أبناء بخت الرضا ، هذه الملحمة الرائعة للشاعر الأستاذ عبدالرحمن علي طه ...ونحن عندما كنا في (عمرك) عرفنا طعم المحبة والأخوة وعرفنا منقو ومحمد قول واوشيك وووو ... وعرفنا قيمة الوطن الواحد ، ولكن كيف اصف لك ماذا بقى من الوطن ؟
ومن كلمات القصيدة الرائعة :
في القولد التقيت بالصديق
انعم به من فاضل ، صديقي
خرجت أمشى معه للساقية
ويالها من ذ كريات باقية
------
مازلت في رحلاتي السعيدة
حتى وصلت يامبيو البعيدة
------
منطقة غزيرة الأشجار
لما بها من كثرة الأمطار
قدم لي منقو طعم البفرة
وهو لذيذ كطعام الكسرة
تذكرت أبيات الأنشودة البسيطة الكلمات العميقة المعنى وتذكرت ( صديق عبد الرحيم في القولد ومحمد القرشي في ريرة وسليمان في الجفيل ومحمد الفضل في بابنوسة ومنقو زمبيري في يامبيو وحاج طاهر في محمد قول واحمد في ودسلفاب وإدريس في أم درمان وعبد الحميد في عطبرة.
هذا النسيج السوداني الرائع كان موجوداً لعقود من السنوات ..ولكن كيف اصف لك يا عزيزتي (ساجدة ) مستقبل المآل والحال. والله يكضب الشينة !!
لقطة أخيرة :
في هذا المقام اسمح لنفسي أن اقتبس تلك الكلمات الرائعة من صديق عمرنا الأديب والأستاذ مكي أبوقرجة .. ونص القصيدة في موقع ( sudsn.net ). لمن يريد الاطلاع عليها :
( ظلت حناجر الأطفال الغضة لأكثر من خمسين عاماً تردد نشيداً شجياً في كل المدن والقرى والبوادي السودانية بحماس وغبطة وحبور في آخر كل حصة للجغرافيا في السنة الثالثة الابتدائية ، كان هذا النشيد الذي شد نياط القلوب بأوتار لا ترتخي بكل بقاع الوطن من القولد حتى يامبيو ومن محمد قول حتى بابنوسة وفعل في النفوس فعل السحر ، ولا يزال يتوهج فينا نحن الكبار بعد مرور عشرات السنين ويبعث فينا روحاً وطنية متأججة في كل الأجيال. )
علي عثمان المبارك
صحفي - جدة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.