وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تقارير: القوات المتمردة تتأهب لهجوم في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عثمان حسين: الأغنية والغناء والغنائية ..... بقلم: د. محمد سيف يس
نشر في سودانيل يوم 19 - 06 - 2010

تحاول هذه الورقة ان تستجلى الملامح الجوهرية لخصائص الأغنية والغناء والغنائية في رحاب ابداعات عثمان حسين بوصفها من المصادر الأساسية التي تلتقى وتتداخل فيها وتتمحور حولها ذوات متعددة هى، ذات المبدع، وذات الأغنية والغناء، وذات الغنائية، معتمدين في ذلك على فرضية زادتها معاشرة ابداعاته رسوخا، مؤداها ان هذه الإبداعات تمثل حجر الزاوية في تكوين مواهبه الابتكارية، والرحم المحتضن لها. لقد قادنا توجهنا النقدى الى اقتناع تام بأن العبقرية الموسيقية التي أفرزت كل هذه الابداعات، لابد أن تعتمد اجزاؤها على بنية كلية وان تحكمها نظم داخلية تحدد هويتها وتكشف عن جذورها الاصلية العميقة الباطن.
تستند الدراسات النقدية في معالجتها الظاهرة الابداع الموسيقى، على مدخلين اساسيين أولهما دراسة الفرد المبدع نفسه من خلال تتبع سيرته الذاتية رأسيا وافقيا لمعرفة الظروف والملابسات التي كونت شخصيته ومن ثم نوعية اساليب ابداعاته.
وثانيهما يدرس النشاط الابداعى للمبدع، هذا وسوف نقوم في هذه الدراسة بالتعرض للمدخل الثانى تاركين معالجة المدخل الأول لسانحة مناسبة اخرى نتناوله فيها بالدرس والتحليل.
في هذا الإطار نقول بان هذه الورقة هى عبارة عن قراءة نقدية معرفية تتفق طريقة معالجتها لموضوعها وتتماهى مع حقيقة هذه المناسبة الاحتفالية، فهى تهدف اساسا الى تسليط الضوء على تلك الابداعات بغية التوصل الى رؤى واضحة المعالم لطبيعة خصائصها ومكوناتها العامة، فالدراسة إذن ليست بحثا علميا منهجيا محضا من هنا فهى لم تعنى بتشريح وتحليل الجزئيات ورفدها بالشواهد والمؤثرات والدخول في تفاصيل دقيقة تنشر عادة في المجالات البحثية العلمية الموسيقية المتخصصة، او تقدم في قاعات الدرس الاكاديمى.
لقد ظلت ولا زالت معطيات ومكونات أغانى وغناء وغنائية هذا الفنان ظلت لما تحتويه من روعة وجمال تثير اهتمامى وتلفت انتباهى وكنت في كل مرة استمع اليها تداخل سمعى كرجع الصدى مما أكد لي بما لا يدع مجالا للارتياب بان هذه المكونات الابداعية تنبت في أرض موهبة خصبة وحرم موسيقى فسيح جمع ملامحها وحدده مرتكزاتها.
الأغنية :
عمر الأغنية السودانية اذا جاز التعبير عمر مديد متواصل الاسفار متخط لحدود الأعمار، فالإبداع الغنائى لا يقاس بالزمان ولا يحد بالمكان، إنه دور فلكية روحية، تواجه الدورة الفلكية العادية وتحتويها تساوقها وتسايقها، ذلك لان الأغنية هى في مضمونها الاساسى دم الحياة الذي يهب العافية، من هنا تأتى مشروعية الاهتمام والاحتفاء بها.
الأغنية هى عبارة عن لقاح فضاءين متجاورين لكل منهما دلالة مميزة، لكنهما دلالتان مشتبكتان، الفضاء الأول فضاء شعرى تحكمه علائقية لغوية وسياقية اجتماعية، والثانى فضاء لحنى تحكمه علاقات نغمية وايقاعية، اما العلاقة بين الفضاءين فهى علاقة عضوية تبرز الدلالة من خلال التلاحم والانسجام بين ما هو خارجى وما هو داخلى، انها عملية لقاح هو كالومضة يضئ الليلة الدكناء وكالرعشة يحرك الرواسى. فالأغنية هى لحظة الولوج الى تخوم التجربة الوجدانية المشتركة المكونات، وهى انعتاق من اغلال الزمان والمكان وملامسة افق العالم البديل، هذا وسوف تظل الأغنية فن السودانيين الأول وذلك لكونها نديمة الأرواح، وكاشفة الاسرار وفاتحة الأبواب المغلقة امام الحسن الجميل، فهى على شفاه الملايين لانها تمس الشغف الغافى بين الافئدة في عناق ينصهر مع الإحساس بكل معانى الشوق لوجه المحبوب الغائب.
عثمان حسين والأغنية :
في البدء ينبغى ان نلتفت للمغزى الفنى لتراسل مواهب عثمان حسين والاغنية في سياق واو العطف وهو مسعى يستقيم اذا قيس بمقاييس البلاغة القديمة وذلك استنادا الى مكونات التماثل والتكامل وصلات القربى من الدرجة الاولى بين عثمان حسين والأغنية، وهى مكونات تؤلف بين ماهياتها صرحا كليا له ايحاءات موضوعية حيوية، وهكذا نجد ان سياق العطف الكلى سياق خلاق للمعانى التعبيرية لا جريا وراء البحث عن الجهة الجامعة بين تلك المتعاطفات، وإنما عن طريق ادراك كلى بصيغة العطف بكل ما تنطوى عليه من تراسل بنائى لماهية المعانى. وهنا تكون الصورة الكلية وعلاقاتها الداخلية لوحة واحدة لا مكان فيها للتجزئة الى عناصر.
خصائص اغانيه :
- أغانى عثمان حسين متماسكة ثرية تصمد امام قراءات مختلفة قادرة على الاجابة عن اسئلة عديدة، اغانى استطاعت ان تحافظ على حياتها على مر العصور، تنبعث في كل مرة انبعاثا جديدا، اي انها شهر زاد تسكت اليوم لتتحدث غدا، فهى تمتلك القدرة على التواصل بما لها من زمانه ومكانه بالرغم من ان المكان اتسع حتى صار يشمل كل الفضاء وان الزمان اصبح يقاس بأعشار الثوانى.
- ان طبيعة هذه الاغانى تتطلب من المتلقى استعدادات معينة حتى تتم عملية الاستيعاب والتفاعل، من بينها الاستماع والانصات والترقب وكلها مراحل تتدرج بالمتلقى الى منزلة تجعله يتصل بنصوص الأغنية – الشعرية واللحنية والأدائية – اتصالا أوثق وهذا يعنى ان هذه الأغانى تمثل امتدادا في حركة مستمعيها اي انها ليست جامدة في المخزون في الشريط او في ذلك المترامى في الذاكرة.
- ان فكرة الصناعة اللحنية لا تنمو ولا تتضح الا في خضم من التخيلات الخلاقة، فبدون المقدرة على التخيل لايستطيع المبدع ان يطمح الى شئ عظيم وسرمدى، في هذا الصدد نقول بان هذا المبدع يتمتع بخيال ابداعى غنى ومتنوع تصاحبه جرأة متدفقة في صياغة التراكيب والصور اللحنية لأغانيه، ورفدها بكل ما من شأنه ان يساعد النص الشعرى على ما يود ابلاغه، كل ذلك مبنى على اساس من مكونات وجدان موسيقى سودانى متميز ومتفرد في آن معا.
- يختلف سماع العمل الغنائى لدى المستمع في المرة عنه في المرة الثانية وهكذا دواليك، فبعض الاعمال لا تثير رغبة المستمع في سماعها مرة أخرى، اما النوع الآخر من الأغنيات والذي يتجسد في معظم ان لم أقل كل اغانيه فهى تثير رغبة المستمع في الاستماع اليها مجددا في شغف، وذلك لأنها مزودة بالوان متنوعة من المشاعر تخلط معان او تتبدل حسب الوضع الماثل او حسب ما تود الأغنية البوح به، فاصداء هذه الاغانى تدفع المتلقى الى التفكير والتأمل العميقين لتبقى تفاصيلها حية في وجدانه تنتظر سماعها بفارغ الصبر، ان هذا النوع من الأغانى هو وحده ما يمكن اعتباره فنا حقيقيا.
- يقال أن الأغنية الحسنة كالبناء الحسن، يتكون من مواد سابقة له لكنه يجهزها ويشكلها تشكيلا معينا يسترعى الانتباه الجمالى، فهو ليس الى انتهاء وتلاش تماما مثل أغانى عثمان حسين التي يمكن نقلها الى وسائل تعبير فنية اخرى آتية بعدها، فهى قد تتشكل او يمكن تشكيلها في خلق أنماط فنية اخرى، اذ يمكن ان يستوحى منها فنانون اخرون مواضيعا بوسائل تعبيرهم فينقلونها من نطاق الصوت الى الرسم والتلوين والرقص والدراما وغيرها، فهى أغانى ذات نصوص سائلة يمكن سكبها في قوالب فنية اخرى، ومتنوعة ومتلونة وحركية لا تتقلص في حناياها الايحاءات فتجعلها اسيرة للاستفادة من قيمتها الاخبارية والبلاغية والوثائقية فحسب.
- هى أغانى تنبثق صياغتها عادة من صدق التجربة اللحنية المعاشة بالاضافة الى تقمص الحالة الشعورية لمن يجرى على لسانه الشعر، فهى ليست منسوخة من إملاء الذاكرة اساسا حيث تنمحى حرارة التجربة فهى معجونة بالوجدان عبر الاعصاب وليست ملفوفة باللسان في برودة الاخشاب.
- في كثير من الاحيان يحتاج بعض المغنيين الى ممارسة التنظير والشرح وشرح الشرح من أجل تفسير وفهم الرسالة التي يودون ايصالها للمتلقى من خلال اغانيهم، اما في حالة عثمان حسين فإنه يترك هذه المهمة لأغانيه ذاتها فهى تمتلك من وسائل وآليات التعبير التفسيرى ما يغنيها عن استخدام وسائل مساندة لذلك.
- على ضفاف انهر اغانيه تصبح الكلمات اطوع على الألسنة واكثر خفة على السماع، تقترن بها الايقاعات والألحان فتضيف اليها شجى الى شجى فتوسع طاقة ومجال حملها في الصدور فهى تحيط المتلقى لها بهالة من اللهب المستعر، يلهب القلوب والأفئدة فرحا أو حزنا او حماسة حركة او سكونا
- تتداخل في اغانيه اللحون مع مجريات النصوص الشعرية وتشابك معانيها وتصوراتها، فينصر فيها سلطان الكلمة مع سلطان الموسيقى فحاجة احداهما للآخر ضرورية نتيجة للوجود والتلازم بينهما، فالنص الموسيقى يؤلف مع النص الشعرى وحدة كلية متفاعلة ومتكاملة ومتكافلة، كتوحد الاوكسجين والهيدروجين في الماء، هما جدولان يصبان في نهر واحد ليكونا معا انسياب الاحاسيس على لسان الأغنية صاحبة الخلجة الابداعية الشعرية الخاطفة، والتى يقابلها تجسيد موسيقى مناسب وخاطف أيضا وفريد في نوعه، وهو توحد أفرز نصا جديدا يسمى (الاغنية) يسعى دائما وابدا الى الثراء الدلالى الجمالى التوليدى التعبيري.
الغناء
قراءة معجمية :
ونعنى بها تبيان المعنى اللغوى للمصطلح، في هذا الخصوص فهنالك العديد من التعريفات اللغوية الخاصة نقتطف منها ما نراه أكثر اهمية وملائمة لموضوع هذه القراءة ومنها على سبيل الاستئناس لا الحصر.
الغناء هو صياغة النصوص الشعرية وفق معالجات موسيقية تحدث عند سماعها النشوة والمتعة بكل ألوانها ومراميها، وهو الإطار الموسيقى الذي يوضع فهي النص الشعرى وفق أطر وقوالب ذات معقولية وقبول.
هذا ما كان من أمر المعنى اللغوى للغناء، في هذا الخصوص نقول باننا وفي سياق هذه القراءة لا نعنى بالمعنى اللغوى للغناء إنما سوف يكون تركيزنا على معناه الاصطلاحى والذي يدل على ممارسة الغناء واتخاذه مهنة او حرفة بدوام جزئى أو كامل، وما ينبغى ان يتصف به المغنى من خصائص وسمات تؤهله لإبلاغ الرسالة الموسيقية السامية على أكمل وجه، وهنا نمتلك الكثير من الشواهد التي تعطينا مشروعية القول بأن عثمان حسين يعتبر من الفنانين السودانيين القلائل، الذين يؤمنون بالرسالة السامية لفن الموسيقى، تلك الرسالة التي تتمثل في ربط الإنسان بقيم مجتمعه الاصلية وترقية مظاهر ومضامين حياته وتخصيبها بالأسمدة الجمالية، وتهذيب السلوك الإنسانى والارتقاء به حضاريا وقوميا، والتزام جانب الخير والحق في الجمع والمفرد، ثم نقل الحقيقة والحث على طلبها. فهو يؤمن بأنه ينبغى لمن يريد التصدى لحمل هذه الرسالة ان يكون مزودا بالأخلاقيات الحميدة والسلوكيات الملتزمة بثوابت الأمة، وان يستشعر نوعا خاصا من المسئولية والاحترام تجاه فنه، لقد استطاع من خلال اتباعه لهذا النهج السوى ان يفرض على نفسه رقابة صارمة مكنته من أن يحافظ على توازنه الداخلى وعلى التلاؤم مع رسالة الفن الموسيقى الأمر الذي كان له أكبر الاثر في تحسين صورة الفنان السودانى ووضعه داخل المنظومة الاجتماعية، عندها استقامت قامة الفنان فاصبح يطلق عليه لقب الاستاذ بدلا من الصائع.
الغنائية :
ما هى الغنائية :
في البدء نعترف بكل اريحية، بصعوبة تفسير هذا المصطلح فهو غامض وتجريدى الى أبعد الحدود، فالغناء هو ظاهرة فنية ممارسة ومعروفة للجميع ولذا يسهل تصوره، أما الصعوبة فتمكن في البحث عن الخصائص الاسلوبية الأدائية التي تجعل منه غناءا وهذه الخصائص مجتمعة هى التي تعرف عادة بالغنائية، وهذا يعنى ان هناك ثمة فرق بين الغناء والغنائية، فعلى حين يكون الغناء هو تحويل مفردات النص الشعرى من مفردات منطوقة الى مفردات مغناه، تكون الغنائية متمثلة في كيفية وضع ذلك التحويل موضع التنفيذ الذي يتوافر فيه البعد الابداعى المؤثر على المتلقى او هى :
- استقراء الآليات العامة للأداء الغنائى او بنية النظم الغنائية او طريقة المغنى في الغناء.
لقد اعطت الدراسات العملية النقدية الموسيقية عنايتها واهتمامها للغنائية، بوصفها اكثر الممارسات الابداعية الموسيقية ابداعا وابتكارا، فهى الصق بروح المؤدى وخياله وأعمق في التعبير عن مشاعره وانفعالاته.
توجد الخصائص الغنائية بصفة عامة، متفرقة في احكامنا النقدية وهى عصية على الجمع شأنها شأن ادراك الظاهرة نفسها ادراكا يبدأ بالحس الغامض لكنه ينتهى الى المعرفة العقلية الشاملة.
في هذا الشأن فقد استطعنا – بعد جهد جهيد – ومن خلال الدرس والتحليل والتقصى لاغانى هذا الفنان الاصيل، استطعنات ان نضع ايدينا على أهم خصائصه الاسلوبية الادائية الغنائية التي احس المتلقى بجمالياتها فوصفها بالعذوبة والرقة واستقبلها بالارتياح والاريحية وغير ذلك من ما ينتمى الى المتعة والفرح، وهى خصائص كثيرة ومتنوعة لا يمكن حصرها، عليه فأنى مشير الى ما اراه اكثر اهمية وحيوية منها:
- استطاع في رياض اغانيه ان يطبق فلسفة مبدأ تواصل الاجيال من خلال غنائية مثقفة ومزودة ببعض آليات الأداء الغنائى الموروث، في رؤية انتمائية مع الازمنة الراهنة، كل ذلك ضمن فلسفة التوفيق بين تفجير الحمولات الصوتية والمعطيات المعاصرة وبين الحفاظ على الاقامة الطوعية داخل معجم الأداء الغنائى التقليدى.
- في غنائية يسمح لنفسه في رحابها بامتلاك حرية البدء في مجال تطويل وتقصير وتحوير الكلمات والمقاطع الشعرية لحنيا والتحكم في عدد المرات التي يعيد ويكرر فيها اللحن بصورة كاملة او جزئية.
- استخدام مبدأ الحرية في اضفاء الوزن الزمنى الذي يريده على المفردات تطويلا وتقصيرا، وهو ما يعرف خارج المربعات الايقاعية زيادة ونقصانا، كل ذلك مع التقيد بالوزن الايقاعى العام المسيطر على جسد الاغنية.
- اجادة استخدام اسلوب الانزلاق والانسياب الصوتى البشرى للوصل بين الأنغام المتقاربة والمتباعدة والمقاطع القصيرة والطويلة، فمن أجل التحكم بكل شئ عليك ان تفهم وتدرك كل شئ داخل وخارج الآفاق والمساحات الغنائية، من اجل ربط شبكة العلاقات المتبادلة بغية تكوين شخصية المنتج الغنائى.
- المعرفة بايقاع الكلمة وجرسها واتقان التحكم في مخارج حروفها، مما يعطى ابعادا نغمية واخرى جمالية مشوقة تواكب الصورة التي تود المفردة التعبير عنها.
- هى غنائية حبلى بشفافية الاحساس وعمقه ورقى المشاعر ودنوها، وهى سمات مكتسبة جماليا باعتبارها تمثل نوعا من انواع الجمال الداخلى في النفس البشرية، يتعايش معها ويتفاعل بها ليقدمها للمستمع في أبهى واجمل الجمل المنغمة الرائعة.
- الاختيار الموفق للمنطقة الصوتية التي يضع عليها الحان اغانيه، وذلك على ضوء معرفة بانورامية دقيقة بامكانيات وحدود مقدراته الصوتية مما أتاح لغنائه ان يكون ناصعا واضحا غنى بالنبرات علوا وانخفاضا.
- يمتاز باستخدام مبدأ الاقتصاد في الحركة في التنقل بين الانغام المكونة لألحانه، فهو لا يميل الى استخدام القفزات الصوتية الواسعة/ الكبيرة.
- الاستعانة بالكورس في ترديد بعض المقاطع الغنائية، اللافت للانتباه ان صياغة الحان هذه المقاطع تمتاز عادة ببساطة تركيب انغامها وهو أمر ينجسم ويتناغم مع طبيعة الغناء الجماعى.
- استخدام الاسلوب الانشادى في التعامل مع بعض مقاطع النصوص الشعرية لاغانيه، وذلك لتغذية حالة الوجد لدى المتلقى ولفت الانتباه في رفق الى ما سوف يأتى من ايقاعات منتظمة، وهو يستخدم هذا الانشاط في كثير من الالحان وذلك بالرغم مما قد يتخلل تلك المقاطع الشعرية من تقطيع ايقاعى منتظم في بعض فقراتها وهنا تتضح جليا غنائية المبدعة الاصيلة المثقفة باساليب الأداء الغنائى التقليدى.
- إن السمة الغالبة في غنائه هى الغنائية المتجذرة في تربة الواقع السودانى التي تكون صورة للجماليات التي تبوح بها النصوص الشعرية متنفسا لشكواها وطموحاتها وآمالها، فخطاب هذه الغنائية تسيطر عليه المصداقية الفنية الى حد التشبع، وهى مصداقية استطاعت ان ترسم مسار رحلة هذا العملاق الابداعية التي تؤثر في النفوس تأثيرا ايجابيا ملحوظا، وتبلور طاقته ومقدرته من حيث ادراك اوجه الاختلاف بين الذاتى والموضوعى، والنزوح من الديار التي تتعامل مع الغنائية كنوبة عارضة لا يتأسس عليها شئ ذو بال بداية من الأغنية ذاتها.
- استنادا إلى ما سبق ذكره يتضح بان الغنائية عند عثمان حسين هى غنائية شاعرية، تنظم وتنسق الأداء فيتوقف ليأسر العواطف ويثير الشجن فيجئ الطرب – رغم عناده وغلوائه- عفو الخاطر مستسلما لما يشجيه، فيسعد النفس ويفرح الوجدان ويهز القلوب رحمة ومتعة وبهجة، إنها غنائية فريدة ومتفردة، صاغ معطياتها داخل أطر نظرية وعملية اعطتها طابعا حلو المذاق يتسق اتساقا تاما مع دواخله ومشاعره وتصوراته المبدعة.
ختاما نقول بكل توازن في الضمير.. ها أنت يا شاعر الغنائية ويا صاحب الرسالة الموسيقية السامية، والأغانى السرمدية .. تستهوينى بابداعاتك، تخاطب دواخلى برقتها وعفتها فاسترسل في الاستماع اطلب المزيد.. ان من حقك علينا ان نعرف من أنت، وان نحيط بثرواتك الابداعية، احاطة السوار بالمعصم، من هنا جاءت هذه الدراسة، اقدمها في استحياء فهى لن تستطيع ادراك صروح ابدعاتك مهما توشحت بالدقة والموضوعية، فأنت منها مقام الثريا.
محمد عثمان [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.