عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    الهلال يرفض السقوط.. والنصر يخدش كبرياء البطل    قصة أغرب من الخيال لجزائرية أخفت حملها عن زوجها عند الطلاق!    الجيش ينفذ عمليات إنزال جوي للإمدادات العسكرية بالفاشر    كيف دشن الطوفان نظاماً عالمياً بديلاً؟    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    تستفيد منها 50 دولة.. أبرز 5 معلومات عن الفيزا الخليجية الموحدة وموعد تطبيقها    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    حادث مروري بمنطقة الشواك يؤدي الي انقلاب عربة قائد كتيبة البراء المصباح أبوزيد    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    السودان.."عثمان عطا" يكشف خطوات لقواته تّجاه 3 مواقع    ناقشا تأهيل الملاعب وبرامج التطوير والمساعدات الإنسانية ودعم المنتخبات…وفد السودان ببانكوك برئاسة جعفر يلتقي رئيس المؤسسة الدولية    عصار تكرم عصام الدحيش بمهرجان كبير عصر الغد    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سَنَةُ مَوْتِ سَارَامَاغُو!! .... بقلم: كمال الجزولي
نشر في سودانيل يوم 22 - 06 - 2010

عام 1962م وقعت في السودان حادثة اختلاسات شهيرة، سرعان ما تحوَّلت إلى قضيَّة جنائيَّة، ملأت الدنيا، وشغلت الرأي العام، وعُرفت، وقتها، ب (اختلاسات مشروع النويلة). وحدث أن قصد بعض المتهمين في تلك القضيَّة مكتب المحامي العالم أستاذنا القدير عابدين اسماعيل، عليه رحمة الله ورضوانه، وأفضوا إليه بكلِّ أسرار وظروف القضيَّة، طالبين توكيله للترافع عنهم. فاشترط مولانا، لقبول القضيَّة، أن يعترفوا ويردُّوا المال المختلس؛ ولمَّا لم يوافقوا، اعتذر عن تولي قضيَّتهم.
عند هذا الحدِّ كان من الممكن أن يعتبر الأمر عاديَّاَ جدَّاً، بل ومنتهياً تماماً، فما أكثر الأسرار التي تنطوي عليها، دائماً، صدور المحامين، وما أخطر الخبايا التي تتكتم عليها، يوماً بعد يوم، جدران مكاتبهم. سوى أن ما جعل أمر (متهمي النويلة) مع مولانا عابدين غير عادي، وغير منتهٍ، هو أن الاتهام، ومن خلال ملابسات معيَّنة، بنى قضيَّته أمام المحكمة على استجلاب شهادة مولانا عابدين، على اليمين، حول ما أقر له به المتهمون، وأن محكمة الموضوع استندت إلى هذه الشهادة في إدانتهم وتوقيع العقوبة عليهم. لكن المحكومين استأنفوا ذلك الحكم إلى محكمة الاستئناف التي قرَّرت عدم قبول شهادة مولانا عابدين، واستبعادها، لكون الإفادات التي أدلوا بها إليه تعتبر من (أسرار المهنة)، وهي أسرار محصَّنة لا يجوز إفشاؤها، فألغت الحكم على هذا الأساس (أنظر: حكومة السودان ضد محمد الحسن هاشم وعبد العزيز الجندي وآخرين، 1962م).
لم يكن في السودان، وقتها، قانون مكتوب code ل (الإثبات)، فكانت الممارسة تستند إلى الفقه الأنجلوسكسوني، كمؤلفات كروس وفيبسون وقلينفيل ويليامز وغيرهم، فضلاً عمَّا تكرِّسه القمم الشوامخ من قضائنا ضمن السَّوابق القضائيَّة واجبة الاتباع في مقام القانون. وهكذا صارت سَّابقة (النويلة) تدرَّس، منذ ذلك الحين، في كليَّات القانون بالجَّامعات السودانيَّة، ولا يكاد يخلو منها امتحان في مادة (الإثبات) ضمن امتحانات (المعادلة) لأغراض التأهيل لممارسة المهنة. أما المبدأ الذي أكدت عليه تلك السابقة فقد تعزَّز بالقاعدة الثامنة عشر، ضمن الفصل الثاني من (ميثاق أخلاقيَّات مهنة المحاماة) الذي أجازته الجمعيَّة العموميَّة للمحامين في دورة انعقادها غير العاديَّة بتاريخ 15/2/1983م، على أيَّام النقيب الموقر مولانا ميرغني النصري، أطال الله عمره، ومتعه بالصحَّة والعافية. ثمَّ عندما صدر (قانون المحاماة لسنة 1983م) استقرَّ هذا المبدأ ضمن المادة/32/1 منه. ويجدر التشديد على أنه لا استثناء من هذا المبدأ، في الإطار العام لتلك القواعد والنصوص، إلا بموافقة (الموكل) الصريحة، ما يعني أن (حصانة) هذه (الأسرار المهنيَّة) لا تعود ل (المحامي)، كما قد يفهم البعض خطأ، وإنما ل (الموكل)، فإذا أفشاها (المحامي)، أو سمح لغيره بالاطلاع عليها، دون إذن (موكله)، يكون قد انتهك هذا المبدأ، مِمَّا يعرِّضه للمساءلة!
من أكثر متاعب مهنة المحاماة شيوعاً ما يبديه بعض الأشخاص من (تطفل)، عن (جهل) مزعج، باسم علاقة (قرابة)، أو (صداقة)، أو (نقابة)، أو غيرها، على هذه (الأسرار) التي ينبغي، لأغراض ثقة (الموكل) في (محاميه) واطمئنانه إليه، أن تظلَّ محصورة بينهما، فقط، وإلا انهار ركن أساسي من أركان المهنة ذاتها، الأمر الذي قد يستوجب، أحياناً، إبداء (المحامي) قدراً كبيراً من الحزم والصرامة في سبيل منع هذا (التطفل)، وإيقاف (المتطفل) عند حده!
الثلاثاء
خلال ما لا يزيد كثيراً على أسبوع واحد صدر بيانان متشابهان، أشدَّ الشَّبه، وإن كان ذلك من جهتين مختلفتين، لكن حول موضوع واحد هو (دعم خيار الوحدة)، حيث صدر الأوَّل عن (اللجنة الوطنيَّة لدعم الوحدة الطوعيَّة تحت التأسيس) بتاريخ 30/5/2010م، وكاتبه هو د. الطيِّب زين العابدين، بتكليف من هذه اللجنة، أما الثاني فقد صدر عن (مجلس عمداء جامعة الخرطوم) بتاريخ 7/6/2010م.
البيان الثاني هو الذي يهمُّنا، هنا، بوجه خاص، حيث أعلنت الجامعة العريقة، من خلاله، عن "تبنيها، بعقل مفتوح، لخيار الوحدة الطوعيَّة، المنصفة، والبناءة"، مؤكدة سعيها لتنظيم نشاطات عديدة على طريق "الانحياز الي هذا الخيار"، ومعتبرة أن "استفتاء تقرير مصير الجنوب بمثابة استفتاء لتقرير مصير السودان كله"؛ وداعية إلي "استنهاض الضمير الوطني الحي" باتجاه "تعاضد الجُّهود لجعل نتيجة الاستفتاء .. فرصة حقيقيَّة لاستدامة .. الوحدة الطوعية، المنصفة، والبناءة، (والقائمة) علي المواطنة، وتشجيع الإندماج القومي، وبناء الأمَّة، وإكمال تنفيذ اتفاق السلام الشامل، وتعزيز قاعدة المصالح المشتركة بين المواطنين، وأقاليم الوطن الواحد، بجانب تطوير نموذج الحكم اللامركزي .. وصون حقوق غير المسلمين في مناطق الكثافة السُّكانيَّة للمسلمين"، مشيرة إلي أن "العالم يعيش في زمان بدأت تتكامل فيه الدُّول، وتتحالف، وتتفاعل، لمعالجة مشاكلها"، وأن السودان "الموحَّد، وحدة طوعيَّة منصفة وبناءة، يمثل فرصة حقيقيَّة من واقع كونه بلداً كبيراً، غنياً بالموارد، وفي وسعه أن يلعب دوراً أشدَّ تأثيراً في محيطه الإقليمي والدَّولي" (سونا، 7/6/10).
هذا توجُّه مرغوب فيه، دون أدنى شك؛ ذلك أن "سرَّاء ونعماء الوحدة، إذا تحققت .. سيقطف ثمارها، ويجني خيرها، كلُّ السودانيين، بينما بأساء وضرَّاء الانفصال ستكون على كلِّ السودانيين أيضاً، إذ إن تداعيات هذا الانفصال، إذا قدر الله تعالى وقوعه، وتكاسل الوحدويُّون عن منعه، ونشط الانفصاليُّون من أجل تحقيق مأربهم البئيس، فإنها لن تقتصر على الانفصاليِّين دون الوحدويِّين، ولكنها ستلقي بظلالها ومخاطرها على السودانيين جميعاً"، حسب ما عبَّر الكاتب إمام محمد إمام عن ذلك بحق (سودانايل، 10/6/10). سوى أن ثمَّة أربع ملاحظات لا يمكن إلا أن ترد على بيان العُمداء، وذلك على النحو الآتي:
الملاحظة الأولى: أن الدَّور الرِّيادي المفترض في هذه المؤسَّسة المرموقة كان يوجب عليها ألا تتأخَّر كلَّ هذا التأخير في النهوض بمسئوليَّتها إزاء قضيَّة وطنيَّة مصيريَّة كقضيَّة (الوحدة والانفصال)، حتى لقد بدا وكأن تحرُّكها، باتجاه تحمُّل هذه المسئوليَّة، كان يحتاج لغمز قناتها بنداء السيِّد رئيس المؤتمر الوطني، عبر خطابه أمام الجلسة الختامية لمجلس شورى حزبه، مساء 5/6/2010م، قبل يومين، فقط، من (بيان العمداء)، حيث وجَّه رئيس الحزب الحاكم نداءه ذاك، ضمن مَن وجَّهه إليهم، إلى مراكز البحوث و(الجامعات)، "للعمل من أجل الوحدة، في زمن يمضي كالشَّهاب"، أو كما قال.
الملاحظة الثانية: أنه ليس من اللائق أن (تتغافل) هذه المؤسَّسة المرموقة، وهي تعتزم التصدِّي لخطر (الانفصال) الدَّاهم، عن التعيين الدَّقيق للأسباب التي قعدت بأداء واجب (الوحدة الجاذبة)، وتحديد المسئوليَّة عن ذلك، خاصَّة وأن بيانها يشير إلى أن (الاستفتاء على تقرير مصير الجَّنوب) هو أحد مستحقات (اتفاقيَّة السَّلام الشَّامل)، علماً بأن هذه (الاتفاقيَّة) نفسها تشترط لأداء هذا (الاستحقاق) أداء (استحقاق) آخر لا يقلُّ أهميَّة، خلال سنوات الانتقال السِّت، وهو عمل الطرفين لأجل أن تجئ نتيجة (الاستفتاء) لصالح (الوحدة). وإذن، أفلا تستوجب أوهى مقاربة علميَّة لقضيَّة (الوحدة) أن نبدأ بتحديد مَن فرَّط في أداء (استحقاقها) الأساسي هذا، ولماذا، وكيف؟!
الملاحظة الثالثة: أنه ليس من المعقول أن تشرع هذه المؤسَّسة المرموقة في إطلاق مبادرة (جديدة) باتجاه "خيار الوحدة الطوعيَّة، المنصفة، والبناءة .. الخ"، دون أن تجري تقويماً موضوعيَّاً للأسباب التي أسلمت مبادرتها (السابقة) بشأن "منبر السِّياسات حول القضايا الوطنيَّة، التحول الديمقراطي، وسلام دارفور"، إلى الفشل الذريع في العام الماضي!
الملاحظة الرَّابعة: أنه ليس من المقبول أن تطرح هذه المؤسَّسة المرموقة مبادرة تدعو، من خلالها، "بعقل مفتوح"، إلي "استنهاض الضمير الوطني الحي"، و"تعاضد الجُّهود لاستدامة الوحدة القائمة علي المواطنة، وتشجيع الإندماج القومي، وبناء الأمَّة، وتعزيز قاعدة المصالح المشتركة بين المواطنين، وأقاليم الوطن الواحد، وصون حقوق غير المسلمين .. الخ"، قبل أن تجابه، بصراحة، و"بعقل مفتوح"، أيضاً، ما سارت بذكره الرُّكبان، خلال سنوات الحرب الأهليَّة البغيضة، مِمَّا نسب إليها من (تجاوزات) في ما يتصل ب (تمييز) الطلاب (الدَّبَّابين) و(المجاهدين) على صعيد (القبول)، و(الامتحانات)، و(النقل) للصُّفوف الأعلى، وما إلى ذلك؛ فإن كان شئ من هذا الذي استقرَّ في الذهنيَّة الشعبيَّة قد وقع، فيتوجَّب أن يعلمه الناس، بوثوق، وأن تعترف به المؤسَّسة، وأن تصوِّب نقدها إليه، بصراحة واستقامة؛ وإن لم يكن قد وقع، فينبغي أن يُدحض بالصَّوت العالي.
الأربعاء
صحيح أن النقابة غير الحزب، وأن النضال المطلبي غير النضال السياسي، وأن مَنْ يرتجُّ في عينيه الفارق بينهما، في الظروف العاديَّة، أحولٌ بالمرَّة!
لكنْ، أحولٌ، بالمرَّة، أيضاً، مَنْ لا يستطيع أن يدرك أن قوام هذا وذاك هو حراك الجماهير، وأحولٌ مَنْ لا يستطيع أن يعي أن (الثورة)، كأعلى مستويات هذا الحراك الجماهيري، هي فعل مشروع تماماً، بل هي إحدى أهمِّ أدوات التغيير الديموقراطي، وأحولٌ مَنْ لا يستطيع أن يرى، في ظروف احتدام الفوران الشعبي، القدر من الإضافة الذي يمكن أن يسهم به الحراك النقابي المطلبي، مثله، في ذلك، مثل حراكات سائر الأقسام المتقدِّمة من الجماهير، على صعيد بلورة (المراكمة الكمِّيَّة) لعناصر (اللحظة الثوريَّة)؛ أي اللحظة التي تكون السُّلطة فيها عاجزة، تماماً، عن حلِّ أبسط مشكلات هذه الجماهير، تماماً كما تكون الجماهير فاقدة لأدنى عشم في أن تحلَّ لها السُّلطة هذه المشكلات.
المعضلة هي أن هذه (المراكمة الكمِّيَّة)، بالغاً ما بلغت من الضَّخامة، لن تفضي بمجرَّدها لتفجير (اللحظة الثوريَّة)، بل لا بُدَّ لها من الفاعل القيادي، أي (العامل الذاتي) المدجَّج بطاقة التأهيل الكافية التي تجعله قادراًً، في الظرف المحدَّد، على قراءة حركة هذه (المراكمة الكمِّيَّة)، ونوعيَّتها، ودرجاتها، ومستوياتها، قراءة دقيقة، تماماً كقدرة مراكز الأرصاد الجويَّة على مراقبة حركة الرِّياح، ونوعيَّة السُّحب، والفاصل المداري، ودرجات الحرارة .. الخ!
بعبارة أخرى، فإن نشاط (الذات) رهين بالحالة التي يكون عليها (الموضوع)، وب (القوانين الباطنيَّة) التي تحكمه. فلئن كانت (المراكمة الكمِّيَّة) المفضية إلى (اللحظة الثوريَّة) هي (الموضوع)، أي (مجال النشاط العملي والمعرفي)، فإن تمام (التأهُّل) لممارسة هذا (النشاط العملي والمعرفي) على (المجال/الموضوع)، بما في ذلك (الوعي) الذي لا غنى عنه ب (قوانينه الباطنيَّة)، في الوقت المناسب بالضبط، لا قبله ولا بعده، هو، إذن، (العامل الذاتي) المطلوب لإنضاج وقطاف (اللحظة الثوريَّة)، وإلا، فإنها قد تنضج، (موضوعيَّاً)، ويحين قطافها ألف مرَّة، دون أن تمتدَّ إليها يد (الذات القياديَّة الفاعلة)، بسبب قصور (تأهُّلها) عن (إدراك) جدل العلاقة الدَّقيقة بين الحراك (النقابي) والنضال (السِّياسي)، حتى تتعفن (اللحظة الثوريَّة)، وتسقط من تلقاء نفسها، ألف مرَّة .. أيضاً!
الخميس
كلُّ طاغية ماض إلى نهاية، طال الزَّمن أم قصُر، فكلُّ أوَّل وله آخر، وما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع، و ..!
قد تتمايز النهايات، وقد تتفاوت الأواخر، وقد تختلف أشكال الوقوع؛ لكنها، وإن تكن مرغوباً فيها لدى الشعوب، سياسيَّاً، إلا أنها، عموماً، وفي المستوى الانساني الوجودي، تمثل مأساة، بالنسبة للطاغية، ما في هذا شكٌّ!
مع ذلك فإن المأساة الأعظم، في مثل هذه الحالات، ليست هي مأساة (الطاغية)، بل مأساة (الحاشية)! ذلك أن (الطاغية)، مثله مثل فئران السُّفن، عادة ما يكون الأكثر استشعاراً لوجيب الخطر، ودمدمة (النهاية)؛ في حين تظلُّ (الحاشية) تعْمَه في غرارة وهمها بقدراته المطلقة على الاستمرار في (عرشه)، وتجاوز كلِّ المحن، حتى يدهمها الخطب من حيث لا تحتسب، فتكون أكبر رزاياها أن ترى، بأم أعينها، أسدها الهصور، لأوَّل مرَّة، وقد استحال جرذاً يقتله رعب الدَّاخل قبل نازلة الخارج!
خطرت لي هذه الخاطرة، مساء اليوم، وأنا أطالع ما روته لصحيفة (الغارديان) البريطانيَّة إيرنا فليجل، ممرضة أدولف هتلر، من حيث تعيش في دار للعجزة شمالي ألمانيا، وقد كانت لازمته في لحظاته الأخيرة، بينما أزيز الدَّبابات السُّوفيتيَّة يقترب من حصنه الحصين تحت الأرض، حيث اختبأ هو وعشيقته إيفا وبعض أقرب حاشيته إليه. لقد وصفت إيرنا كيف رأته، يوم 30/4/1945م، منهاراً، متهالكاً، معروقاً، يرتجف من شدَّة الرُّعب، وساقاه لا تقويان على حمله، وقد كسى شيب الخوف شعره، فجأة، حتى لقد بدا، وهو في السادسة والخمسين، يومها، أكبر من عمره بعشرين سنة!
غير أن أكثر ما شدَّ انتباهي، في حديث إيرنا، وصفها الدَّراماتيكي، المركَّز، المقتضب، لحالة القلة من حاشيته وطاقمه الطبِّي عندما سمعوا صوت الرُّصاصة التي أطلقها الفوهرر على رأسه، في آخر لحظات يأسه حسماً، ثم رأوا، لاحقاً، جثة إيفا بعد تناولها سم السيانايد! قالت إيرنا، وهي في الثالثة والتسعين، بصوت واهن ما زال يلوِّنه الذهول بعد كلِّ هذا الزَّمن الطويل: "فجأة لم يعد للفوهرر أي وجود! فجأة اختفت هالة تأثيره النافذ على كلِّ مَن حوله! لكم بدا الأمر غريباً جدَّاً"!
الجمعة
في العاشر من ديسمبر عام 1998م، وبعد أن سلمه ملك السويد جائزة نوبل، في دورتها السابعة والتسعين، اعتلى الأديب البرتغالي العالمي جوزيه دي سوزا ساراماغو منصَّة الحفل المهيب الذي أقيم، بهذه المناسبة، في العاصمة استوكهولم، كي يلقي كلمته الرَّسميَّة، فلم يجد أبلغ من الحديث عن طفولته، وعن وفاة جدِّه جيرونيمو الذي "ذهب إلى حديقة بيته، يوم أحسَّ بدنوِّ منيَّته، حيث كانت ثمَّة بضع شجيرات تين وزيتون، ليحتضنها، واحدة فواحدة، ويقول لها: وداعا"!
روى ساراماغو تلك الذكرى، ثمَّ جال بعينيه في فضاء القاعة قائلاً: "من رأى شيئا كهذا، ولمْ يترك في دواخله ندْباً إلى آخر العمر، فإنه، قطعاً، إنسان بلا إحساس"!
واليوم، الجمعة 18/6/2010م، وبعد اثنتي عشر عاماً من تلك الواقعة، انفجر ذلك الندب الذي ظلَّ ساراماغو يحمله في قلبه منذ الطفولة، فاحتضن، للمرَّة الأخيرة، تين عبقريَّته الفذة، وزيتون إبداعه المتفرِّد، ولحق بجدِّه، هامساً، في عشق صوفي: وداعاً!
هكذا، عن سبعة وثمانين عاماً، وفي هدوء تام وسط عائلته، بمنفاه الاختياري بجزيرة لانزاروتي، إحدى جزر الكناري التابعة للتاج الأسباني، حيث ظلَّ، منذ 1992م، يعيش مع زوجته الأسبانيَّة ومترجمته إلى لغتها، توفي الرِّوائي، والمسرحي، والشَّاعر، والكاتب الصَّحفي الشِّيوعي، بعد صراع مرير مع المرض، مخلفاً هرماً شامخاً من الأعمال المميَّزة، لعلَّ أهمَّها، وأكثرها شهرة، روايته (الإنجيل حسب المسيح) التي أحاطتها الكنيسة الكاثوليكيَّة البرتغاليَّة والفاتيكان بضجَّة غير معهودة، والتي استبعدتها حكومة بلاده عن الترشيح لجائزة أدبيَّة، مِمَّا دفعه لاختيار الانتقال، مغاضباً، إلى منفاه الأسباني.
ولد ساراماغو في 16/11/1922م، في بلدة أزينهاغا بوسط البرتغال، لعائلة من فقراء المزارعين انتقلت عام 1924م للسكن في لشبونة. وفي الثانية عشرة غادر المدرسة، حيث عمل، في البداية، ميكانيكيَّاً وصانع أقفال. ورغم أن روايته الأولى (أرض الخطيئة) التي نشرها عام 1947م لم تحقق مبيعاً جيداً، إلا أنه حصل، بفضلها، على وظيفة صحفي ومترجم في مجلة أدبية، قبل أن يتفرَّغ للأدب، نهائيَّاً، ويتفوَّق فيه، ليس فقط باعتراف الدَّوائر الثقافيَّة في وطنه، بل والدَّوائر الثقافيَّة في المستوى العالمي، رغم أنه، طوال السنوات الثمانية عشر التي تلت (أرض الخطيئة)، لم ينشر سوى القليل من القصائد، وبضع كتابات حول رحلاته. لكنه عاد إلى الرِّواية، بعد أربعة عقود من ذلك، في أعقاب الإطاحة بدكتاتوريَّة أنطونيو سالازار عام 1974م.
غير أن (نوبل) لم تكن أوَّل ولا آخر جائزة ينالها ساراماغو عن إنجازاته الأدبيَّة، فقد سبق له أن حصل، عام 1982م، على جائزة (نادي القلم الدولي PEN INTERNATIONAL)، مثلما حصل، عام 1995م، على جائزة (كأمويس) البرتغاليَّة.
وعلى غرار المفكرين والفلاسفة والأدباء والكتاب العالميين اليساريين الكبار قرَن ساراماغو بين الإنجاز الفكري والإبداعي وبين النشاط السياسي النضالي. فقد انتمى، منذ العام 1959م، وحتى آخر ساعة في حياته، إلى صفوف الحزب الشِّيوعي البرتغالي. وبقدر ما اشتهرت أعماله الأدبيَّة، اشتهرت أيضاً مواقفه السياسيَّة العمليَّة الرَّاديكاليَّة في شتى القضايا، كانخراطه في الانتفاضة التي أطاحت بسالازار، وموقفه المناهض، في وقت لاحق، للعولمة الرَّأسماليَّة، وتشكيكه، علناً، في الرِّواية الرَّسمية لأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، هذا فضلاً عن أنه، وعلى أيَّام حصار الشهيد ياسر عرفات، عام 2002م، بعد انتفاضة الأقصى، زار سارماغو رام الله، برفقة كتاب عالميين، من بينهم كتاب حاصلون، مثله، على جائزة نوبل، كوولي سوينكا النيجيري، وبرايتن برايتنباخ الجنوبأفريقي، وخوان غويتيسولو الأسباني؛ وبعدما رأوا الأوضاع عل حقيقتها، شبَّه ساراماغو رام الله بمعسكر الاعتقال النازي أوشفيتس، مِمَّا هيَّج عليه الدَّوائر الصُّهيونيَّة، ودفع إسرائيل لاتهامه بالوقوع ضحية ل "الدعاية الفلسطينية الرخيصة!"، فردَّ عليهم ساخراً: "إنني أفضل أن أكون ضحيَّة للدعاية الفلسطينيَّة الرخيصة، بدلاً من أكون ضحيَّة للدعاية الإسرائيليَّة باهظة التكاليف"!
وكان ساراماغو قد صرَّح، قبل ذلك، ساخراً أيضاً، ضمن مقابلة أجرتها معه وكالة (آسوشيتد برس) في ذات السنة التي مُنح فيها جائزة نوبل: "لقد اعتادوا أن يقولوا عني: إنه جيِّد لكنه شيوعي، والآن يقولون: إنه شيوعي لكنه جيِّد"!
وفي الحقيقة فإن مؤلفات ساراماغو الأدبيَّة التي ترجمت إلى نحو 30 لغة، وبيع منها 30 مليون نسخة، والتي يتسم أغلبها بطابع الأمثولات الحكيمة التي تتركز على العناصر الإنسانيَّة في الوقائع التاريخيَّة، ظلت تثير، دائماً، جدلاً فكريَّاً وإبداعيَّاً عظيماً، ليس، فقط، لما تتضمَّنه من اجتراحات ممتعة على صعيد الشكل الفني، حيث يمتزج الواقع بالخيال، والحقيقة بالسِّحر، وإنما، أيضاً، لما تنطوي عليه من فلسفة في غاية الجرأة، وزوايا شديدة المغايرة لكلِّ ما هو معتاد، أو متوقع، أو ممكن، كما في رواية (قابيل)، حيث يبرِّئه المؤلف من دم هابيل! وكما في (الطوف الحجري)، حيث تنفصل الجزيرة الإيبيريَّة عن قارَّة أوروبا لتسبح، منفردة، في المحيط الأطلسي! وكما في (العمى)، حيث تصاب البلاد كلها بهذا المرض! وكما في رواية (انقطاع الموت) السَّاخرة التي تدور أحداثها حول ما يمكن أن يحدث إذا توقف الأحياء عن أن يموتوا! وثمَّة، بالطبع، روايته (بالتزار وبليموندا) التي رفعته، بعد نشرها بالإنجليزيَّة عام 1988م، إلى مصاف العالميَّة، والتي تعود بأحداثها إلى أيَّام محاكم التفتيش، وصراع المجتمع مع المؤسَّسة الدِّينيَّة، وتدور، عموماً، حول موضوعة ساراماغو الأثيرة: الصِّراع ضدَّ السلطة، الأمر الذي وضعه في مجابهة عنيفة، عام 1992م، مع أنطونيو سوسا لارا، وكيل وزارة الثقافة، وقتها، وهي المجابهة التي انضافت، ضغثاً على إبالة، إلى النزاع حول رواية (الإنجيل حسب المسيح)، وأفضت بساراماغو إلى المنفى الاختياري.
وإلى جانب هذه الأعمال الرائعة تحتشد قائمة مؤلفات ساراماغو بالعديد من العناوين التي أسهمت في دفع حركة الحداثة على مستوى الأدب العالمي، كرواياته (وجيز الرسم والخط)، و(سنة موت ريكاردوس)، و(سنة موت ريكاردو ريس)، و(قصة حصار لشبونة)، و(كل الأسماء)، وغيرها. أما الرِّواية التي لم يكتبها، والتي ستدخل بها سنة 2010م التاريخ، فهي (سنة موت ساراماغو)!
وبعد، فإن جوزيه سوكراتس، رئيس الوزراء البرتغالي، لم يُغال، البتة، حين قال، معلقاً، على رحيل هذا الهرم الأدبي العالمي الضخم: "كان واحداً من شخصيَّاتنا الثقافيَّة العظيمة، وغيابه جعل ثقافتنا أفقر"!
السبت
أطالع، في صحيفة (الأحداث) الصادرة هذا الصَّباح، 19/6/2010م، خبراً يراوح بين خانة (الغرابة)، وخانتي (الكوميديا السَّوداء)، و(الكوميديا الأكثر سواداً)!
ففي خانة (الكوميديا السَّوداء) صرَّحت مصادر (موثوقة!) بأن (التجمُّع الوطني الديموقراطي) يرتب ل (تفعيل نشاطه!) خلال المرحلة المقبلة! وأن فصائله تجدِّد الاتصالات في ما بينها، سيَّما في أعقاب خروجها من الحكومة الحاليَّة، فضلاً عن رفض الحزب الاتحادي المشاركة في الجِّهاز التنفيذي! وعدَّت المصادر الابتعاد عن السُّلطة محفزاً للتجمُّع للعمل بحريَّة أوسع دون التعرُّض لأيِّ ضغوط!
أما في خانة (الكوميديا الأكثر سواداً) فقد انتقدت المصادر ذاتها (إهمال!) الحكومة الصريح لاتفاقها مع التجمُّع، و(استبعاد!) قياداته من (التشكيل الحكومي)!
وأما في خانة (الغرابة) فقد صرَّحت نفس المصادر بأن ثمَّة توقعات بنقل مركز (ثقل!) التجمُّع إلى جوبا! وأن قيادات حزبيَّة نافذة حصلت على تعهُّد من باقان اموم، الأمين العام للحركة الشَّعبيَّة، بفتح مكتب للتجمُّع بجوبا حال تعرُّض هذه القيادات ل (مضايقات!) من النظام في الخرطوم!
تبقى جزء من الخبر لم أعرف في أيَّة خانة أضعه، وهو الجزء الذي أشارت فيه هذه المصادر (الموثوقة!) إلى أن تحقيق الخطوة، أي فتح مكتبها في جوبا، سيدفع باتجاه العمل (الجِّدي!) ل (الإعلاء) من شأن خيار (الوحدة!) خلال الفترة المتبقية على (الاستفتاء)! و.. شايفة (الاستهبال) يا ليلى؟!
الطريف أن الصحيفة نشرت، في نفس الصفحة الأولى من عددها المشار إليه، تصريح السّيِّد كمال عبيد، وزير الإعلام، بأن حزبه، المؤتمر الوطني، تسلم مكتوباً من الحزب الاتحادي الأصل يفيد باستعداده للمشاركة في الجِّهاز التنفيذي، لكن حزبه لم يتعامل مع المكتوب، لكونه (وصل متأخِّراً!) بعد إكمال المشاورات وتشكيل الحكومة، وإن لم يستبعد مشاركة الحزب الاتحادي في أيِّ وقت لاحق!
الأحد
حدث، حين كان الرئيس ترومان ما يزال نائباً للرئيس روزفلت، أن تم استدعاؤه، ذات يوم، لأداء الشَّهادة أمام إحدى المحاكم، وكان القاضي فظاً ضيِّق الصَّدر، فلما أفاض ترومان في سرد معلوماته، تضايق منه، وصاح فيه:
"مستر ترومان .. أجئت إلى هنا لتعلمني القانون"؟!
فما كان من ترومان إلا أن أجابه بكل هدوء:
"حاشا يا سيِّدي .. فليس في استطاعتي اجتراح المعجزات"!
***
Kamal Elgizouli [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.