النقابات أكبر منظمات المجتمع المدني في العصر الحديث من حيث العددية والتأثير والتنظيم النقابي, وهي شكل من أشكال الاتحاد الطوعي بين الأعضاء لتحقيق أهداف محددة, كتحسين شروط الخدمة والعمل اللائق وتحسين بيئة العمل وزيادة المرتبات والأجور. وشهدت الألفية الثانية نفوذاً ضارباً للنقابات على مستوى الدول وقامت بأدوار مهمة في الكفاح لمواجهة الاستعمار والظلم والاضطهاد على المستويين الإقليمي والدولي. وتأثرت الدول النامية بالتقسيم الدولي للعمل نتيجة القطبية الثنائية حيث قضى ذلك التقسيم بأن تكون مهمة الدول النامية إنتاج وتصدير المواد الأولية للسوق العالمية, حيث تقوم الدول الرأسمالية المتقدمة بإنتاج السلع الصناعية والتكنلوجيا المتقدمة وإعادة تصنيع المواد الخام, وكانت الاتحادات النقابية الدولية في ذات حقبة القطبية الثنائية ضمن التقسيم العام: اتحاد العمال الحر تحت قبضة الرأسمالية الدولية والاتحاد العالمي للنقابات تحت قبضة الشيوعية الدولية, وكان لكل اتحاد وسائله لجذب الاتحادات والنقابات الوطنية؛ وذات صراع القطبية الثنائية والتقسيم الدولي كان هو السائد بين شعوب الدول النامية وأحزابها السياسية وتنظيماتها النقابية. ومن النماذج العملية في السودان: الاتحاد العام لنقابات عمال السودان: كان واسع النفوذ وكان يعتبر من أدوات الحزب الشيوعي السوداني واستمد قوته من تمسكه الصارم بالتعددية النقابية والوحدة الطوعية والديمقراطية الداخلية. وبسبب الصراع السياسي الحزبي رأى النقابيون الوطنيون المكاتب الحزبية في جبهة العمل النقابي لأحزاب الأمة والاتحادي وحزب الحركة الإسلامية وضع حد لنفوذ الاتحاد, فقاموا بعقد مؤتمر في 1965 لقيام اتحاد آخر للنقابات تحت شعار من ثلاث نقاط: 1- استقلالية النقابات وعدم انصهارها في أي حزب أو تجمع سياسي. 2- الديمقراطية النقابية داخل أجهزة التنظيم النقابي. 3- نبذ الاحتكارية في قيادة العمل النقابي وفتح المجال للكفاءات النقابية الجديدة. وتبعاً لذلك قام اتحاد نقابات عمال القطاع الخاص "فبراير 1965" واتحاد نقابات عمل القطاع العام "ديسمبر 1966" واتحادهما معاً تحت مظلة الاتحاد العام لنقابات عمال السودان المركزي "مايو 1967", ونلاحظ أن الإسلاميين عندما ضاقوا بحسب طرحهم بالاحتكارية النقابية وعدم استقلالية النقابات أقاموا اتحادهم بمبدأ التعددية النقابية فماذا حدث بعد يونيو 1989؟! والحقيقة الجديرة بالاعتبار والتي يجب أن يهتم بها الشباب هي تطابق شعار القوى اليمينية من بعد 1965، مع شعار القوى المعارضة من اليمين واليسار من بعد الإنقاذ. وبذات المفردات فهدف الجميع الهيمنة على قيادات النقابات لخدمة أهدافها وليس دفاعاً عن مصالح العاملين, لذلك فإن تقييم موقف أي حزب يكون بميزان الأفعال لا الأقوال والبحوث والدراسات! وانتهت حقبة القطبية الثنائية.. وشهد العالم متغيرات عميقة ومتسارعة اقتصادية وسياسية واجتماعية, ومن المؤكد أن لهذا الواقع الجديد تأثيره على الدول النامية والحركة النقابية على جميع المستويات, فالتغييرات مست مباشرة أوضاع العاملين ونقاباتهم نتيجة الخلل الكبير في توازن القوى لصالح رأس المال الذي امتلك كل عوامل القوة. الغريب أن كل القوى السياسية السودانية حاكمة ومعارضة لم تستوعب تلك التغييرات وتتعامل مع النقابات كما في حقبة الألفية الثانية, فلم يتوقف صراعها في (الاستيلاء) عليها فهي لم تتحرر من جمودها بل تزايد لدرجة امتداد الصراع الى تنظيمات المفصولين والمعاشيين.(!) هيمنة حزب الحركة الاسلامية على النقابات مع بدايات الانقاذ عملية لا غنى عنها لنظام الحكم الجديد حكم الأقلية وللهيمنة أهدافها ووسائلها أما أهدافها فهي: * تثبيت أركان الحكم وتأمين السلطة السياسية بمنع أو تأجيل أي نهوض جماهيري. * ربط أهداف الحركة النقابية بأهداف السلطة السياسية الوليدة، بالدفاع عن المشروع الحضاري "غطاء الرأسمالية الطفيلية السودانية الجديدة" أو بالتعاون مع أجهزة الدولة. * شل مقدرات الجماهير من خلال التشريد الواسع للعاملين وتحطيم القطاعين العام والخاص وإنشاء بدائل خدمية صناعية موازية. * هدم مشروع بنيان التجمع الوطني الذي وضع أساسه في اكتوبر 1989 والذي افترض قيام تنظيمه على ثلاث شعب: الأحزاب السياسية والقيادة الشرعية للقوات المسلحة والنقابات والاتحادات الشرعية. ولم تضيع الانقاذ في طورها الأول أي وقت في جبهة العاملين وتنظيماتهم "النقابات والاتحادات" واعتمدت وسائله للسيطرة السريعة على الإجراءات بقوة الأوامر الدستورية والقوانين وهي: * حملات الفصل الجماعي للعاملين عن العمل في الخدمة المدنية والقوات المسلحة والشرطة .. الى آخر * الاعتقالات التحفظية. * تجميد نقابات المهنيين وتعيين لجان تمهيدية للنقابات. * إلغاء القوانين النقابية وفرض قانون واحد لإحكام السيطرة عن طريق: 1- تقليل أعداد النقابات بما يتسق مع قلة أعداد النقابيين من عضوية الحركة الإسلامية والمتحالفين معهم من الانتهازيين. 2- إضعاف النقابات وتذكية الخلافات الثانوية بين فئات المنشأة أو المؤسسة الواحدة باستغلال تباين المصالح بين الفئات, "وهذا من أسباب تخلي النقابة العامة للمهن الصحية عن الدفاع عن مطالب فئة الأطباء". 3- فرض أشكال التنظيم النقابي على العاملين باسم الوحدة وهي وحدة قسرية لأنها فرضت بالقانون. فنقابة المنشأة هي إجبار العاملين من كافة الفئات للانضواء تحت تنظيم نقابي واحد، وأصبح تكوين نقابات المهنيين ومنها نقابة الأطباء مخالفا للقانون. 4- ابتداع الإجماع السكوتي والوفاق بديلا للانتخاب الديمقراطي للقيادات وتواصل الوفاق حتى اختيار قيادة الاتحاد المهني العام الحالي للأطباء. 5- إنشاء لائحة جديدة للبنيان النقابي – القلب النابض للسيطرة على النقابات – وتوزيع النقابات وفقا لتواجد القيادات النقابية النابعة (!) ونلاحظ أن الأطباء تم توزيعهم على نقابتين عامتين: النقابة العامة للمهن الصحية والاجتماعية والنقابة العامة لعمال التعليم العالي. إن الأحزاب الشمولية ونظم حكمها وبصرف النظر عن الغطاء الفكري الذي تتدثر به تتفق جميعها ليس فقط في الهيمنة على النقابات بل حتى وسائلها ومن ذلك نذكر: * نظام نميري الشمولي جعل النقابات من روافد الحزب الحاكم علنا "الاتحاد الاشتراكي السوداني" باشر الشيوعيون المايويون وضعهم قيادات اليوم في التجمع الوطني وتخالف أحزاب مؤتمر جوبا أما نظام الإنقاذ فقد جعل النقابات من روافد "أمانة العاملين" بحزب المؤتمر الوطني سرا وعلنا ..(!) * بعد انتصار الثورة في الاتحاد السوفيتي السابق قرر الحزب الحاكم أن يكون الضباط الثلاث للجان المركزية للنقابات من الذين نالوا عضوية الحزب قبل الثورة, وأن تكون عضوية المجالس النقابية في المناطق من عضوية الحزب "ثلاث سنوات في صفوف الحزب على الأقل". * ولم يكن الاتحاد السوفييتي السابق وحده ففي السودان وبعد يومين من نجاح انقلاب 25 مايو 1969 انطلقت دعوات حزبية منهم أعضاء في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني تطلب من سلطة مايو الثورية اتخاذ قرارات بعزل قيادات نقابية انتخبتها الجمعيات العمومية بسبب "الرجعية" ليحل محلها تقدميون واحبطت دعواتهم ومن بين هذه القيادات قيادات حالية بتحالف أحزاب جوبا. ومعلوم أن نقابات المهنيين قبل الانقاذ الى جانب دفاعها عن مصالح عضويتها بذلت جهودا ضخمة دفاعا عن حقوق المواطنين والحريات العامة. وخلال حقبة مايو 1985-1969 كان لنقابات المهنيين نفوذ واسع وامتد أثرها على مجمل نشاط الحركة النقابية السودانية ولأنها خارج سيطرة حزب الحركة الإسلامية المتحالف مع الحزب الحاكم، الاتحاد الاشتراكي، وللسيطرة عليها صدر القرار الحكومي بأن تكون نقابات المهنيين جزءاً من الاتحاد العام للموظفين والفنيين تحت قيادة كمال الدين محمد عبد الله ونشط في هذا الاتجاه: مجذوب الخليفة، وحاج علي إبراهيم، وإبراهيم عبد الله ومحمد أحمد أبو الريش، ومحمد عوض جابر، وسهل بابكر وبشرى العبيد ومحمد سعيد حربي وزيدان عبده زيدان.. الخ. ورفضت الجمعيات العمومية للمهنيين القرار الحكومي الذي فرض شكل التنظيم النقابي وقاطعت نقابات المهنيين مؤتمر 1983م وأصبحت نقابات المهنيين خلال اكتوبر 1983 – أبريل 1985 فاقدة للشرعية القانونية "الشكلية"! ومشابه من حيث طبيعتها وأوضاعها القانونية للجان الأطباء ولجان المستشفيات ولجان المدن والولايات الحالية, وعلى الرغم من عدم شرعية نقابات المهنيين إلا أنها ساهمت في النهوض الشامل للحركة الجماهيرية وكان للأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات دور مميز.. واستعاد المهنيون نقاباتهم بعد انتفاضة 1985 فيكون تجميد نقابات المهنيين بعد الإنقاذ هي المحاولة الثانية لحزب الحركة الإسلامية للهيمنة. والإنقاذ في طورها الثالث "الشرعية بصناديق الاقتراع" وباشر اتفاقية السلام الشامل والدستور القومي الانتقالي والمتغيرات الإقليمية والدولية لم تبدل أهدافها ولكنها قامت بتجديد أساليبها لاستمرار هيمنتها على النقابات ومن ذلك:- * إلغاء المواد في القوانين التي تبيح الفصل السياسي أو للصالح العام. * إجراء تعديلات شكلية في قانون النقابات تخفق من غلواء الاحتكارية النقابية بتكوين نقابة المنشأة عن طريق الكليات الانتخابية. * الاعتراف يحق الإضراب عن العمل بلا أية قيود. ونقابات المهنيين في طور الانقاذ الثالث تواجه مصاعب مزدوجة من جهة الانقاذ وحلفائها ومن جهة المتغيرات الاقليمية والدولية التي ليست بعيدة من إضعاف النقابات أو الهيمنة عليها. فالعولمة الاقتصادية هي التي ليست بعيدة من إضعاف النقابات أو الهيمنة عليها. فالعولمة الاقتصادية هي التي تسببت في الصعوبات التنظيمية التي تواجهها النقابات كما أنها أثرت سلبا وبعده طرق على قوة النقابات, وبالتالي على المفاوضة الجماعية بشكل مباشر أو غير مباشر في ما يتعلق بالمرتبات والأجور وشروط الخدمة. وأن نضال العاملين وكل اطراف الحركة النقابية في السودان ولسنوات طويلة قادمة سيجري تحت ظل حكومات وطنية تنتهج سياسات التحرير والسوق الحر, والتي من وسائل استقرارها في جبهة العمل النقابي: إلغاء النقابات أو إضعافها أو الهيمنة عليها ولتظل النقابة هي الصديق المخلص للعاملين فإن طريقها واحد: الدفاع المستميت عن استقلاليتها وديمقراطيتها. واستجابة النقابات من الناحيتين الاستراتيجية والتنظيمية للحقائق الاقتصادية الجديدة لا تزال ضئيلة, فترياق مصاعب العولمة الاقتصادية هو حشد العاملين في أكبر عدد من التنظيمات النقابية, فكلما كان عدد التنظيمات النقابية كبيرا كلما قل التأثير عليها من خارجها, وهذا يتطلب انتزاع الحريات النقابية وحرية التنظيم والقضاء على لائحة البنيان النقابي التي يتمرس خلفها النقابيون المزبيون وأحزابهم حاكمة ومعارضة. وانتقادنا لنقاية المنشاة الشكل الذي فرضته الحكومة لا يعني أن دعوتنا للبديل هي النقابات الفئوية المقيدة بلائحة البنيان النقابي وهو الشكل الذي ترغب المعارضة في فرضه, وهذا البديل لايعني غير استبدال سير قديم بسير جديد. إن ما ندعو له ضمن قوات الطريق الثالث هو اختيار العاملين بأنفسهم لأشكال التنظيم النقابي بما بعتقدون أنه يحقق مصالحهم, وعند اختيارهم نقابة المنشأة فإنهم يختارون في الحقيقة وحدة تننظيمهم الطوعية عن طريق الجمعيات العمومية للفئات في المؤسسة الواحدة وهذا وضع يختلف عن الوحدة القسرية بالقانون. نقابة أطباء السودان قبل الانقاذ كافحت من أجل تحسين الخدمات الصحية والعلاجية واهتمت بالمواطن والطبيب والكوادر المساعدة ودافعت أيضا عن الحريات النقابية والحريات العامة. الحقيقة أن كفاح نقابة أطباء السودان جرى تحت ظروف مختلفة وطنية وإقليمية ودولية, وشباب الأطباء اليوم يواجهون قضايا كثيرة ومعقدة تفرضها العولمة الاقتصادية وسيطرة شريحة الرأسمالية الطفيلية السودانية الجديدة على الحكم. ونضال الأطباء خلال الحقبة الانقاذية وفي الطور الثالث ليس يسيرا فالإنقاذ في طورها الثالث لا تعمل وحدها, بل تدعمها قوى سياسية كثيرة داخل الأحزاب السياسية الوطنية "التيارات ذات المصالح المتوافقة مع سلطة الحكم", كما تدعمها فئات اجتماعية تعمل على الارتقاء نحو الشريحة ومنهم مهنيون "أطباء", وكذلك الفئات الاجتماعية الطفيلية التي تراكم رأس المال عن طريق بيع الخدمات الصحية وبيع الأدوية Mohammed Khogali [[email protected]]