بسم الله الرحمن الرحيم [email protected] mailto:[email protected]ا راهن الكثيرون قبل إنطلاق مونديال جنوب إفريقيا على أن الأزمات الأمنية ستُعيق سير منافسات بطولة كأس العالم المقامة حالياً فى الدولة الإفريقية لكن على غير ما جزم البعض فإن المونديال بلغ ربع النهائى دون أن يعكر صفو الأمن فيه حادثة من تلك الحوادث التى قاسى منها العالم وسماها بالإرهاب .. وبدا للجميع النجاح الذى حققته جنوب إفريقيا فى تنظيم البطولة وإخراجها بصورة أذهلت العالم. إنه مونديال سيظل لزمنٍ طويل عالق فى ذاكرة شعوب العالم لأن هذا المونديال الناجح يحمل فى قصة نجاحه الكثير من الدروس والعبر والرسالات للجميع دون إستثناء .. ليُثبت الجنوب أفريقيين أن الروعة الحقيقية هى إلتحام وتواجد كل ألوان وأجناس وأعراق العالم فى مكان واحد يتحدثون لغة واحدة هى لغة كرة القدم .. وأن أبلغ الدلالات الإنسانية هى أن لكل لون جماله وألقه ووسامته وأن المتعة الحقيقية لا تتحقق إلا فى تجانس هذه الألوان وظهورها فى مهرجانٍ واحد يخلب الألباب ويجسد مضامين المساواة وأن التفرقة العنصرية من شأنها أن تفوِّت على المجتمع الدولى متعةً لا تحدها حدود وأن لا جنس من الأجناس يستطيع أن يعطى الألق والمتعة وحده دون الآخرين مهما كان آرياً ومهما بلغت درجة المواهب فيه .. ولذا جاء التجمع العالمى الكبير يحمل أمتع النكهات بسبب تعدد النكهات العرقية فيه. من كان يصدق أن دولة مثل جنوب إفريقيا تستطيع تنظيم هذه البطولة الأولى فى العالم بعد تلك المشاكل التى ظلت تعانى منها ردحاً من الزمان؟.. ففى عام 2003م عندما إحتدم التنافس بين الدول الراغبة فى تنظيم كأس العالم 2010م كانت جنوب إفريقيا تُجابه بمنافسةٍ قوية من العديد من الدول الإفريقية وكانت تستند على أحقيتها أكثر من جنوب إفريقيا فى تنظيم المونديال على التاريخ الأسود لنظام الفصل العنصرى الذى عاشته البلاد حتى مطلع عقد التسعينات من القرن الماضى ولذا كان هناك العديد من المشفقين على عدم قدرتها على تجاوز هذه العقبة .. خاصة أن المعارضين لها يتحججون بماضيها العنصرى وما صاحبه من أحداث دامية استمرت لعقودٍ من الزمان. ولكى نعرف عظم مدلولات نجاح هذا العرس الكروى والإشارات المبثوثة من فعالياته علينا أن نقف قليلاً فى محطة تاريخ هذه البلاد التى تنجح اليوم فى تنظيم المونديال لتؤكد أن الشعب إذا أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر .. وأن النضال الحقيقى لا يمكن أن تطيش نباله وأن من صدع بالحق وهو صادق فى حمله لأمانة النضال مهما كانت التبعات لابد أن يصل إلى مراميه ومقاصده وإن طال السفر وبُعدت الشقة. جنوب إفريقيا دولةٌ حباها الله بالثراء والمناخ الرائع والموقع الجغرافى المميز فما من مورد من موارد الطبيعة إلا وتستحوذ على حظٍ منه إلا القليل الذى لا يُذكر ويجد الإستعاضة فى وفرة غيره من الموارد مثل المعادن الإستراتيجية الكثيرة كالذهب والماس والبلاتنيوم والفحم الحجرى وغيرها من المعادن الأخرى. رغم هذا الثراء الإقتصادى والظروف المناخية والطبيعية المواتية على التطور والتى حُظيت بها جنوب إفريقيا، إلا أن الله وبمثلما حباها من هذه الخيرات إبتلاها بداء عضال أركسها حيناً من الدهر فى مستنقع من البشاعة والإنحطاط الأخلاقى تمثل فى كارثة ما عُرف بسياسة الفصل العنصرى تلك السياسة سيئة الصيت والتى ضربت بأطنابها فى الأرض الجنوب إفريقية ليزداد طين الأفارقة بللاً .. فبعد شقائهم بالمرض والجهل والتخلف ينزل على رؤوسهم بلاء العنصرية وماتبعه من آلام وأهوال تشيب منها الولدان .. ليصمد الأفارقة ويرفعون لواء النضال، فدفعوا ما دفعوا من أثمان حتى تُوج نضالهم بإنتصار مؤزر على أئمة الإستعمار والفصل العنصرى .. لتبرز إلى الوجود دولة جنوب إفريقيا الجديدة بوجهها النضر الذى تُطالعه هذه الأيام شعوب وأمم الدنيا منهم من على مقاعدهم أمام شاشات التلفزيون فى منازلهم فى أرجاء المعمورة وآخرون من داخل جنوب إفريقيا وقد ألجمتهم الدهشة وتيقنوا أنه ليس هناك أبغض فى هذه الدنيا من التمييز العنصرى وليس هناك ماهو أبهى وأنضر وأنفع وأأمن من العدالة والمساواة والحقيقة. بعد أن قطعت بوارج الإستعمار الإنجليزى والهولندى آلاف الأميال إستقرت على مرافئ وسواحل أقاصى جنوب قارة إفريقيا لتصعد قواتهم العسكرية إلى اليابسة وتجتاح أقاليم الذهب والماس وتبدأ الهيمنة على جنوب إفريقيا وتشرع فى سن أسوأ قوانين عرفها التاريخ البشرى وهى تستهدف المواطنين الأصليين من القبائل الإفريقية صاحبة الأرض فتم تقسيم البلاد إلى أقاليم ومحميات عنصرية .. فيظهر إلى الوجود قانون التمييز العنصرى البغيض عام 1948م .. وهو قانون غطى كل جوانب الحياة فى جنوب إفريقيا، سياسياً وإقتصادياً، وإجتماعياً .. وقسم الناس هناك إلى أبيض وملون وأسود ووضعت لكل واحدٍ من هذه التقسيمات تعريفاً عنصرياً قاسياً عدا البيض.. فألحق بالبيض صفة المقبولية والمظهر الحسن وبالأسود كل الصفات الحيوانية المنبوذة .. أما الملونين والذين هم بين البيض والسود والذين عُرفوا بالجنس الأصفر فإنهم يتراوحون بين هذا وذاك .. فكلما إقترب لونه من الأبيض كلما إقترب من درجة الكمال الإنسانى وأحرز المزيد من درجات التقدير حتى إذا ما بلغ ثريا اللون الأبيض فإنه سينال العلامة الكاملة ويصبح سيداً وكلما إقترب لونه من اللون الأسود كلما زادت درجة إنحطاطه وحرمانه من حقوقه الطبيعية والمكتسبة حتى يصل إلى ثرى الإنسان الأسود الذى تُهضم حقوقه بالكامل، وتبعاً لهذه المعايير تم تحديد حظوظ الشعب من الثروات والخدمات وغيرها من الحقوق الشرعية للإنسان .. فمثلاً ليس مسموحاً للشاب الأسود أن يتزوج فتاة بيضاء حتى ولو ربط بينهما حبٌ يفوق حب قيس لليلاه أو جميل لبثيناه وقس على ذلك كل الحقوق التى لا يسمح حتى غلاة العنصريين، على مر التاريخ البشرى، التعدى عليها تم التعدى عليها فى جنوب إفريقيا. ولكن المارد الإفريقى رغم كل هذا الإبتلاء لم يستكن لجلاديه وقاد نضاله المقدس ضد هؤلاء الأبارتايد .. فتصنع المقاومة للفصل العنصرى أبطالاً أمثال إستيف بيكو ونيلسون مانديلا الذين ضربوا أروع الأمثال فى قيادة شعبهم بعد أن دفعوا أغلى الأثمان فداءاً للحرية والديمقراطية ليتوج نضالهم بتحرير الشعب الجنوب إفريقى من ربقة الإستعباد وتعود جنوب إفريقيا منارةً وقبلة لشعوب العالم وتُسفر الأوضاع عن عظمة الحرية وعظمة الإنسان عندما يتحرر من قيود أنانيته المفرطة ليثبت شعب جنوب إفريقيا أن الإستعلاء العنصرى هو العدو الأول لمن يمارسه ويفرضه على الآخرين ليصبح هو نفسه عبداً لإحساسه الكاذب بالتفوق على الآخرين وهو أمرٌ أسوأ من إستعباده لضحاياه.