محمد وداعة: الجنجويدي التشادى .. الأمين الدودو خاطري    شركة توزيع الكهرباء تعتذر عن القطوعات وتناشد بالترشيد    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    بايدن يعين"ليز جراندي" مبعوثة للشؤون الإنسانية في الشرق الأوسط    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    دبابيس ودالشريف    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ضرباً بإتجاه الشنق! أو... في إغتيال الشخصية ... بقلم: السموأل أبوسن
نشر في سودانيل يوم 08 - 07 - 2010


مدخل أول
" إنني أقف في يد الله العظمى، ومن هناك أصارع خطة مكتومة ملؤها الحقد والخيانة"
بانكو في مسرحية "ماكبث"
كنت قد توصلت في قرارة نفسي إلى ضرورة الكف عن الإسترسال في ملاحقة الكتابات الموتورة للكاتب مصطفى البطل وتدليسه المستمر على القارئ، وشغفه العجيب بتلوين الوقائع وتحريفها بعد أن بيّنا ماهية بواعثه في نقد كتاب "المجذوب والذكريات" والتشنيع بكاتبه. والواقع إن الكاتب مصطفى البطل لم يجشمنا الكثير من العبء في إثبات صحة ما أوردنا، فقد تبرع بإكمال الباقي من كونه غارق حتى إذنيه في "خطة مكتومة ملؤها الحقد والخيانة" لاغتيال شخصية الراحل علي أبوسن تحت ذريعة نقد مذكراته. ولحسن الحظ كان البطل قد نشر مقاله في اليوم التالي لنشر مقالنا الذي أمطنا فيه اللثام عن دوره الصغير في اللعبة الكبيرة، فلم يتسنَّ له نفي شئ مما ذكرنا بل أكده بخط يده بما لم يتطلب منا مزيداً التوضيحات. وكنت أجدني مستعيناً بحقيقة أن الكتاب قد صدر بالفعل وبُذل للناس. ومدركاً أن من يبحث عن حقائق الأشياء في مكامنها لا في تخريجات كتاب العلاقات العامة لن يلبث أن يستوعب أي نوع من العبث يمارسه البطل الآن في تشويه صورة الراحل علي أبوسن. وأن من يسعى في هذا الأمر إلى نهاياته، سيرى حقيقة ما كان من أمر الكاتب مصطفى البطل وغلوه المفضوح في التعريض بالكتاب وكاتبه، وفي أشاعة كثير من زبد الأقاويل حوله عبر الجدل الدعائي.
والجدل الدعائي Ad hominem argument هو مبحث يعرفه المتخصصون في آليات إغتيال الشخصية. إذ يقوم على عنصرين لم أجد في حياتي مثالاً أصدق تعبيراً عنهما كما رأيته في أراجيف البطل. وأول هذين العنصرين هو مهاجمة موضوع الكاتب- وهو هنا كتاب "المجذوب والذكريات"، بتلفاق لا يواجه ما أبرزه من حقائق ووقائع في مؤلفه أو موضوعه ويشمل ذلك مهاجمة الكاتب أو المؤلف أو المستهدف في شخصه بتسليبه من كل مزيه، ورميه بكل الموبقات والوان البهتان. ثم تأتي المرحلة الثانية من مراحل هذا الجدل، وتتمثل في إتخاذ نفس الهجوم والتهم التي سيقت ضده من نفس الجهة في أول الأمر، كأدلة على إدانته وذلك بلا شك أسطع فنون الشر الإنساني وأغباها في نفس الوقت.
ومن المفارقات اللغوية البديعة في الأمر إن الجدل الدعائي نفسه تطلق عليه كلمة أخرى هي كلمة Fallacy، وينطقها اللسان (فَلَسِي)، لتشابه الكلمة العربية المرتبطة بالفلس معناً ونطقاً. وهكذا يكون الجدل الدعائي، والإفلاس والفلس، جميعها عملة واحدة، في مفارقة لغوية وبلاغية طريفة، تقودنا إلى واحد من أميز تجار تلك العملة، الكاتب مصطفى البطل.
المهم أنني كنت قد حزمت أمري على التوقف عن متابعة إفتراءات البطل، مراهناً على القارئ الذي تهمه الحقائق لا الإثارة. وعلى المثقف الذي يتجاوز زخرف الإنشاء والصياغات الدرامية، ويقصد إلى المعاني الحقيقية، المباشرة والدلالية، في ما صاغه مؤلف "المجذوب والذكريات" في سفره الغني الهام. وقد سرّني أن هذا بلا ريب سيخفف كثيراً من عنت القراءة المعيبة التي يعملها البطل تحريفاً للوقائع التي سردها مؤلف الكتاب، وتزويراً لأحداثه وتشويهاً متعمداً لكاتبه.
لكن ما دفعني للعودة مرة أخرى لتناول مقالات البطل المعيبة في حق المذكرات، هو المنحى الجديد الذي حاول أن يدخل فيه الكاتب بعد أن أفسدنا حيثيته الأولى وبارت كل بوار إلا من امتياز الإثارة، وبعدما تكشف للجميع أن البطل ليس أكثر من مجرد نموذج آخر للكاتب، "جُنُب القلب طاهر الأطراف"، يظهر خلاف ما يبطن، ويمارس ضرباً مقيتاً من ضروب التقوّل والبهتان، ويداري على ذلك بإمعانه في الحذلقة والإدعاء فيصف دوافعه للكتابة عن المذكرات بأنها من موجبات الدفاع عن التاريخ ضد التزوير!
وأصدق القارئ إنني من هول ما رأيت من تجانف البطل عن الحق، وحمله وتحامله على المذكرات، في مسكعته التي أسماها "أحاديث الأدب وقلة الأدب"، حتى حسبته يكتب عن أمر آخر غير كتاب "المجذوب والذكريات". وأصدقه أنني أعدت كرّاتي في قراءة الكتاب وتقليب صفحاته الممتعة التي تحكي عن تجربة ثرية لسوداني نادر، هو كاتب مقتدر، تميز كتاباته الدقة وحس التشويق والصياغات الممتعة. ويتوفر على قدر مهول من المعلومات التي تعبر عن ذاكرة غنية راصدة فاحصة. وأمضيت وقتاً طويلاً في إعادة قراءة أجزاء مختلفة منه، وكنت في خلال ذلك أحاول إعمال القراءة العكسية في أكثر تأويلاتها تطرفا فلم أجد سبباً لهذا الفحش من البطل. وعلى أية حال أتاح لي كل هذا العنت فرصة إعادة إكتشاف ما في الكتاب من إشراقات مما لفت نظري له البطل، ومعلومات ثرة، مما سأعود للكتابة عنه لاحقاً عساى أجلي بعض التشويش والعبث الذي أعمله فيه كاتب الإثارة.
يتميز كتاب "المجذوب والذكريات" بأنه قارب حياتنا وتجاربنا وإختلافاتنا وتنوعنا، ونجاحاتنا وخيباتنا من منظور إنساني شامل دون أن يغفل التكوين النفسي والوجداني لكاتبه وخلفيته الثقافية التي شكلها تكوينه السوداني وتجارب حياته الغنية. وبذلك إستطاع الكاتب ان يطرح بلغة الضاد كتاباً سودانياً تجاوز حواجز التابوهات ومقتضيات مصانعة المسئولين والمتنفذين. نعم أغضب الكتاب البعض وهذا شئ طبيعي، إذ لا يتصور أن يكتب شخص مذكراته وتشمل الرضا عن الجميع إلا إذا كنا في صدد المجاملات التي يجب أن تكون آخر ما يخطر ببال كاتب المذكرات. والمحك هو أن الكاتب إلتزم الصدق منهجاً في كتابه مثلما إنتهجه في حياته الملأى بالعواصف. وليس ثمة برهان على ذلك أقوى من كونه قد عاش أكثر من سبع سنوات بعد صدور كتابه لم نسمع فيها من ذهب إلى تكذيبه على تعدد المنابر التي لا تحصى ولا تعد، ولم تظهر مثل هذه الإدعاءات إلا بعد وفاة الرجل.
ورغم ما يبدو في ظاهر الأمر من أن الكتاب قد طغت عليه طبيعة تكوين الكاتب وأسلوبه الذي يميل في أحيان كثيرة إلى أنماط الحياة الغربية، إلا أننا في مواطن عديدة منه نجدنا أمام شخص شديد الإرتباط بمجتمعه، وتقاليده القبلية، ونظم مجتمعه. وهنا في تقديري تكمن إجابة أكثر الأسئلة إستفزازاً في مقاربة الكتاب! وهو كيف لاقح المؤلف بين هذه العناصر التي تبدو في ظاهرها شديدة التباين، فإنتظمت في قوام واحد لتشكل شخصية المؤلف؟ وفي هذه الجزئية في تقديري يكمن مفتاح الدخول إلى الحالة الذهنية والتكوين النفسي لكاتب سفر الذكريات بما يتيح أمام المحلل فرص الولوج إلى ما إستعصى عليه تحليله وتأويله مما جاء في دفق الذكريات.
يتناول الكتاب الذي تمحور حول صداقة الكاتب علي أبوسن بالشاعر العملاق محمد المهدي المجذوب، عوالماً متكاملة لابد أن القارئ لن يجد لها رابطاً لو أنها طرحت له خارج سياقه. ففي خيط واحدٍ جزل، إنطلق الكاتب لينسج منظومة سردية متصلة. ووصف وأسهب في وصف مقاطع من شريط حياته المحتشدة بالأحداث والمفاجآت والمواقف. لم يرتبط الكاتب في هذا بجغرافيا السودان أو ديمغرافياه، وإنما إنطلق ككائن عالمي إحتك مع محيطه العربي والأفريقي والاوروبي. فكتب عن مراحل حساسة من حياة أناس لعبوا أدواراً تاريخية في بلادهم. عن جيل ما بعد الإستقلال في العالم العربي، وعن حقبة مصر عبد الناصر وبومدين، والتاريخ غير المرئي لعلاقات السلطة في مصر، وكتب عن الصراع الذي وسم تلك الفترة ليس في ميادين المعارك فحسب بل وفي ساحات الفكر في عواصم العالم القاصية. وتناول الكتاب من رموزنا الثقافية والوطنية فشرح وأسهب وتغنى وأطنب، وقرظ وقرع. والقارئ في كل ذلك لكأنما يحس تدفق نفس الكاتب فوق صفحات الكتاب التي تعلو به فيها الأحداث وتهبط في سجال لا يسمح له بالتوقف ولو للحظة. وقد أجاد الناقد الراحل الكبير رجاء النقاش حين وصف أسلوب كتابة الكتاب بانها ضرب من ضروب التداعي الحر في الكتابة.
إسترجع الكتاب الكثير من المواقف المرحة، والمدهشة، والمخيبة والمحزنه مع طائفة كبيرة ممن ساهموا بدرجات مختلفة في رسم واقعنا الراهن. ومن ضمن من تناولهم الكاتب في مواقف بعضها عابر وبعضها متكرر، جمال محمد أحمد، ومحمد عبد الحي، ومحمد أحمد محجوب، ومالك بن نبي، ووليم دينق، والطيب صالح، وسعيد الكرمي، وأحمد خير. كتب المؤلف عن كل هؤلاء وعن مواقف إنسانية عاشها معهم. هي قطعاً مما لا يمكن أن يجده القارئ في أي مكان آخر، بعض تلك المواقف حزين، وبعضها مثير، وبعضها غاية في الطرافة وذلك كله هو من التاريخ الخفي لمجتمعاتنا. وقد كان المؤلف في كل هذه التجارب، مشاركاً فاعلاً مؤثراً وناجحاً.
أما بخصوص ما اعتبرته في تقديري من عيوب الكتاب ومثالبه، وهي أمور لا يخلو منها كتاب، فقد تذكرت كيف كانت مثار نقاشات طويلة وحافلة بيني وبين الراحل أعدت فيها إكتشافي له، وإطلعت على جوانب مدهشة في شخصيته بالغة النظام والتعقيد. وإستشفيت فلسفته في أسلوب كتابته للكتاب وألممت بنظرته ومراميه البعيدة ومقاصده مما وصفته أنا كعيوب في الكتاب. كان ناجحاً محباً ويحترم الناجحين. وكان يقارب كل الأمور في حياته من منظار فلسفي واسع حاديه التريث والتفكير المتئد قبل أن النطق بالكلام أياً كان موضوعه.
الخطل في تخريجات البطل
باغتُّ نفسي، وأنا أستعيد هذه الإنطباعات والصور; قائلاً، ربما كانت قراءتي هي قراءة عين الرضا التي هي عن كل عيب كليلة، وأنني أنظر للأمور بحكم علاقتي بالراحل، نظرة تعميني عن حقيقة الأمر، فقلبت حولي، وإعدت قراءة ما كتبه آخرون عن الكتاب. نفس الكتاب الذي عاث فيه البطل المفتقر ليس فقط إلى الحساسية الإبداعية، وإنما إلى روح المرح، وأعمل فيه تخريباً كما الثور في مستودع الخزف، هو نفس الكتاب الذي إستقبله آخرون باحتفاء كبير وتقدير أكبر، ومنهم الكاتب الكبير الراحل رجاء النقاش الذي كتب سلسلة من المقالات نشرها في مجلة الوطن العربي غداة صدور الكتاب قال في مبتدرها :" ومنذ أسابيع صدر كتاب جديد في جزءين يبلغان معاً ما يقرب من خمسمائة صفحة، والكتاب عنوانه "المجذوب والذكريات"وله عنوان فرعي طويل آخر هو "أحاديث الأدب والسياسة بين الخرطوم ولندن،والقاهرة وباريس". و الكتاب من تأليف أديب سوداني هو الأستاذ علي أبوسن وهو إنسان مثقف صاحب تجربة واسعة في الأدب والفن والسياسة والدبلوماسية والحياة. وبالرغم من أنني أعرف "علي أبوسن" منذ الستينات وربما قبل ذلك، إلا أنني لم أكن أعرف أن حياته غنية بالأحداث إلى الحد الكبير الذي إكتشفته وأنا أقرأ هذ الكتاب الجديد. فلم أكد أقرأ الصفحات الأولى من الكتاب حتى وجدتني أجري وراء صفحاته الاخرى مثل المسحور حتى إنتهيت من قراته في ليال معدودات. ومصدر المتعة في الكتاب أنه مكتوب بأمانة وصدق. وأنه يكسب "ثقة القارئ" منذ سطوره الأولى، و أنه لا يخفي شيئا ولا يخاف من شئ، ولذلك جاء هذا الكتاب طريفا ومدهشا معا، وأمتزجت فيه الحياة السياسية بالحياة الأدبية و التجارب الشخصية. وإذا كانت خلفية الكتاب سياسية، فإن مضمونه أدبي وإنساني".
ويسترسل النقاش " وكاتبنا علي أبوسن ينتمي إلى قبيلة عريقة في السودان هي قبيلة "الشكرية"، وكان فيها باشوات ومشايخ وأعيان ورجال يهابهم الإنجليز ويحسبون لهم ألف حساب. وقد تعلم في القاهرة و حصل على ليسانس "دار العلوم" في أواخر الخمسينات، ثم سافر إلى لندن وعمل مذيعاً في الإذاعة العربية هنا، حيث كان يعمل أيضاً عدد آخر من الشخصيات البارزه التي أصبح لها بعد ذلك حضور قوي على الساحة الأدبية والفكرية في العالم العربي و على رأس هذه الشخصيات الطيب صالح. وقد لقي "علي أبوسن" في مجتمع لندن نجاحاً عملياً كبيراً، ولقي نجاحاً شخصياً إلى جانب ذلك. فكان شديد الثقة بنفسه، وإستطاع أن يلفت النظر بقوة شخصيته، وبوسامته الرجولية العربية الأفريقية، مما حرك نحوه أكبر المشاعر في نفوس فاتنات المتمع الإنجليزي. وكان ل "علي أبوسن" في هذا المجال تجارب عجيبة كتب عنها في كتابه الجديد بقدر كبير من الصراحة والوضوح. وقد إستطاعت هذه التجارب الشخصية التي كشفها "علي أبوسن" أن توضح أمام القارئ المهتم بأدب الطيب صالح تلك الأجواء التي خرجت منها رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" حيث كان بطلها مصطفى سعيد يخوض مغامراته و تجاربه المثيرة مع فتيات إنجلترا وقد أشار الطيب صالح في إحدى مداعباته ذات مرة وهو يتحدث مع الممثلة المصرية ماجدة الخطيب في حضور "علي أبوسن" إلى أن "علي" هو نفسه "مصطفى سعيد" بطل "موسم الهجرة إلى الشمال". وفي الجزء الخاص بالتجارب الإنجليزية من كتاب "علي أبوسن" نتذكر تماماً أجواء رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" و نجد إضاءة قوية تكشف أمامنا المادة الإنسانية الأولية لهذه الرواية الفريدة في الأدب العربي، و التي أصبحت الآن ذات شهرة عالمية بعد ترجمتها إلى العديد من اللغات الحية".
وما ذكره النقاش من أمر مصطفى سعيد وغيره، والطريقة التي مر بها على تعليقات الراحل الطيب صالح، هو في حقيقته يعبر تعبيراً دقيقاً عن شمول النظرة، ومنهجية النقد وتأسيس العبارة على أرضية المعرفة المتراكمة لا على الفراغ. هي نظرة يتضح فيها الفرق واضحاً بين القراءة المنتجة للمعرفة، وبين قراءة الخطل التي تقفز قفزاً لمحصلات مرسومة مسبقاً!
الإتحاد الاشتراكي... رمتني بدائها وانسلت!
أقول ما كان ضرنا شئ من قول الرجل الذي تصدى لمهمة الدفاع عن التاريخ، ويا لها من مهمة، لولا أنه إبتدر مهمته (الجليلة) بسيل من الأكاذيب والإفتراءات وبنات خياله (المطاليق) أعادتنا للرد عليه. فقد أسهب الرجل بما يكفي وأعاد نقل وجهات نظرٍ سمعناها وقرأنا عنها، بحذافيرها، بل ولم يتوانى حتى عن نقل عناوين مقالات البعض بكاملها في حربه تلك ضد أبوسن. لكن ما زاد إشفاقي على الرجل هو ما حاق به من إرتباك وتناقض في وصف علاقة أبوسن بالخارجية ووزيرها الأسبق الدكتور منصور خالد. ويبدو لي أنه، بعد تنبيهنا له، إلى دلالات مقاله الأول في الإساءة لمنصور خالد حين صوره كفتوة وبلطجي وزارة الخارجية، مما جزمنا بأن الدكتور منصور خالد لم يستحسنه، قام صاحبنا إلى تخريج آخر قلب فيه كل فرضيته الأولى التي قامت على أن أبوسن كان نكراً منسياً في وزارة الخارجية، ليجعل منه، في مقاله اللاحق، رجل الخارجية القوي، الآمر الناهي، الذي ناطح الوزير نفسه -الحجر الأسود سابقاً- بما جعل الوزير يضع هوانه و قلة حيلته مباشرة أمام الرئيس بتخييره بين أن يتنحى هو عن الخارجية لعلي أبوسن أو أن ينقل أبوسن إلى وزارة أخرى!! صور البطل أبوسن على أنه شخص مغلوب على أمره منتهى أحلامه أن يكون وكيل وزارة أو أمين أمانة في الإتحاد الإشتراكي، قبل أن يعيده إلينا في نسخته الجديدة، الباطش الآمر الناهي، الذي ترتعد أوصال الخارجية لمجرد وقع أقدامه في ردهاتها، ولله في خلقه شئون! فهل يحتاج القارئ مزيداً من التوضيح للوقوف على هذا النموذج من "محننا السودانية"؟؟
ويبدو أن مسألة الإتحاد الإشتراكي، هي الخيط الواهن الوحيد الذي تبقى للبطل في مسألة تشويه علي أبوسن بعد أن إستعصت عليه المداخل، وبعد أن بار مسعاه في النقد الأخلاقي المغرض. ولأن البطل يمتهن الكذب ويتحراه فإنه يقول دون أن يهتز له سنان قلم: "ويقول معاصروه من الدبلوماسيين(...) - وهم كثر يعاظلون الدنيا بين الوطن والمهاجر - إنهم ذاقوا الأمرّين جراء نفوذه المتفاحش وسلطته وعنجهيته واستعلائه على الآخرين بحكم انتمائه ومركزه في التنظيم الحاكم(..) وقد تملكت صاحبنا عهدذاك نزعة مستفحلة لأن يلعب دوراً متعاظماً يشبه ذلك الدور الذي كان يلعبه منسوبو الحزب الشيوعي في شرق أوربا داخل وزاراتهم(..). وقد أغرى منصب "أمين الاتحاد الاشتراكي" في ذلك الموقع التنفيذي الحساس، علي أبوسن لأن يتدخل في شؤون الوزارة واختصاصات وكيلها ووزيرها، وأن يدبِّج التقارير عن ضعف التزام بعض المسؤولين بما فيهم الوزير، بمبادئ وأهداف "ثورة مايو". ومما أخذه على الوزير، وكتبه في تقاريره ثم أشاعه في اجتماعات مفتوحة، ما وصفه بأنه "ضعف في الأداء العام". وهنا برز الاحتكاك الأول بينه وبين الدكتور منصور خالد، الذي كان يشغل وقتها منصب الوزير.
كان من الطبيعي ألا يكون وجود أبي سن وممارساته التسلطية مقبولة عند وزير في حجم وجبروت ونفوذ منصور وقتها، فما كان من الأخير إلا أن كشر عن أنيابه للموظف الصغير الذي لم يعرف حدوده". إنتهى الإقتباس.
وسيتحتم علينا إذا من الإقتباس السابق أن نأخذ ثلاث إدعاءات على سبيل الحقائق المطلقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وهي كالتالي:
أولاً: إن الرجل كان له مركز ونفوذ مخيف في التنظيم الحاكم! وكان البطل قد رماه بقلة الشأن وصغر المقام ففي أي من الوصفين تقع الحقيقة؟
ثانياً: إن الرجل كان بالفعل يشغل ذلك المنصب، أمين الإتحاد الإشتراكي! وكان البطل قد قطع بأن هذا المنصب كان منتهى أحلام وآمال أبوسن وأحالنا إلى قصة الحجر الشهير، الذي لابد أن القارئ يذكره جيداً؟؟ حجر المنصورالأسود كما أسماه أخونا البطل!
ثالثاً: إن منصور خالد وزير خارجية نميري الأشهر، كان ضعيف الإلتزام تجاه نظام مايو! وهذه بالطبع محيرة! وستغضب منصور خالد نفسه قبل أن تضحك القراء، ولا أرى لزوماً لأن أضيف أي إضافة!
ودعونا من هذا كله لنقف على مسألة هامة لصيقة بالموضوع. ألا يتساءل سائل، من أين للبطل بمثل هذه المعلومات الدقيقة المفصلة والتي هي في حقيقتها نتاج ما تتناقله خطوط الهواتف عابرة المحيطات من (قوالات) في أكبر عمليات النميمة أو(القطيعة)؟! إن مجمل محمولات كاتبنا هي محض إنطباعات ومرارات وأمزجة شخصية لا أكثر ولا أقل. نقول أن مصادر البطل في مجمل بهتانه لكاتب المذكرات هي نتاج ال Gossip التي يتصيدها من مصادر بعينها وينتشي بما يتسقطه منها، وإلا من أين لمثل البطل الذي تفصله عن بقية (الأبطال) سنوات طويله تجعل مجايلته لهذه الأحداث-التي لم يرصدها كتاب- من المستحيلات. كيف تسنى له معرفة وضعية لا يمكن أن يعرفها إلا من عاشها ما لم تكن قد رويت له رواية شخصية؟! لقد إستقى صاحبنا رواياته (المحسنة) "بضبانتها" من أعداء الراحل أبوسن. ولو كان البطل كاتباً مسؤولاً كما يدعي، لمارس ذاك القدر مما أسماه "الصحافة الإستقصائية" لمعرفة المسائل من جوانبها وتلمس أطرافها الأخرى. أو كان على أقل تقدير تحقق من وجهة النظر الأخرى التي رواها مؤلف الكتاب الذي يعكف البطل على التشهير به، ولو لإبداء شئ من الحياد. ولكن محاولة البطل الخائبة لإغتيال شخصية أبوسن، جعلته لا يرى الأشياء إلا من خلال منظار واحد هو منظار الغل والتشفي.
ولقد ذكر الراحل أبوسن في كتابه" المجذوب والذكريات" عن أمر الخارجية والإتحاد الإشتراكي ما يوضح تماماً حقيقة الصورة التي كان عليها الإتحاد الاشتراكي وأبان في كتابه إبانة من لا يداري كيف أن التذرع بالاتحاد الاشتراكي كان مخرجا لإعادة تشكيل إتحاد الدبلوماسيين الذي عطله الوزير آنذاك. قال أبوسن:" كان منصور يعرف أن قيام تنظيم من أي نوع تعترف به الدولة في وزارة الخارجية، سيمنح الدبلوماسيين المقهورين صوتا مسموعا يكشف ما تعانيه الخارجية على يديه. وقد نجح في منع إعادة تكوين إتحاد الدبلوماسيين حتى عدت أنا من باريس. كان علي أن أزيح من عقول الزملاء وقلوبهم موجات الرعب التي بثها فيها صلف منصور خالد و تجبره. وأقنعتهم بعد معاناة شديدة بضرورة الإجتماع وإنتخاب لجنة جديدة للإتحاد. ثم دعوت إلى إجتماع مشترك للجان إتحادات الدبلوماسيين والإداريين والعمال، وعرضت عليهم فكرة إنشاء إتحاد موحد لجميع العاملين بوزارة الخارجية. وقد إعتبر الجميع ذلك الإقتراح فكرة جريئة جداً في ظل تقاليد التمايز المهني والطبقي بين تلك الفئات الثلاث. في البداية لم يصدق أعضاء إتحادي الإداريين والعمال إنني جاد في إقتراحي، فترددوا. ولكن بعد أن تأكدوا من الجدية وافقوا بل تحمسوا واندفعوا يدعون للفكرة. لم يكن منصور يعترف بأي من تلك الإتحادات، ولكنه لم يكن يستطيع أن يفعل شيئاً بعد أن أستصدر جعفر بخيت قرارا من نميري بعدم تعرض الوزراء لعملية إنشاء النقابات والإتحادات لتكون جزءاً من مكونات الإتحاد الإشتراكي". إنتهى كلام أبوسن.
وأود أن أعود هنا إلى الإشارة إلى ما تلقيته من الكاتب الأستاذ محجوب بابا، وكان قد أرسل مقالا كامل حول الأمر إلى كل من "الأحداث" و "سودانايل" ولكنه لم ينشر لتقديرات المسئولين في كلا الصحيفتين. ومما جاء في مقال الأستاذ محجوب بابا " أن عضوية الرسميين في الإتحاد الإشتراكي قبل القادمين المتصالحين مع مايو كانت فرض عينٍ بالصفة والوضع الوظيفي وشيخ العرب المرحوم أبوسن منهم، ولا يُعقَل تعميم سُبَة الشمولية والإفساد عليهم أجمعين ومنهم من يُجمع المجتمع على طهارة سيرتهم. من حقائق التاريخ تجسم العيب كله والإفساد حتى لرأس الأفعى في سدنته اللاحقينن. هكذا الحقيقة قد إستوجبت على المرحوم أبوسن ورفاقه الميامين الإستماته لحماية الحزب الإتحادي الديمقراطي من ويلاتهم، وفي مظاهر يومنا الحاضر خير شاهد وبرهان". إنتهى حديث الأستاذ محجوب بابا، فهل ثمة إبانة في هذا الأمر أكثر مما قيل؟
على أن القارئ لا بد سيتساءل عن الواقعة التي نقلها البطل في شأن علاقة أبوسن بالسلطة، هل من المعقول أن يصل (الموظف الصغير) في سلطته وجبروته حداً يدفع بوزير الخارجية أن يخير الرئيس، فيما يشبه حالة "الحرد"، بين أن يعين هذا الموظف الصغير وزيراً للخارجية أو يضعه في أمانة العلاقات الخارجية بالإتحاد الاشتراكي؟
يقول البطل أن رياح مايو قد تقلبت بغير ما تشتهي سفن أبوسن، فوجد الرجل نفسه "على قارعة الطريق"، بغير وظيفة في الخارجية، وبغير موقع في الإتحاد الإشتراكي. فتأمل عزيزي القارئ! وليتأمل هذا القول كل من في رأسه بعض عقل يميز به! فإذا كان أبوسن ذلك السادن المايوي، وربيب الدكتاتوريات، هل كان وجد نفسه خارج منظمات السلطة ومؤسسات الدولة في نفس الوقت؟ أم أن خروجه في عز فورة مايو من كل ذلك هو أقوى شهادة للرجل على رفضه لتلك الدكتاتورية ومعارضته لها؟؟! لن يزيف البطل الحقائق. فقد خرج الرجل من النظام ومؤسسات الدولة لأنه قال لا في وجه من قالوا نعم. ولن يجد (أرزقية) الكتابة فرصة ليلوثوا أبوسن بتهم تمجيد الدكتاتوريات والتمسح بترابها.
ونعود لتعرية ما كان من أمر الكاتب المقدام الذي ورط نفسه في هذا الأمر، وسعى بلا تبصر ولا معرفة في مشروع إغتيال شخصية أبوسن، وقد وقع البطل في شر أعماله حينما حاول أن يضفي على مهمته "الصغيرة"، رداء التوثيق والتقصي. وحاول التدثر في هذا الأمر بدثار الباحث المستقصي، المنافح عن الحقيقة، المطارد لها عبر الفلوات والمظان. فيقول: "وككاتب مسئول (..) خطر لى ان الجأ الى نهج الصحافة الاستقصائية التى توثق للحقائق مباشرة، عوضاً عن الركون الى روايات مجالس المؤانسة المرسلة. وهل يصعب على مثلي أن يحصل على رقم تلفون هاتف الاستاذ فضل عبيد النقال؟ (...)
وقبل أن نأتي إلى المرحلة التي وصل إليها الكاتب "المسؤول" من الكذب الصريح، سنشرح للقارئ العزيز، أو – العزيز الأكرم- خلفية على قدر كبير من الأهمية قبل أن ننزع آخر أوراق الأباطيل. والخلفية تتمثل في إن السيد فضل عبيد كان جار علي أبوسن في الحي قبل أن يكون زميله في الخارجية. وربطت بين الرجلين علاقات جيرة طويلة ممتدة. إتصلا فيها على مستوى الأسرتين، وربطت بين ذريتيهما روابط الصداقة والأخوة الحقة منذ وقت طويل. والواقع إن ما تجرأ عليه البطل في حربه غير الكريمة تجاه كاتب المذكرات، كشف الستار عن الحد الذي يمكن أن يصل إليه في الفجور. فهو لا يبالي أن يتأذى من يتأذى ممن يستعين به في سعيه اللاهث لتعضيد باطله. وقد آلمني حقاً أن البطل قد تسبب برعونة فادحة بإحداث حالة من الحرج الشديد لدى أسرة عمنا الفاضل فضل عبيد ولديه بشكل مباشر نتيجة لما خلفه نشر ما إدعاه البطل على لسانه على صفحات الصحف. فنظراً للعلاقة الوشيجة التي تربط بين أسرتي الراحل أبوسن وأسرة العم فضل عبيد، فقد كان طبيعياً أن ينزعج الناس غاية الإنزعاج و أن يستفسروا عن حقيقة ما إفتراه الكاتب مصطفى البطل. وهناك إستطراد لابد منه قبل أن نكمل هذه الجزئية التي تكشف ما يمكن ان يبلغه الإفك من مبلغ.
أقول بدءاً، من البديهي إنني لم أقف عند هذه النقطة في مقال البطل من أجل الدفاع عن الراحل علي أبوسن ضد تهمة السرقة والنهب التي رماه بها البطل. فالرجل ببساطة شديدة لم يكن يحتاج لذلك، وإتهامه بسرقة لوحات فنية هو من قبيل السُخف لا أكثر ولا أقل. لكني كنت حريصاً على الوقوف على كيفية إخراج البطل و"مونتاجه" لحديث الناس وتوظيفه لقصصه الفطيرة بمنطق القص واللصق فقط ليسوق مقاله الأسبوعي وهو أمر صار معروفاً عنه وقد كرره مع أفراد عديدين لا يتسع المجال لذكرهم. كما أرجو أن يعذرني القارئ إذ أنني في وضعية حرجة للغايةً، ما بين الإسترسال في الرد على كذب البطل وفضحه على الملا، ببيانات وشواهد ماثلة في علاقة أسرتي الراحل علي أبوسن والأستاذ فضل عبيد تثبت بهتان البطل للرجل، وبين النزول عند رغبة العم فضل عبيد، الذي تأذي أيما تأذي من هذا الإستغلال السئ الذي تعرض له. ولا ريب أن ما نشر عنه كان قد قوبل بكثير من الإستغراب من قبل أسرة الراحل علي أبوسن التي بهظها هول المفاجأة مما نقل على لسان العم فضل عبيد الذي نفى نفياً قاطعاً أنه وجه إتهامات كمثل التي ساقها البطل، إلى أبوسن. بل وعبر عن غضبه الشديد لما تعرض له من إستغلال لدرجة إعتزامه الوصول الى صحيفة الأحداث للإحتجاج على ما نُشر عنه في مقال البطل.
إننا على إلمام تام بمثل هذه المسائل الإنسانية ونقدرها حق قدرها ونفهم أسبابها ودوافعها وظرفها. ونقدر رغبة الأستاذ فضل عبيد في ألا ينفتح جدل يحشر فيه إسمه في مجموعة (قوالات). كما نتصور العنت الذي يمر به كل شخص في مثل هذه المرحلة من حياته حين يوضع موضع الإفتراءات التي ما أنزل الله بها من سلطان. أقول لكل هذه الملابسات الإنسانية الدقيقة للغاية، سنعلِّق تفاصيل ردنا الماحق على البطل ومن يديره في هذا الأمر، ولكن إلى حين. ولن ينفد الكذاب بعبثه وأفاعيله التي سيأتيه خراجها طال الزمن أم قصر! وحبل الكذب جد قصير.
دار العلوم.. ولِمَ يخجل أبوسن؟
يقول البطل أن علي أبوسن كان يخجل من خلفيته الدراسية بكلية دار العلوم. و هو بالطبع قول لم يستنتجه البطل، وإنما نقله نقلا عن الناقد الدكتور عبد الله حمدنا الله. وإذا كان لدكتور حمدنا الله اسبابه التي نحترمها كآراء ونوردها في إطار إعمال النقد للكتاب. فإننا لا نفهم أن يردد البطل ذلك الاتهام كأنما مدعياً الأصالة فيه، وكأنما كان من بنات أفكاره. على أية حال هذا الإتهام ربما كان أخف الاتهامات بؤساً في لائحة البطل العنقودية التي لم تبق ولم تذر. أما ما كان من شأن أبوسن في هذا الأمر، فقد اعتبر الراحل كلية دار العلوم وساماً على صدره، ولم يبدر منه من قريب أو بعيد ما يشي بغير ذلك بل كان فخوراً أن وصوله لدار العلوم نفسه كان ضرباً من ضروب الكفاح، والإجتهاد، والعزم لا يتوفر إلا لمن كان يملك الطموح والروح الوثابة. وإحتفظ أبوسن بوفائه لدار العلوم فكان لصيقاً بها مشاركاً في أنشطتها. وإستمرت صداقاته مع زملائه من دار العلوم وكان هؤلاء هم أصدقاء مسيرة حياته الذين ظلوا بقربه وظل يردد أسماءهم حتى قبيل رحيله. إدعى البطل إن أبوسن كان يخجل من خلفيته التعليمية ومن كونه خريج دار العلوم! والواقع أنه ليس في عدم ذكر كلية دار العلوم في مذكرات أبوسن ما يشي بخجله منها. فهي ليست الجزء الوحيد في حياته الذي لم يذكره في مذكراته. فهناك فترات أخرى كان شديد الإحتفاء بها في حياته ولم يذكرها، وأهمها مراحل طفولته وصباه بين كسلا والخرطوم، وتلك كانت فترات خصبة للغاية في حياته. ولكن أغلب ظننا أن السبب الرئيسي في ذلك يعود إلى أنه إتخذ من رسائل المجذوب محوراً يتناول فيها محطات الأدب والسياسة وأحاديثها وأشجانها. وقد طغت تلك العلاقة على منطلقات محاور الكاتب في تناوله محطات الذكريات. فالكتاب إتخذ في عنوانه إسم المجذوب قبل الذكريات، وهنا دلالة ضمنية على تقاسم مفردتي العنوان موضوع الكتاب. فكان القارئ يستصحب المجذوب حتى في المساحات التي لا تتناوله. على أية سنعود لاحقاً لهذه الفرية المضحكة في حديث البطل والتي نقلها "بضبانتها" من إستنتاجات الناقد الدكتور عبد الله حمدنا الله، حتى أنه في غفلة من أمره أشار في صلب مقاله إلى "همبتة المذكرات"، في إشارة إلى مقال حمدنا الله ونسي أنه عنون مقاله ب"بلطجة المذكرات" فصرنا عبر إسقاطات العقل الباطن للبطل، في حيرة من أمر ما نقرأ، هل هو مقال حمدنا الله أم مقال البطل!
عقدة "أبوسن" أم عقدة البطل
ورغم أن تناول مثل هذه المسائل يعد من توافه الأمور حينما نكون بصدد تقييم كتاب مثل" المجذوب والذكريات"، لكن هذا لفت نظري إلى أمر إهتمام البطل الشديد بالخلفيات التعليمية والألقاب الأكاديمية أكثر من إهتمامه بمنتجها ومخرجاتها. وهو ما يعبر بصورة أو أخرى عن أزمة عميقة يعيشها أو فراغات يحسها في هذا المجال ربما كانت تعبر عن خلفية تعليمية مضطربه تفسد عليه حياته. فالبطل قد حشد مقالا طويلاً (يهز ويرز) وسمه ب "رجال حول حرف الدال"، كان كل همه رصد حملة الدكتوراة، ومدى إستحقاقهم لها. ونشر ذلك المقال أيضاً في موقع سودان فور أول المعروف بإنضباطه الشديد في التعامل مع الألقاب العلمية، وفي إحترام التقاليد الأكاديمية. فتعرض لنقد شديد لم تفلح معه تبريراته المختلفة. ولما تبدى له هزال حجته، إنصرف عن الموقع لا يلوي على شئ وترك أسئلة الناس معلقة في الهواء. نقول إذا كان أمر الإهتمام المزعج بالألقاب والخلفيات الأكاديمية في قشورها دون تقصي محمولات صاحبها الفكرية وما أسفرت عنه في تشكيل تكوينه ووعيه، هو إحدى العُقد التي تشوش تفكيرنا بصورة عامة وتحتل حيزاً كبيراً من نهجنا المظهري، فقد إحترت في ذلك لدى البطل الذي يبدو أنه شديد النقد لأنماط حياتنا وثقافتنا. والحق أن كتاباته حول المحن السودانية في أمريكا كانت قد لاقت لديّ إستحسانا كبيراً لما فيها من إضاءة لبعض سلبيات ثقافتنا الإجتماعية وسلوكنا العام. ولكن خاطراً خطر لي بعد قراءة تعليقات البطل في ذات النهج الملاحق لعلي أبوسن في أمر إشارته لبعض المؤسسات الأكاديمية في كتابه. وقد حرت في الأمر أيما حيرة. فعلاقة علي أبوسن بجامعة لندن كان سببها إلتحاقه ببرنامج دراساته العليا فيها وهو أمر لا أجد فيه أية غرابة. وما أعرفه بالفعل إن أبوسن كانت له دراسات متخصصة حول علاقات السودان بالحبشة خلال الفترة المهدية. ولدي ضمن أوراق الراحل رسائل مشرفين أكاديميين في هذا الخصوص واردة للراحل علي أبوسن إبان عمله في إذاعة بي بي سي يناقش فيها مراسلهُ جوانب من البحوث التي أرسلها له أبوسن.
كما أني أجد أنه من الطبيعي لعلي أبوسن الذي عاش في فرنسا ودرس اللغة الفرنسية، وكان من المتحدثين بها، لا غرابة أن تكون له علاقة وثيقة بمؤسساتها الأكاديمية. فما هي الغرابة في أن يذكرها في مذكراته تلك طالما أنها إرتبطت عنده بأحداث وفترة هامة في حياته؟ لكن البطل المستغرق بعقدة الشكليات الأكاديمية لا يريحه ذلك ولا يقع عنده موقعاً حسناً. فواصل عبثه وملاحقته لعلي أبوسن الذي لم يدع يوما إمتيازاً بدرجة أكاديمية أو لقب علمي ليتوسل به للأوساط الثقافية والسياسية. وإنما فرض نفسه قوة وإقتداره، كمثقف من طراز رفيع عميق الرؤية. كان المؤرخ الموسوعي المصري الراحل الكبير الدكتور يونان لبيب رزق يطلق على الراحل أبوسن إسم " ملك الندوات"، كل ما قابله في محفل علمي أو خطابي، وذلك لحضوره الطاغي، وقدراته الهائلة في الحديث، ولباقته ودقته في التعبير. ونحن حين نطّلع على سيرة (أخينا) البطل المحتشدة بالكثير من الالقاب العلمية، والأكاديمية. نتساءل، هل يقبل البطل أن يضعه الناس أيضاً وبمتابعة تفصيلية في دائرة الضوء لتقصي ما هو كائن من أمره؟
على أية حال، سيذهب جفاءً كل هذا الإجحاف ومحاولات إغتيال الشخصية التي مورست وتمارس في حق أبوسن وسيبقى علي أبوسن أيقونة ساطعة للمثقف العضوي بإمتياز. وشاهد ذلك أنه رفض خيانة قضيته في صراع الديمقراطية مع الديكتاتورية، ولم يتوقف عند ذلك بل حارب من أجل إتساق سلوكه مع فكره ضد ضروريات المجاملات والنفاق الإجتماعي، ولم يثنيه عن نهجه ذاك كل ما واجهه من محن. ولعله من غرائب ما نعيشه في زمننا هذا أن يعادى أبوسن بالمزايا التي ينبغي أن تجلب له الحب والتقدير، ومن المؤسف أن يكون ذلك مدخل البعض للنيل منه وتشويه صورته! أتأمل ذلك وكأني بالراحل أبوسن يبسم في وجه هؤلاء، ومردداً مع صفي خلواته "الأستاذ" أبو الطيب المتنبي حين يقول،
أ ُعَادَى على ما يُوجبُ الحُبَّ للفَتى وَأهْدَأُ وَالأفكارُ فيّ تَجُولُ
سِوَى وَجَعِ الحُسّادِ داوِ فإنّهُ إذا حلّ في قَلْبٍ فَلَيسَ يحُولُ
وَلا تَطْمَعَنْ من حاسِدٍ في مَوَدّةٍ وَإنْ كُنْتَ تُبْديهَا لَهُ وَتُنيلُ
****


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.