وزير الصحة: فرق التحصين استطاعت ايصال ادوية لدارفور تكفى لشهرين    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غاب أبوسن ولعب أبوضنب
نشر في الراكوبة يوم 10 - 06 - 2010


أحاديث الأدب و السياسة (1)
غاب أبوسن ولعب أبوضنب
السموأل أبوسن
[email protected]
ذكر الكاتب مصطفى البطل في مقاله «أحاديث الأدب وقلة الأدب» بصحيفة الأحداث الغراء في عددها رقم 1072 بتاريخ 26 مايو 2010، أن لقاءه بالراحل علي أبوسن مؤلف كتاب «المجذوب والذكريات»، كان «لقاءً عابراً غير ذي أثر أوجبته المصادفة البحته». وعندي أن البطل كان دقيقاً جداً في وصفه لهذا اللقاء حيث لا أتوقع أن يكون لقاءه بعلي أبوسن غير لقاء عابر، وأسباب ذلك لا تغيب على ذي فطنة وأهمها أنه ليس ثمة ما يجمع بين الإثنين لا مقاماً ولا مقالاً ولا مجايلة. ليس في ذلك انتقاص من قدر البطل، أكثر من وضع الأمور في نصابها وإبعاد للندية التي حاول أن يوهم بها القارئ في مستوى العلاقة بينه و بين علي أبوسن.
وغالب تقديري أن البطل قد «تحسس» بعض الشئ مما قد يكون حسبه - والنفس أمارة بالسوء - «تجاهلاً» من علي أبوسن أوغر عليه صدره مما جعله يستطرد وينقب في أحقيته بالدرجة العلمية التي لم يدّعها أبوسن يوماً، متسائلاً عما إذا كان أبوسن قد نالها أم لا، وهو لعمري استطراد وتنقيب لا يقدم ولا يؤخر في موضوع المقال، ولا يشف إلا عن غرض كاتبه.
ومصطفى البطل الذي مدد رجليه في عتمور الجدب المعرفي الذي خلفته تركة عشرين عاماً إنقاذية ليكون من أبرز كتابنا في هذا العهد البئيس، سيتحفنا بسلسلة مقالات عن كتاب «المجذوب والذكريات» مهد لها بالرقم (1)، سيتحتم علينا قراءتها حتى نقف وقوفاً متئداً على بعض نماذج الكتابة المغرضة ونفضح دوافعها ومن وراءها.
يوحي البطل للقارئ بأنه يطلع للمرة الأولى على هذا الكتاب، فيقول في سياق تمهيده لاستخدام عبارة «قلة الأدب»، في حوار نسبه للمرحوم محمد طه محمد أحمد مع الصادق المهدي: «كانت عبارات الراحل العزيز في حواره الطريف الساخر مع حفيد المهدي هي أول ما تبادر الى ذهني وأنا (أقلّب)! صفحات كتاب الدكتور علي أبوسن (المجذوب والذكريات: أحاديث الأدب والسياسة)، الذي لا يحمل أية إشارة الى الدار التي أصدرته، إذ إنه طبع ونشر، فيما يبدو، على نفقة المؤلف ووزعت منه نسخ محدودة، ثم لم يُعد طبعه. ولعل ندرة النسخ المتداولة من هذا الكتاب هي التي حدت بالصديق المهندس حاتم شريف، الذي بعث الي بنسختيه من الجزأين الأول والثاني، فجاءتا تتهاديان فوق سماوات الدنيا الجديدة، من صحارى تكساس الى سهول منيسوتا، هي التي حدت به الى أن يأخذ عليّ العهود المُحكمة والمواثيق الغلاظ بأن أرد له كتابه، بعد أن أفلفله، وأحسن فلفلته، دون مماطلة أو التواء».
وهذا إيحاء مضلل وينطوي على كثير من التدليس وعدم الأمانة. فمن يقرأ المقال يتصور أن البطل يطلع للمرة الأولى على مؤلف الراحل علي أبوسن» المجذوب والذكريات» وهذا غير صحيح. فهل نسيَ البطل أو تناسى أنه قد استشهد بكتاب «المجذوب والذكريات» استشهاداً نيراً قبل ما يقارب العام؟ ومن عمق الكتاب إذ جاء في مقاله المنشور بصحيفة الأحداث ونقله موقع سودانايل بتاريخ 8 يوليو 2009م في مقاله (منصور خالد لا يرقص الكمبلا) الذي يتولى فيه الدفاع عن الدكتور منصور خالد مقتبساً من كتاب «المجذوب والذكريات» ومستشهداً برسائل المجذوب لعلي أبوسن قائلا:
«في واحدة من رسائله الى علي أبوسن قال المجذوب: (أنا أزعم بأن سبب الفوضى في السودان هو جهل الناس بالتاريخ، وقد زاد جهلهم به حين كتب عنه شبيكة)، «المجذوب والذكريات: أحاديث الأدب والسياسة، الجزء الأول - ص182».
فما الذي يجعل البطل يقرأ كتاب «المجذوب والذكريات» ويفيد منه بما يؤكد أهمية إيراد آراء الراحل العبقري محمد المهدي المجذوب في شأننا العام، دون أن يرى «قلة الأدب» تلك، ودون أن يشير إلى أن ثمة بالكتاب ما يخدش الحياء أو يؤذي الصديق، ثم يمر على ذلك ما يقارب العام سوّد فيه البطل الصحف (حقيقة لا مجازاً) بمقالات راتبة، سطر فيها ما سطر وكتب فيها ما كتب دون أن يكتب حرفاً واحداً عن الكتاب أو كاتبه. فما الذي جدّ، أو بالأحرى ما الذي قلّ؟ هل قلّ الأدب أم قلّت الحيلة؟ أم أن التسرب المزعج للكتاب رويداً رويداً واتساع رقعة تبادله بين الناس قد أزعج بعض المتضررين فأوحوا إلى البطل لينال من صاحب الذكريات ببعض سهامهم وما علق في نفوسهم!
ليت البطل يدري أن الراحل علي أبوسن ما كان ليضيره أن يطلق عليه أحدهم ما يطلق من الكلام المرسل، وما كان سيحفل بمثل الإطلاقات المجانية خصوصاً من «المحرشين» وقد اعتاد عليهم، لم يزعجه يوماً لا الفيل ولا ظله. فقد نذر حياته لصدق نادر، واتساق فريد بين الكلمة والموقف، وشجاعة كانت مثار إعجاب الكثيرين ودفع ثمن كل ذلك حياً وميتا. كتب عنه الدكتور عبد السلام نور الدين، الذي عرف باستقامة الرأي واستقلاله، وشجاعة هي الأخرى قادته إلى دياسبورا وجدها أرحم كثيراً من تيه النفاق السياسي الراهن، قال د. نور الدين عن أبوسن:
((إن شخصية ومأساة الأديب والكاتب الراحل علي أبوسن جد مركبة إذ لا تسمح له طبيعته البدوية الارستقراطية أن يكون أقل من حسن ظنه بنفسه لذا لم يلق بنفسه في حبائل مؤسسة الدولة المصرية، ولم يتمرغ يوماً في معاطن الانتهازية السودانية، ولم يصادق يوماً عدواً له مبرراً ان ذلك من نكد الدنيا عليه. ولم يك باحثاً عبر السياسة والعمل العام عن خلاص فردي أو شخصي له)) انتهى كلام الدكتور عبد السلام نور الدين. ولعمري إن د. عبد السلام قد لخص أهم مفاتح شخصية علي أبوسن بهذه الأسطر التي سجلها بتلقائية وهو يرثي الراحل رثاء من يعرف قدر نفسه وأقدار الرجال.
نعود لنقول، راهن علي أبوسن على اتساقه الداخلي ورثى للاضطراب البين في شخصية البعض من المثقفين السودانيين، ذلك البعض الذي وصفه في كتابه بأنه «ضعيف جداً أمام إغراءات السلطة، مسفُُ في أفانين التسلق و»المحلسة».
يقول البطل الذي يذكر أنه كان حاضراً (ضمن آخرين) مؤتمر القمة الأفريقي الذي عقد في العام 1986م، بأديس أبابا، إنه لم يكن له علم بالصفة التي أتت بعلي أبوسن إلى هناك! ورغم أن معلومة كتلك كانت مبذولة لمن يريدها ولا تتطلب جهداً كبيراً، لكن الواقع أن البطل كان في شغل بإثارة السؤال نفسه عن الإجابة، لا لشئ إلا ليوحي بأن ليس ثمة ما يبرر وجود أبوسن في ذلك المؤتمر، ولن نتساءل، لماذا، لأننا كما أسلفنا أن الغرض مرض.
كنت أتوقع ممن يكتب بهذه الطمأنينة عن شخصية بالغة التعقيد مثل شخصية علي أبوسن، أن يلم ببعض المعلومات البديهية عنه. فعلي أبوسن كان من الخبراء في الشؤون الأفريقية منذ وقت مبكر. وهو المؤسس (حقيقة لا مجازاً) للإدارة الأفريقية بالجامعة العربية، ومهندس أول مؤتمر قمة عربي أفريقي من خلال عمله المباشر مع الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية الراحل محمود رياض. وقد قدم أبوسن للجامعة العربية آنئذ أول خارطة طريق لسبر أغوار العلاقات العربية الأفريقية عبر الكتاب الذي أصدره مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية بعنوان «العرب وتحديات الحوار مع أفريقيا». عمل مستشاراً للمصرف العربي الأفريقي بالخرطوم حتى انقلاب الإنقاذ، حيث غادر السودان لمصر، ليساهم في انطلاق العمل المعارض وكان له شرف المشاركة في إعداد وإذاعة أول بيان للمعارضة من الخارج من خلال موقعه كناطق رسمي باسمها. كان خلال كل ذلك ناشطاً في التأسيس لفلسفة جديدة تقوم عليها العلاقات العربية الأفريقية بعيداً عن مخططات الهيمنة الإستعمارية التي كان يرى أنها تسعى لحفر أخاديد لفصل أفريقيا عن محيطها العربي. فهل غابت معلومات بديهية كهذه عن البطل الذي يبدو أنه كان متابعاً جيداً لعلي أبوسن لدرجة معرفة عنوان سكنه في القاهرة ومتابعاً انتقالاته في مصر حتى انتقاله الأخير للرفيق الأعلى ودفنه بمقبرة المنارة، وليس المنيرة، بالإسكندرية!
على أية حال تلك كانت صفة علي أبوسن حين يحضر أي محفل يتناول الشأن الأفريقي العربي، فليت البطل أخبرنا عن الصفة التي أتت به هو إلى ذلك المؤتمر، قبل أن يسهب في السؤال عن البديهيات وإطلاق المرسل والمجاني من الكلام.
يقول البطل الذي أفرزه الراهن السوداني ككاتب (كبير)، أنه (نظر)! في كتاب علي أبوسن فوجده، «يجمع بين الأدب وقلته! مثلما جمعت مقالات الراحل محمد طه محمد أحمد بين القيمتين. أوقفنا المؤلف على قدرته الأدبية الرفيعة، كما أشهدنا في ذات الوقت على (قلة أدبه)» هكذا!
وبرغم صعوبة المقارنة في السياق والمضمون بين الاثنين نقول إن «قلة الأدب» التي أطلقتها كوصف لعلي أبوسن يا «بطل»، هي حكم قيمة ما في ذلك شك، وحكم القيمة ينطوي على مفهومِ مطلقهِ أكثر من عكسه لواقع معين. وإذا الأمر كذلك ليتك تخبرنا أي الشُرف أطللت منها على «قلة أدب» علي أبوسن؟ وبعين من الساخطين عليه رأيته؟ ثم نتساءل عن معايير «قلة الأدب» التي تفرد بها علي أبوسن، وسمحت لل»بطل» «المؤدب» أن يجلده بسياط غلاظ وأن ينصب نفسه حارساً للأخلاق يقيم أحكامه في من يخالف نسقه الفريد في تقييم الأخلاقي واللا أخلاقي.
نقول إنه ربما فتح شهية البطل «المحرَّش»، للنيل من الراحل علي أبوسن، هو لجوء الأخير، الذي كان يقف وحيداً على مسافة من كل مراكز القوى في المعادلة السياسية والثقافية في السودان، في مذكراته للكتابة المفتوحة عن نفسه وعن الآخرين دون أية قيود.
المذكرات نوع من الكتابة الصعبة بطبيعتها، لأنه لا أحد سيكتب مذكراته في محيط معزول، ولأن حياة الفرد هي سلسلة طويلة من التجارب تتكامل في منظومة واحدة هي الذاكرة، وهي بطبيعتها تتشكل من خلال احتكاك الفرد وتجاربه مع الآخرين، والفرق دائماً في أدب المذكرات بين كتابة وأخرى هو في درجة البلاغة والوضوح وتحريك الكامن والمستتر والغرائبي والفريد والملفت، وفي إعادة إنتاج ما يمر بالكاتب من حوادث الدنيا وأحاديثها. كثيرون كتبوا مذكراتهم ومرت بلا حادث ولا حديث. وقليلون هم من حركت كتاباتهم الواقع حولهم وحفزت لتغييره. الفيصل في ذلك هو مقدرة الكاتب على التعبير وتحمله لنتائج ما يكتب وكم كان عليٌ قميناً بذلك وواجه أساطين السياسة والمجتمع السوداني ودفع ثمن ذلك ما دفع من التهميش والتشويه ومحاولات اغتيال الشخصية. وفي كتابة المذكرات، من الطبيعي أن يخلق الكاتب حالة من الجدل حول ما كتبه وحول مدى أحقيته في نشر رسائل أو معلومات عن غيره ويتحول بذاته لمادة تتضارب حولها الآراءControversial . فعلي أبوسن لم يكن أول من نشر رسائل في مذكراته هذا تقليد تليد تكرر كثيراً في التاريخ وقد أفادت منه البشرية كثيراً، ومجتمعنا لم يكن استثناءً.
لم يستوعب البطل للأسف الشديد، الإشارة الذكية للناقد الفذ الصديق العزيز عبد المنعم عجب الفيا، الذي كان من أوائل من كتبوا عن «المجذوب والذكريات»، كتابة جزلة تعامل فيها مع الكتاب بجدية تامة ككتاب مذكرات وقرأه في هذا السياق وسبر أغوار العميق والملغز والمعقد فيه، وذهب في تحليل عميق للونية الكتابة التي دمجت في بعض أجزاء الكتاب بين الكاتب وشخصية مصطفى سعيد الروائية، في رواية «موسم الهجرة للشمال» للراحل الطيب صالح. لم يتنبه البطل لقول عجب الفيا حين ذكر:
«أما عنصر الإثارة في الكتاب فيأتي من الصراحة التي تصل الى حد التجريح، والحديث عن الذات باعتداد وثقة غير مألوفة، والكشف عن جوانب لم تكن معروفة في حياة المشاهير من رموز التاريخ والسياسة والأدب. ثم أضاف: (وأظن أن هذه الجرأة وهذه الصراحة المتناهية في الحديث عن الذات والآخرين هي الثغرة التي ستنفذ منها سهام النقد والهجوم على المؤلف».
فهل كان الفيا نفسه عاجزاً عن قول الكلام السهل المرسل من شاكلة «قلة الأدب» ونحوها، أم أنه آثر نوعاً من التعامل الذكي مع المسائل الخلافية في أدب المذكرات. لم يسعف البطل ذكاؤه وحسه العام، لاستيعاب حساسية الأمر رغم إشارة الفيا الواضحة، ولكن أنى لصاحب الغرض ذلك؟! يقول «البطل» بعنترية وعدم اكتراث يحسد عليهما: «لن أخيب للفيا رجاءه (هكذا) ولن أبطل توقعه – هكذا وكأن الفيا قد ترجاه ليفعل! - يقول: «بل أنفذ من خلال «الثغرة» المزعومة لأتعامل مع ما يسميه هو - أي الفيا - «الجرأة والصراحة المتناهية»، وأميل أنا الى تسميته «قلة الأدب« .
نتساءل وما الذي يعصم قولك هذا يا «بطل» آخر الزمان من وصفه بالوقاحة والإسفاف وقلة الأدب الصراح؟
من المؤسف جداً أن يميل مثل البطل الذي تحمل سيرته الذاتيه الكثير من الألقاب، إلى مثل هذه الشتيمة الصريحة في نفس الوقت الذي يقيم فيه كل حيثيته على أحكام قيمة لا ثابت فيها غير نسبيتها. لن ندخل في مزايدة مسفَّة في سوق الشتائم هذا رغم سهولته وفرادة القاموس العربي فيه، فذلك مدخل لن نسمح لأنفسنا بمجاراة ال»بطل» فيه. ولكننا نعجب لمن يحرص على أدنى قدر من المصداقية أن يستسهل هذا الولوغ في الشتيمة والإطلاقات! ذاك لعمري ضرب من العوار أو (العوارة) بكلامنا الدارجي. قال فيه الشاعر:
«لا تشتمن عرضي فداك أبي.. فإنما الشتم للقوم العواوير».
يمارس البطل أعلى درجات نفاق المثقف وعلى رؤوس الأشهاد. فبالأمس يتكئ على الكتاب ليستشهد بما يتباكى اليوم على نشره. ويستعين ببعض مضمون الكتاب في حرب الوكالة التي يديرها إنابة عن البعض ويعود بعد عام ليدين عين ما استشهد به دون أن يرف له جفن. فتحت أي مبرر يمكن أن نضع مثل هذا السلوك المضطرب؟
يكتب البطل في مقال حواري له مع الكاتب الصحفي الأستاذ فتحي الضو: (إلا أن هناك خلاف بيّن في الرؤى، عند تشخيص الهم الوطني، بيني وبين صاحبي. إذ بدا لي من خلال متابعة متأنية مستطردة لإسهاماته ككاتب قيادي خلال العامين المنصرمين أن فتحي، الذي كتب في الماضي كتاباً كاملاً عنوانه (محنة النخبة السودانية)، أصبح يرى أن محنة السودان في حاضرها تبدأ وتنتهي عند الحركة الإسلامية و(العصبة ذوي البأس) من رجالها. والفقير لربه يرى أن محنة السودان تبدأ وتنتهي عند مثقفيه ومتعلميه وفي طليعتهم من يُفترض أنهم قادة الرأي والفكر ومهندسو الحراك السياسي والثقافي بين قواه المدنية بشكل عام، وأن عجز هذه القوى وخبالها، وأخشى أن أقول هشاشة النسيج الخلقي في قماشتها، وتفشي الروح الانتهازية بين صفوفها هو الذي قاد السودان إلى مشهده الراهن).
فهل غادر بعض مثقفينا من متردم (الهشاشة والعجز وروح الانتهازية) واهتبال السوانح، ضاربين بكل قيم الرصانة والتحقق والتريث وصدق الدافع عرض الحائط؟! كم كان حرياً بالبطل أن يضم نفسه لتلك الزمرة من المثقفين الذين عاب عليهم هشاشة الأخلاق والروح الانتهازية وغيرها من المثالب.
ثم نأتي للمضحك المبكي في نقد البطل لما حمله كتاب «المجذوب والذكريات»، بقوله (إن المسؤولين عن تحرير الصحف عندما يقعون على مثله فإنهم يؤشرون عليه بالقلم الأحمر بلا تردد و بغير إبطاء «لا يصلح للنشر»)! ألا يستحي هذا «البطل»؟ ليستشهد على صدق كتابه بقلم الرقيب الصحافي سئ السمعة لتعضيد باطله؟ وهل يظن أنه كانت ضمن أولويات الراحل علي أبوسن أن يتعطّف عليه رقيب النشر الصحافي، بعطية المزين هذه؟ ثم متى كان قبول النشر الصحفي أو رفضه معياراً لتمييز الجيد عن الردئ في الكتابة؟ هل يخفى على البطل الكم الهائل من تراث الإنسانية القيم الذي تم حجبه عن الصحافة بذات القلم الأحمر؟؟
فلتهنأ أنت يا «بطل» باحتفاء مقص الرقيب بمقالاتك الحماسية، فذاك شنٌ وافق طبقه. أما علي أبوسن فقد بصق على النفاق بكافة أشكاله، ولا عزاء عنده لأصحاب الأجندة الخفية والممسكين بالعصا من المنتصف.
يتبع...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.