مواصلة عرض كتاب: (تاريخ دار مساليت 1870 – 1930م: العقيدة المهدوية والتقاليد السودانوية) لمؤلفته: بروفيسور/ ليدوين كابتجنز **** السلطان أبكر إسماعيل (1888 – 1905م) سلطان بلا منازع تبدأ المؤلفة تناولها لعهد السلطان أبكر إسماعيل بأنه، مثل السلاطين السودانويين الآخرين، جمع ما بين مجموعتين من الانتماءات الأيديولوجية،وهما الإسلام الذي أعطى حكمه سمته الأساسية من ناحية، والتقاليد السودانوية (Sudanic Traditions) من الناحية الأخرى، خاصة في تحديدها للعلاقة بين الحاكم ورعاياه. فبينما قدمت سلطنة المساليت نفسها لجيرانها على أنها دولة مهدوية مصغرة، إلا أنها كانت منظمة داخلياً كدولة سودانوية على نمط سلطنة كيرا (دارفور). وفي الوقت الذي كان فيه هجام حسب الله ممثلاً للنظام التركي المصري، وإسماعيل عبد النبي عاملاً لدولة المهدية، كان أبكر سلطاناً كاملاً بمكانة مساوية للسلاطين في السلطنات المجاورة (وإن كان في مكانة أقل من السلطان في سلطنة وداي). ولقد عزز السلطان أبكر من سلطته بانتهاجه الأسس التي أرساها والده إسماعيل؛ وجعل من نفسه سلطاناً بلا منازع، وذلك من خلال أربع وسائل: - بانتهاجه النمط التقليدي للممالك السودانوية، والتي تمثلها سلطنة كيرا (دارفور). - بإنشائه لطبقة حاكمة جديدة ، وتأسيسه لشبكة من التقسيمات الإدارية. - من خلال تأسيسه لجيش محترف من (العبيد)، يضمن له تفوق الدولة من ناحية، ويقلل من اعتماده الكامل على رجال الطبقة الحاكمة من الناحية الأخرى. - ممارسته السيطرة على التجارة الخارجية لدار مساليت. وعلى النقيض من والده إسماعيل، يذكر الناس أبكر كسلطان متعجرف وحاد المزاج وقاسي. فبينما كان في بداية عهده إنساناً لصيقاً بالناس بمختلف رتبهم الاجتماعية، وكانوا يحبونه ويستقبلونه دائماً بعبارات الود والترحاب، إلا أنه مع مرور الزمن غير من ذلك النهج؛ وأصبح يلوذ بقصره (الدانقة – وهي مبنى من الطين من طابقين)، يطل منه على عاصمة سلطنته وما حولها. ولقد أتخذ أبكر كامل المظاهر الخارجية للسلطان، بما في ذلك إبقائه على فئة الموظفين الذين يرتبطون تقليدياً بالسلاطين، واستخدامه للنحاس (والذي غنمه من الأنصار)، بدلاً من الجرس (مندكورا) الذي كان مستخدماً في عهد والده إسماعيل. لم يشتمل قصر السلطان أبكر فقط على (الدانقة)، والتي هي على نمط القصور في الحزام السودانوي (Sudanic Belt) الشرقي، بل كانت ملحقة بالقصر أجنحة منفصلة للرجال وللنساء، مثلما كان سائداً في بلاط سلاطين الفور في الفاشر. وكان للسلطان أبكر عدد كبير من الزوجات ومن ملك اليمين (حاز على عدد منهن من الفاشر إثر حملته على الأنصار). رجال الحكم وكان السلطان أبكر محاطاً بعدد من المسئولين من حملة الألقاب الرفيعة. ويأتي على رأسهم الوزيز، والذي هو في تقاليد دار مساليت الذي ينصح السلطان في الشئون العسكرية، ويتولى القيادة عند الحرب. وله أيضاً عدد من الأمناء، وهم من موظفي وخدم البلاط الموثوق بهم والمقربين. لم تكن لهؤلاء الأمناء مهام محددة؛ فهم يؤدون خدمات متنوعة في القصر، مثل تكليفهم بتوصيل الرسائل وغير ذلك من المهام. لكن أهمية هؤلاء الأمناء أنهم يمثلون رمزاً من رموز السلطة. كان السلطان أبكر مدركاً لأن الدولة بحكم وظائفها ومهامها تحتاج إلى وجود طبقة من رجال الحكم، وأن وضع القواعد الأساسية للسلطنة يتطلب تكوين هذه الطبقة. غير أن هذا النظام المركزي الجديد يختلف في أوجه كثيرة عن نظام المساليت التقليدي (الملوكية والفرشة). مع نشوء السلطنة اقتصر استخدام لقب (باسنقا) أولاً على المقربين من أهل إسماعيل (أشقاؤه وأعمامه)؛ وامتد استخدام اللقب ثانياً للمنحدرين من سلالة الحكام التقليديين الآخرين. كما استخدم لقب (باسي) للأفراد الذين أصبحوا على صلة وثيقة بالسلطان دون أن يكونوا من أهله المقربين. الجهدية العنصر الثالث في سياسة السلطان أبكر الرامية لتقوية ومركزية سلطنته كان استخدامه (الجهدية)، والذين هم الجنود من (العبيد) ذوي المهارة في استخدام السلاح الناري. ولم يكن السلاح الناري و(العبيد) الذين لديهم الخبرة في استخدامه من الظواهر الجديدة في ذلك الوقت في دار مساليت. حتى الفترة التي استولى فيها المساليت على كميات كبيرة من السلاح الناري ومن (العبيد) أثناء حروبهم في ذلك العقد (تسعينات القرن التاسع عشر)، لم يكن لهم كيان من المحترفين للجندية. كان الجزء الرئيسي من (جهدية) السلطان أبكر من الجنود الذين استبقى عليهم بعد طرد حامية المهدية من دار مساليت. في البداية عمل هؤلاء (الجهدية) كحراس شخصيين للسلطان أبكر. كأداة من أدوات السياسة الخارجية لم تكن (للجهدية) أهمية كبيرة؛ حيث أنه في حالات الحرب كان المحاربون المشاة من المساليت يفوقونهم عددا، وكان الخيالة من نبلاء المساليت يفوقونهم أهمية. كانت أهميتهم الكبرى تكمن في كونهم أداة من أدوات السياسة الداخلية. فبما أن السلطان يعيش في (درجيل)، ويدير البلاد من العاصمة، فإن المقاديم (مفردها مقدوم) والذين كان يتم اختيارهم من (الجهدية)، كانوا هم الذين يمثلونه كوكلاء له في المناطق الأخرى. غير أن المساليت قد ضاقوا بهم، نظراً للسلطات الكبيرة التي منحها السلطان أبكر لهم. وبشكل خاص ضاق بهم أفراد قبيلة السلطان، الذين أحسوا بأن السلطان لا يريد إشراكهم في السلطة، وأنه بدأ يخالف سياسة والده السلطان إسماعيل الذي كان يخصهم بمواقع مؤثرة في الحكم. التجارة الخارجية العنصر الرابع من سياسة السلطان أبكر الرامية إلى تقوية سلطة الدولة، كان بسط سيطرته على التجارة الخارجية، والتي كانت تشكل مجالاً اقتصادياً منفصلاً، وهي كانت بشكل عام تحت سيطرة الدولة في جميع أنحاء الحزام السودانوي الشرقي، كما يؤكد ذلك تطور التجارة في سلطنة المساليت في عقد التسعينات (من القرن التاسع عشر). فالمساليت في عهد سلطنة دارفور لم يكونوا مشاركين في التجارة عبر الطريق الرئيسي بين سلطنتي (وداي) ودارفور، والذي يمر بشمال ديارهم. لكن مع نشوء سلطنة المساليت تغير ذلك الحال؛ ففي عهد السلطان إسماعيل والسلطان أبكر أصبحت العاصمة الجديدة (درجيل) مركزاً للتجارة عبر المسافات البعيدة. وحيث أن الثورة المهدية كانت قد أثرت على انسياب التجارة بين مصر ودارفور، وبين دارفور ووداي (تشاد)، فقد أصبحت (درجيل) هي المحطة الطرفية الجنوبية للتجارة عبر الطريق الصحراوي من بنغازي. كانت سيطرة السلطان على التجارة الخارجية نابعة من حاجته لمنتجاتها من أجل بلاطه، ومن أجل إشباع حاجات رجال الطبقة الحاكمة؛ ومن مقدرته على تكوين كميات كافية من سلع التصدير المرغوبة؛ ومن استطاعته على توفير الحماية التي يطلبها التجار من الفزان والجلابة . ولم يكن في مقدور أي قافلة الدخول لدار مساليت دون إذنه. كانت معظم السلع الأجنبية تباع في (درجيل) مقابل العاج وريش النعام وقرن وحيد القرن والجلود. وقد أسهمت محدودية سلع التصدير في السيطرة على التجارة. ****** Abdelmoneim Khalifa [[email protected]] \\\\\\\\