من خلال متابعتنا للمتغيرات السياسية على الصعيد العالمي رصدنا ملامح السياسات الخاصة بما يعرف بالشرق أوسطية الجديدة والتي كان يعتقد بعض الناس أنها لا تعدو كونها مجرد تصورات أو أحلام غربية ، وسنحاول التركيز هنا على ما يخصنا نحن أهل السودان مع التطرق لبعض دول المنطقة العربية التي دون شك تؤثر فينا ونتأثر بها . برزت في مناطق الشرق أوسط بعد الانهيار الكبير الذي حدث في منظومة العلاقات الرسمية العربية –عربية وأدى إلى ظهور تيارين أطلق عليهما (دول الاعتدال ودول الممانعة ) فالدول المعتدلة قد دخلت أو إن صح التعبير أدخلت في منظومة معقدة من العلاقات مع الغرب بحكم ارتباط المصالح فالدول الخليجية على وجه التحديد تجدولت مصالحها مع الدول الغربية إلى درجة أنها تتأثر بما يؤثر في تلك الدول ولعل ما حدث من انهيار اقتصادي في العالم الغربي قد ظهرت أعراضه سريعا في الدول الخليجية على الرغم من محاولات التعتيم الإعلامي لإخفاء حقيقة الأثر ولكنها تظل محاولة غير موفقة ،وما تتناوله التقارير الاقتصادية الصادرة عن بعض البلدان الخليجية يوضح حجم الكارثة ، فبعض البلدان اضطرت إلى إيقاف العديد من المشروعات وخاصة تلك المرتبطة بالتطور العمراني وسوق العقارات وقد يستغرب البعض وجود مصر في هذا المعسكر المرتبط بالغرب بحكم دورها الطليعي في المنطقة العربية كأكبر قوة بشرية وإقليمية . إلى جانب موقعها القيادي للأمة العربية والتي يصفها البعض بالشقيق الأكبر .ونرى أن مصر فرض عليها هذا الموقف فرضا ولم يعد لها خيارا أخر بحكم ارتباطها اقتصاديا وسياسيا بأمريكا التي تقدم دعما سنويا يقدر بالمليارات إلى جانب تحكمها في أكل عيش الشعب المصري ،من القمح الامريكى . وإذا أرادت مصر أن تخرج عن هذه المنظومة وترجع إلى سابق عهدها لابد من إيجاد بدائل منطقية تسد العجز الذي ينتج من وقف المعونات الأمريكية .فالمعونة الأمريكية رضينا أم أبينا تدفع نظير مواقف أو خدمات ولا اعتقد أن الدول العربية يمكن أن تسدد تلك الفاتورة الباهظة أو أن الغرب يسمح لها بذلك أن أرادت .لأنه قد عانى من الدور المصري في فترة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ومنهجه الرامي إلى وحدة العرب ،ودعم حركات التحرر الأفريقية وتكوين معسكر دول عدم الانحياز الخ ولسنا بصدد الحديث عن صوابها أم خطأها .ستظل دعوات المصالحة العربية التي تطلق الآن من هنا وهناك مجرد دعوات وامانى لا يمكن أن تصل إلى مرحلة المشروع الاستراتيجي .فجميع الشعوب العربية تتمنى أن تتوحد إرادتها وتزال كل العقبات والمتاريس من أمام تحقيق أحلامها .إلا أن الغرب وفق مشروع الشرق الأوسطية الجديدة والذي تنطلق فكرته المبسطة من التقسيم والتجزئة قد فرض واقعا جديدا . ليس بالبساطة تجاوزه أو التخلص منه .لان الأمر يتطلب مشروع إصلاح شامل لكل المؤسسات العربية وفى مقدمتها الجامعة العربية والتي تنطلق من رؤى وميثاق تجاوزه الزمن ولم يعد مواكبا للمتغيرات التي طرأت في كل الأصعدة الإقليمية منها والدولية، واستطاعت بعض القوى الإقليمية أن تظهر على حساب الدول العربية وتتحول إلى أرقام صعبة لا يمكن تجاوزها فإيران وتركيا وإسرائيل قد أصبح لهما الأثر الفعال في رسم سياسات المنطقة . فالنفوذ الايرانى المتدثر بالثورة الإسلامية والداعي إلى مجابهة السياسات الأمريكيةوالغربية والحد من نفوذها في المنطقة والذي برز جليا من خلال أحداث حزب الله في جنوب لبنان وأحداث غزة الأخيرة في مواجهة اعتي قوة في منطقة الشرق الأوسط ظلت على تفوقها وإلحاق الهزائم بالجيوش العربية منذ نشأتها ككيان مغتصب عبر الرعاية الغربية والدعم الأمريكي غير المحدود عبر التاريخ ، حتى أصبح العرب يعتبرون أن هزيمة إسرائيل أمر مستحيل مما ولد إحباطا ودفع البعض للتعاطي مع إسرائيل كأمر واقع بما في ذلك منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني كما يقولون . فالأحداث الأخيرة في جنوب لبنان وغزة قد أعادت للشعوب العربية بعض الثقة المفقودة وأظهرت لهم إن المقاومة هي السبيل الأوحد لرد المظالم،و تغيرت النظرة نحو إيران وأصبحت محل تقدير في الشارع العربي وهو موقف أزعج الأنظمة الرسمية بكل ألوان طيفها وبصورة واضحة أنظمة الاعتدال. وأبان للغرب المخاطر الحقيقية التي تواجه مشروع الشرق الأوسط الجديد . وان مشروع المقاومة المدعوم إيرانيا قد يشكل خطرا حقيقيا ،من خلال فضحه وإحراجه للنظام العربي الرسمي الذي بانت عورته .وعدم مقدرته على اتخاذ موقف موحد عبر الجامعة العربية ( التي لم تتعدى بياناتها الختامية عبارات الشجب والإدانة ) فتغير الموقف الغربي وظهرت خطط جديدة تهدف إلى القضاء على مشروع المقاومة ومحاصرته وتحيد إيران التي تعمل على امتلاك الرادع النووي عبر برنامجها المعلن والذي حاول الغرب ومازال يحاول إرغامها على التخلي عنه .ونعتقد إن التصريحات التي أطلقت مؤخرا من بعض الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا عن رغبتها في التفاوض مع إيران وسوريا يدل على أن هناك مساومات ما ستحدث بغرض تحييد مواقف هذه الدول والجماعات التي تدور في فلكها أو أن صح التعبير تتسق مع سياستها لأنها أصبحت تشكل خطرا على الوجود الاسرائيلى وتفوقه من جهة ومشروع الشرق الأوسط الجديد من جهة أخرى . فإيران قد أثبتت للغرب على أنها رقم يصعب تجاوزه وأنها تملك العديد من أوراق اللعب في العراق وفى أفغانستان كساحات مواجهة أرهقت كاهل الدول الغربية ماديا ومعنويا وكانت سببا مباشرا في الأزمة المالية العالمية التي تحولت إلى كابوسا مرعبا وأطاحت بالعديد من المؤسسات المالية العريقة ولازالت أثارها تمتد إلى الجميع بلا استثناء . وعلى اثر ذلك انتفضت تركيا أردوغان ليكون لها نصيب في الكعكة .ولم يقف خطها العلماني الذي اختطه أتاتورك ورغبتها في الانضمام إلى الاتحاد الاوربى إلى جانب عضويتها في الناتو والاتفاقيات الاستراتيجية التي تربطها بإسرائيل . كل تلك الأوراق استخدمتها في الوقت المناسب لتحجز لنفسها موقعا متقدما في المنطقة وتنال حظها من الكعكة .كما يضاف لها أنها تحولت إلى قوة اقتصادية صاعدة فمنتجاتها الصناعية وشركاتها المتعددة تنتشر في العديد من بقاع العالم .وهو حق مشروع بحكم المنطق السياسي القائم على مبدأ صراع المصالح . أن الواقع العربي الراهن يجعله عرضه للوقوع للعديد من المألات وأولها المزيد من التقسيمات تتعدى التقسيم الجغرافي ( الافريقى -الاسيوى) فالدول العربية الآسيوية الخليجية لم تصبح على سابق عهدها ولم تعد المملكة العربية السعودية هي المحور الذي تدور في فلكه دول التعاون الخليجي ، وقد برز ذلك بوضوح في أزمة غزة وتعدد المبادرات وغياب بعض الدول الأعضاء عن الاجتماعات الخاصة بمجلس التعاون أو تلك التفاكرية .ما لم يحدث في السابق.والدول العربية الآسيوية الأخرى . فالعراق يرزح تحت الاحتلال ودمرت كل قدراته وشعبه يسعى للخلاص من الاحتلال ، وسوريا ولبنان زرع بينهما خصام لا يعلم احد منتهاه .والبقية الباقية كل له من الهموم والمشاكل ما يكفيه، أما الدول العربية في أفريقيا فحالها ليس بأفضل من الآسيويين .فاتحاد المغرب العربي الذي يضم مجموعة من الدول المغاربية ( موريتانيا وتونس وليبيا والجزائر والمغرب ) قد غرق في أوحال الخلافات كالخلاف المغربي الجزائري حول الصحراء الغربية واتهام المغرب للجزائر بدعمها لجبهة البوليساريو التي تسعى إلى إقامة دولة وقفل الحدود الفاصلة بين الجارين .ودخول بعض الأعضاء في المنظومة المتوسطية التي تهدف للقضاء على هذا الاتحاد . وليبيا بعد أن خاضت العديد من التجارب وأطلقت العديد من الدعوات الهادفة للاتحاد والاندماج السياسي وساهمت عبر محاولات عديدة أطلقها الزعيم معمر القذافى إلى لم شمل العرب .وجمع كلمتهم .وحينما لم تجد دعواته استجابة قرر أن يتجه نحو الأفارقة ردا لجميلهم ومواقفهم الداعمة لشعبة في فك الحصار. ذاك الحصار الذي طبقة العرب حرفيا بكل أسف مما خلف لدى الشعب الليبي العديد من المرارات . ووجدت دعوات العقيد القذافى وأفكاره قبولا وتجاوبا في أوساط الأفارقة وساهمت في وضع اللبنات الأساسية لتشييد صرح الاتحاد الافريقى.وخرجت ليبيا من الحصار الغربي أكثر قوة وأصبحت رقما في القارة الأفريقية والمجتمع الدولي ، خاصة بعد أن دخلت مع الدول الغربية في تفاهمات وتسويات للعديد من الملفات العالقة .وفقد الغرب كل أوراقه أما بقية الدول العربية الأفريقية فالصومال تطحنة الصراعات وحروب الفرقاء حول السلطة ، وماياتى معارض ويستلم سدة الحكم إلا وتظهر معارضه له في نفس يوم تسلمه .فالتهم عندهم جاهزة والولاء للغرب هي أبرزها .وقد يكونوا محقين في ذلك إلا أن الواضح للعيان بان الدولة قدر لها أن تدور في فلك ما يعرف بالفوضى الخلاقة .ذلك المنتج الامريكى الجديد ، وكتب لهم عدم الاستقرار ضمن استراتيجية بوش في مكافحة الإرهاب وتعقب أثار القاعدة ومعاقبة كل دولة دخلها أسامة بن لادن مقيما كان أو عابرا وخلاصة الأمر نتوصل إلى تحليل عام دون الغوص في تفاصيله الدقيقة والتي دون شك تحتاج إلى جهد كبير من المفترض إن تقوم به مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية لتكون معينا للساسة في رسم سياستهم والتي ظلت تنطلق من عديم معرفة ودراية ببواطن الأمور مما انعكس سلبا على حياتنا ومستقبل أجيالنا .فساستنا يعملون بمنطق رزق اليوم باليوم .ومراكزنا التي نطلق عليها الاستراتيجية هي بكل أسف لا تشبه مراكز الغرب في شيء وتفتقر لأبسط المقومات المادية .فالمفكرون أمام خيارين أما السير في ركب السلطان ، أو الهجرة لبلاد الله الواسعة طوعا أو كرها .وفى ظل غياب التخطيط والمنهجية وانعدام الشفافية وأعمال سياسات الكبت ومصادرة الحريات. الوضع مفتوحا لكل الاحتمالات .