توفي يوم الاثنين الماضي عن 85 عاماًُ الاسترالي ديفيد وارن Davin Warren مخترع جهاز تسجيل بيانات الطائرة، أو ما يُعرف بالصندوق الاسود Black Box. وكانت فكرة هذا الجهاز قد داعبت مُخيّلة الفتى ديفيد وارن عندما كان في الثامنة من عمره وذلك عقب مقتل والده في حادث تحطم طائرة. كان وارن يعمل قبل تقاعده باحثاً في برنامج بحوث الفضاء التابع للحكومة الاسترالية. ويروي وارن أنه انجز جهازه في وجه عاصفة من السخرية والتشكيك. لكن الجهاز برهن لاحقا على قدرته على أداء المهمة التي ظن وارن انه قادر على أدائها وهي: تسجيل أحاديث ونقاشات ملاحي الطائرة وبيانات أجهزة الطائرة في آن واحد. واليوم ما أن يقع حادث تحطم طائرة حتى تُهرع سلطات الطيران إلى مكان الحادث للعثور على الصندوق الاسود—المُصمم بطريقة تضمن له السلامة من الاحتراق والتحطم—وذلك لمعرفة ما جرى داخل الطائرة قبل دقائق من تحطّمها. هذا وُيستفاد من بيانات الصندوق الاسود في معرفة أسباب حوادث الطائرات ولعمل احتياطات للحؤول دون وقوع نفس المشكلات مستقبلا. وكان معهد الكهرباء والاليكترونيات الاسترالي قد أعترف لديفيد وارن ببراءة اختراع الصندوق الاسود، وتبعت المعهد في هذا الاعتراف مؤسسات علمية أخرى متخصصة. إلا أن ديفيد وارن ظل مصراً على القول بأنه ليس هو الشخص الذي اخترع الجهاز، معللا هذا الاصرار بقوله أن الصندوق الذي اخترعه كان مطليّاً باللون الاحمر وليس الاسود. هذا ولم تكن قصة اختراع وارن للصندوق الاسود سارّة كلها. فقد وُوجِهت فكرته في البداية بانتقادات حادة وسخرية شديدة. إذ كان رؤساؤه يقولون له ان فكرته ليست عملية، وأنه لو كان اختراعه ذا قيمة لما سبق إليه الامريكيين. كما وصفت سلطات الطيران الاسترالية الفكرة بأنها خالية من أي "قيمة فورية". وأما الجيش الاسترالي فقد تندّر بالقول بأن الصندوق سيدوّن سيلاً من السباب والشتائم عِوض أن يحتوي على أي توضيحات. أما اتحاد الطيّارين الاستراليين فقد وصف الجهاز بأنه وسيلة خبيثة للتجسس عليهم. كما يذكر ديفيد وارن أن رئيسه المباشر في العمل قال له بالحرف الواحد: "لو ضبطّك تتحدث عن هذه الفكرة إلى أي أحد، بما في ذلك شخصي أنا، فسأطردك من العمل دون تردد" لكن فكرة الصندوق الاسود تلقت دفعة كبيرة بزيارة أحد كبار موظفي سلطات الطيران البريطانية لأستراليا. فقد أُعجِب المسؤول البريطاني بفكرة ديفيد وارن وتكفّل بنقل المخترِع جوّاً إلى بريطانيا ليعرض فكرته هناك. وكانت مصروفات السفر والاقامة في بريطانيا هي المردود المادي الوحيد الذي حصل عليه وارن من اكتشافه العظيم هذا حتى الآن. ولم يمض عامان حتى بدأ البريطانيون في وضع جهاز الصندوق الاسود داخل طائراتهم. بعد ذلك انتجت احدى الشركات الاميركية نسخة خاصة بها من الصندوق الاسود. ثم استحرّ استخدام الدول للجهاز بعد ذلك. هذا ولا يُعرَف على وجه القطع لماذا أُطلِق على اختراع ديفيد وارن اسم: الصندوق الاسود. فقد كان مصطلح "الصندوق الاسود" سائداً في ذلك الوقت في أوساط منسوبي القوات الجوية الاسترالية والذين كانوا يطلقونه على أحد أجهزة الملاحة الجوية. وُلِد وارن بجزيرة غروت إيلاندت Groote Eylandt في شمال شرقي أستراليا في مارس عام 1925. ويقال أن ديفيد وارن كان أوّل طفل أوروبي يولد في الجزيرة. وفي سن الرابعة أرسله أبوه لإحدى المدارس التي تشتمل على داخليات لسكنى الطلاب. هذا وكانت آخر هديّة تلقاها وارن من والده—قبل موته في حادث طائرة عام 1934 – هي عبارة عن راديو صغير. أحبّ وارن الهدية وشرع يقلدها ويبيع انتاجه من الراديوهات لأصدقائه. بعد ذلك التحق وارن بجامعة سدني University of Sydney وتخرّج فيها بدرجة الشرف من قسم الكيمياء، ثم نال بعد ذلك درجة الدكتوراة في الكيمياء من لندن امبيريال كوليدج. سيطرت فكرة الصندوق الاسود بقوة على عقل ديفيد وارن والذي يذكر أن عينه وقعت ذات مرّة على جهاز تسجيل ألماني بإحدى المتاجر يمتاز بالقدرة على تسجيل مكالمات بطول أربع ساعات. أقدم ديفيد وارن على شراء الجهاز الذي كان ثمنه غاليا ويساوي بسعر اليوم 15000 دولار. ومن الطريف أن زوجة وارن كانت وقتها حاملاً وفي أيامها الاخيرة، ويذكر ديفيد وارن أنها أصيبت بصدمة شديدة عندما علمت بضخامة المبلغ الذي أنفقه وارن في شراء للجهاز. هذا وللسيد ديفيد وارن مجموعة من الاختراعات العلمية المهمة الاخرى، كما أضيف أسمه إلى قائمة كبار المخترعين في العالم. ويجدر بالذكر أن ديفيد وارن لم يحصل على اي مردود مادي من اختراعه للصندوق الاسود. ويقول ديفيد وارن أنه سيرفض اي مكافأة مالية تمنحها له الحكومة على اختراعه مهما يكن حجمها وذلك لسبب بسيط هو أنه: "سيتعيّن على الحكومة أن تطلب مني أيضا تسديد فواتير كل الافكار الاخرى التي تفتّقت عنها عقول أشخاص آخرين وأستفدت أنا منها".