بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    شمس الدين كباشي يصل الفاو    لجنة تسييرية وكارثة جداوية؟!!    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    المريخ يتدرب بالصالة    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    سوق العبيد الرقمية!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صحافة الأرز بالملوخية: مصطفى البطل نموذجاً .... بقلم: مصطفى عبد العزيز البطل
نشر في سودانيل يوم 28 - 07 - 2010


[email protected]
------------------------------------------
(1)
قرأت مؤخراً مقالاً لكاتب طموح خرج يبحث لنفسه عن مكانٍ تحت الشمس، وقد عنون مقاله (صحافة التسرية والمناصحة: مصطفى البطل نموذجاً). وقد احتفى بالمقال المهندس بكري أبوبكر مدير الموقع الإلكتروني الأشهر والأكثر ذيوعاً وانتشاراً "سودانيزاونلاين" - جزاه الله خيراً - فوضعه في صدارة موقعه لأسبوعٍ كامل حتى يؤمّن له المقروئية اللائقة بين أفاضل السودانيين داخل الوطن الكبير وخارجه. لاحظت أن الكاتب حرص على تعريف القارئ بنفسه أولاً، ثم بالصنعة التي يأكل من ورائها رغيفه ثانياً، إذ أضاف بين معقوفتين بعد أن شرفنا باسمه الكريم، كلمة: (مترجم). وقد خرج الكاتب الى الناس - محتسباً - لينهض بواجب تنبيه المسلمين وأهل الكتاب الى السم المعطون في دسم كتاباتي، ويدلهم على الترياق الذي ينجيهم من شرورها. ولما كانت جميع لآلئ اللغة العربية وأصدافها قد وقفت أمام الكاتب خائبةً منكسرة حاسرة الرأس، وقد عجزت عن وصف ذلك الضرب من الكتابة الذي تمثله مقالاتي، فقد استعان الرجل مشكوراً بعددٍ مقدّر من العبارات والمصطلحات الإنجليزية، أفادنا عن بعضها أنها من مصطلحات "علم الاقتصاد الكلي"، ثم أردف كل عبارة ومصطلح بالمقابل العربي لمصلحة القراء الذين لا يجيدون اللغات الاجنبية. ولا اخفيك – أعزك الله - أنه قد سرّنى وأرضى غرورى كثيراً ان أعلم بأن نقد المقالات التى اكتبها باتت تستعصى على النبهاء، فلا يتأتى انجازها الا بالاستعانة بمصطلحات "علم الاقتصاد الكلى"!
حدث الكاتب المحتسب قومه ونصحهم بشأن مقالاتي التي وصفها بالحطة. وقد أورد الرجل لفظة "انحطاط" ست مرات في متن مادته، ثم كتب: (ينبغي التعامل معها بحذر ويقظة، فهي تدس السم في الدسم، وتتلبس لبوس المعارضة والتنوير، وهي في الواقع تكرس للقمع والتجهيل، وتصمت صمت القبور عن جرائم السلطة الغاشمة). الذي حيّرني أن الرجل سطّر في ذات مادته - دون أن يطرف له جفن - إنه يحتفظ في كمبيوتره الخاص بأرشيف كامل يحتوي على جميع مقالاتي. كتب: (من أرشيف كامل للكاتب أحتفظ به في كومبيوتري الخاص وجدت مقالتين تحت عنوان "يا إنقاذيون: الدين النصيحة" و"العبد في التزوير والرب في التدبير"، تمثلان انحرافاً معيارياً عن مقالات التسرية والإخوانيات التي تشكل القسم الأكبر من كتابات البطل). وقد وجدت بدورى في تلك الإفادة مادةً للتأمل، ففي عقيدتي أن المواد السامة والمنحطة مكانها سلال المهملات، لا أراشيف الحواسيب الخاصة. لماذا يحتفظ إنسان رشيد بأرشيف كامل لمقالات "منحطة"، و"سامة"، فيخنق بها حاسوبه خنقاً؟!
(2)
قلنا أن ذلك الرجل لم يكن الوحيد من أهل الحسبة، الذين أخذوا على عواتقهم مهمة تنبيه الخلق الى المنكرات في مقالاتي، وتصدروا لقضية إرشاد العباد الى سكك السلامة منها، ثم احتسبوا بعد ذلك عند الله أجر ما أمحضوا من نصح، فقد سبقه الى ذلك محتسبون آخرون كثر. بعض الخطر الذي تشتمل عليه المقالات - بحسب صاحبنا وأصحابه - أنها تخدّر الناس، وتُفقر عقولهم، وتلهيهم، وتحول بينهم وبين الوعي، وتبدد طاقاتهم فيما لا رجاء منه ولا نفع فيه، فتمنح الفرصة بذلك للعصبة المنقذة أن تسدر في غيّها، فتتمدد وتتشدد، وتبغي في البلاد، وتطغى على العباد دون رقيب أو حسيب، وتجعل من السواد بستاناً لها. وهناك قرائن وادلة تشير الى تورط هذا الكاتب في خدمة أجندة العصبة المنقذة، إذ إن مقالاته فيما يبدو محسوبة ومدروسة، وفي أغلب الظن مدفوعة الثمن مقدماً أو مؤجلاً. وإلا فلماذا يسبح البطل في نهر عطبرة الوادع الآمن، ويترك النيل العظيم حيث التماسيح العُشارية، ولماذا يقارع المحبوب عبد السلام وشيخه المغلوب على أمره ويترك الأفيال تصول في الناس رفساً وعفصاً، ولماذا يكتب عن مذكرات أبوبكر عثمان وعبد الوهاب إبراهيم وشوقي ملاسي وعلي أبوسن وغيره، في وقت تئن فيه البلاد تحت نير العسف الإنقاذوي، وترزح الصحافة الوطنية تحت جبروت الرقابة القبلية؟! لماذا يخربش هذا الكاتب على جُدُر طرفية منعزلة ويشغل الخلق برسومات تشكيلية هلامية، بينما يكتب غيره من الواقفين على جمر القضية بشواظٍ من نار، يُلهبون ظهر العصبة المنقذة، وينخسون بطنها، فتُحظر مقالاتهم من النشر، وتُعطل صحفهم عن الصدور، وتُوضع على أبوابها المغاليق، وتُدمغ بالشمع الأحمر؟!
(3)
فى زمرة المحتسبين كاتبٌ آخر مشهور، ولكنه يخفي اسمه الحقيقي لأسباب لا تصلح للنشر. غير انه اشتهر ولمع باسم آخر مستعار الأول تركي والثاني عربي، وتخصص في نوعية من المقالات تنتحل منحل التقارير الاستخبارية العالمية، درج على ترجمتها ترجمةً شبه حرفية، دون إشارة الى المصدر، من مجلة دورية تصدر فى تل أبيب، تحررها مجموعة من ضباط المخابرات الإسرائيلية المتقاعدين. ولهذا الكاتب ولعٌ عجيب بأجهزة الاستخبارات وصناعتها فقد كتب مرة لصديقنا فتحي الضو يزعم بأن المخابرات الفرنسية تطلب الالتقاء به لأمر يخص قضية دارفور، وقد كلفته بأن يبعث اليه بتذاكر الطيران وأن يحجز لإقامته بفندق جورج الخامس بباريس. واعتاد أن يبعث برسائل مشتركة الى فتحي والدكتور عبد الوهاب الأفندي وشخصي الضعيف وآخرين برسائل يحشد فيها هرطقات مثل: (إنني في طريقي الى واشنطن لمقابلة المسؤولين بالبيت الأبيض لترتيب أمر زيارة سرية للرئيس أوباما الى معسكرات اللاجئين بدارفور). كما درج على نقل رسائل "سرية" خاصة لصديقنا الصحافي طلحة جبريل من زوجة الرئيس التشادي إدريس ديبي، يزعم أن زوجة الرئيس كلفته بنقلها. ولا أحب أن أستخدم الاسم الأصلي لهذا الكاتب طالما أن هذه رغبته، فلأخلقنَّ له إذن من عندي اسماً مستعاراً جديداً وليكن: "شوكت باسم".
المهم أن شوكت هذا غضب عليّ ذات يوم غضبةً مضرية، لأمر يصعب شرحه في هذا المقام، فنهض الى حاسوبه فكتب ونشر مقالاً طويلاً عريضاً لم يوقعه باسم شوكت باسم، بل تخيَّر له اسماً مستعاراً جديداً آخر هو (سعيد الهاجري)، وزعم في رسائل بعث بها الى عدد من الكتاب انه باحث بقسم الإعلام بجامعة أم درمان الإسلامية، يضطلع بدراسة عن الكتّاب الصحافيين السودانيين (لم يكن المسكين يعلم أنني عملتُ محاضراً بتلك الجامعة لأربع سنوات وأستطيع أن أعرف في ساعة زمان واحدة ما إذا كان هناك باحث بهذا الاسم أم لا). وقد خلصت دراسته المنشورة إلى أن مصطفى البطل يشكل ظاهرة سلبية في الصحافة السودانية، حيث إن كتاباته جوفاء بغير محتوى، وانها تمالئ الحكام، ومع ذلك فإن (الكثير من القراء قد افتتنوا بهذه الكتابات). ولما كان الرجل يكتب باسم مستعار، فوق الاسم المستعار الأصلي الذي اشتهر به، فإنه لم يجد حرجاً في أن يكتب في بحثه المفترض: (إن ارتفاع مقروئية الكاتب مصطفى البطل تؤشر الى انحطاط مستوى القراء السودانيين). وقد تذكرت تلك العبارة بعينها في بحث سعيد الهاجري المزعوم عندما قرأت نصاً مشابهاً لها في المقال المعنون (صحافة التسرية والمناصحة: مصطفى البطل نموذجا) للكاتب الآخر الباحث عن مكان تحت الشمس. غير أن هذا الأخير انتابته فيما يبدو حالة من الوجل، فلم يجرؤ على القول مباشرةً بأن ارتفاع المقروئية يؤشر الى "انحطاط مستوى القراء"، فكتب عن المقالات أنها: (تحظى بقراءة واسعة وسط القراء السودانيين وربما تقريظهم. وهذا لعمري مؤشر قوي على انحطاط الصحافة). وواضح أن الشجاعة خانت المحتسب الذي كتب باسمه الحقيقي فلم توافِه هنا كما وافت صاحب الاسم المستعار هناك، فمما لا شك فيه أن النتيجة المنطقية لارتفاع عدد قراء المواد الهابطة هو انحطاط مستوى القراء أنفسهم، لا مستوى الصحافة، إذ ما ذنب الصحافة في أمرٍ كهذا؟!
(4)
بنجاح تدبير الانقلاب العسكري الذي نظمته الجبهة الإسلامية القومية في العام 1989م دخلت الحياة العامة في السودان مرحلة جديدة كانت لها آثار هيكلية وجوهرية بعيدة الغور على بنية الواقع السياسي للبلاد. وخلافاً لحركات التغيير الثوري الأخرى التي عرفها السودان في تاريخه الحديث، فقد اكتست برامج الانقلاب الإسلاموي طابع التخطيط الإستراتيجي المنظم بعيد المدى، المدعوم في خطاه التنفيذية بآلة الدولة الضاربة من ناحية، وبالولاء المطلق غير المحدود من قبل الكادرات المنفذة لإستراتيجيات التغيير من ناحية أخرى. ومن خلال الحصار العنيد والمثابر، والضربات الموجعة المباشرة التي أرسلت السكون الأبدي الى قلوب عدد من الكيانات السياسية المعارضة للمشروع الإسلاموي، فقد انتهت أغلب القوى المعارضة الى هوامش المسرح السياسي كسيرةً عاجزة لا تقدم ولا تؤخر. استطرد هذا التراجع في صفوف القوى المعارضة فانحسر وجودها وتأثيرها على الحياة العامة انحساراً درامياً، وصل ذروته بقيام الانتخابات الرئاسية والنيابية في أبريل الماضي، التي كرست هذا الواقع، وجعلت منه - طوعاً أو قسراً - دستوراً للحياة السياسية في سودان اليوم.
من هي القيادات والكادرات السياسية التي تعارض النظام القائم؟ من أين تستمد مشروعيتها؟ ما هو كسبها السياسي - خلال ربع القرن المنصرم - الذي أهلها لادعاء صفتها التمثيلية؟ ما هي ميكانيزمات التواصل السياسي بين هذه العناصر وجماهيرها، وما هو محتوى هذا التواصل بالأساس، اذا افترضنا وجوده، وهو افتراض لا يصدقه الواقع. الإجابة على مثل هذه الأسئلة وغيرها موجودة ومتوافرة، ولكنها لا تسر قريباً ولا عدواً. وليس من أغراضي أن استطرد في هذا التحليل إلا بمقدار ما استخلص منه حقيقة قد يثار حولها جدل كثيف غير أنه لا محيص من الإقرار بأنها تصف الواقع الذي نعيشه اليوم وصفاً دقيقاً، وهي انه في غياب الوجود السياسي المعارض الفاعل، المعبر تعبيراً صادقاً عن وجدان قطاعات عريضة من الناس، وفي غياب نموذج الكادر القيادي المحترف الذي تتجسد فيه إرادة التغيير ومشروعيته، وتتبلور حوله القيم والرغائب والمهارات الحيوية، في غياب ذلك كله برز دور الكاتب الصحفي البديل للكادر السياسي القيادي في الحياة العامة. وهذا في حد ذاته كارثة جديدة، تضاف الى الكوارث التي يحفل بها سودان ما بعد انقلاب الانقاذ!
(5)
من أكبر الأوهام التي سكنت وطاب لها المقام فى عقول كثير من العناصر المعارضة للنظام القائم - وتقف في ذات الوقت شاهداً على عجزها وهوانها وقلة حيلتها - أن الكتابة الصحافية يمكن أن تكون بديلاً عن العمل السياسي المعارض المنظم، وان الكاتب الصحفي يجوز له أن يحل محل الكادر السياسي المحترف ويصادر دوره وينتحل بطاقته. ووفقاً لهذا النوع من التفكير المضطرب، الذي قلنا إنه ثمرة من ثمار العجز والهوان وقلة الحيلة، فإن الكاتب الصحافي الناجح ينبغي أن يكون له بالضرورة موقف مبدئى ثابت معادى للحكومة القائمة، وأن يتخذ من قلمه سلاحاً فاتكاً تتكسر نصاله على صدر النظام. فإذا التزم لنفسه ذلك المعيار واستوى على جادة الكفاح المسلح بحد القلم، أو بأسنة الكيبورد، فإنه يستحق عندها صفة الكاتب الصحافي (أو الكادر السياسي القيادى المعارض، لا فرق)، الذي يعبر عن نبض الشعب وارادته. ويجوز - والحال كذلك - أن تحمله الجماهير على أكتافها، وأن تهتف بحياته، وان يقف هو فارعاً منتصباً ليحيي هذه الجماهير: شكراً شعبي! وتبعاً لذلك فإن الصحافة الحقيقية عند هؤلاء تكون هي صحافة التحريض والتهييج والمقاومة ودغدغة المشاعر الشعبوية. وكل ما هو غير ذلك يمكن تصنيفه على انه سباحة ضد التيار وخيانة للوطن وقضيته. (فى المقال الأول المار ذكره، يُظهر الكاتب المحتسب الاحتقار الشديد لشخصى لأننى فى نظره متهم ب (مناصحة) نظام الانقاذ، ومثال ذلك دعوتى للعصبة المنقذة فى مقال منشور بالدعوة لانتخابات جديدة مبكرة بهدف احتواء الآثار السالبة للانتخابات الابريلية التى ثارت حولها الشبهات. بينما المطلوب عنده، من الكاتب الملتزم بقضايا الشعب، ليس المناصحة. المطلوب بحسب كلماته هو (ازاحة) النظام. يريدنى من موقعى فى منبر الرأى بالصفحة السابعة من صحيفة "الاحداث" أن (ازيح) له نظام الانقاذ، فيرتاح هو ويمد رجليه. سبحان الله. لماذا لا يزيحه هو بنفسه، لا سيما وانه يعرف القراءة والكتابة، ويحفظ شيئاً من مصطلحات علم الاقتصاد الكلى باللغة الانجليزية؟!)
وأنا أقول دائماً إن اعتماد الكتابة الصحفية كمنصة لإطلاق الصواريخ، والركون اليها كأداة للعمل السياسي المعارض يشبه ممارسة العادة السرية. وكما ان العادة السرية لا تغني عن الجنس فإن الكتابة الصحفية لا تغني عن العمل السياسي الحقيقي ولا تسدُّ مسدّه، ولا تؤدى وظيفته، كما يظن البعض. (في كل الأحوال فإن شعب السودان، بعد ما يقرب من ربع قرن من حكم الإنقاذ، لم يعد في حاجة الى من يكتب له أوراقاً تقول له إن النظام وسدنته سرقوا الحكم بليل، وإنهم ظلاميون، وانهم قهروا الشعب، وانهم أثروا أنفسهم، الى آخر معزوفات الكلام المستعاد المكرور. شعبنا ليس حماراً. ربما كانت حاجة هذا الشعب أكثر لمعرفة ما إذا كان هؤلاء الذين ظلوا يديرون طواحين الكلام المنثور ويعيدونه ويزيدونه، ويعتاشون من ريعه على مدى ما يقرب من ربع قرن، عندهم ما يقدمونه له بالفعل بخلاف التكرار والإعادة والزيادة. وإذا صح هذا الزعم بالنسبة للجيل الذي ابيضت مفارق شعره وهو ينتظر أن يأكل من طحين الطواحين، فهو بالقطع أكثر جلاءً ومضاءً عند الأجيال الطالعة التي جاءت الى الدنيا عند فجر انقلاب الانقاذ، وبلغ أبناؤها وبناتها في يومنا هذا سن الواحدة والعشرين، وتهيأت لتأخذ مصائرها بأيديها، دون وصاية من أجيال الخبال والخيبة ونثير الكلام الذي لم يقتل ذبابة).
والأزمة الراهنة التي تأخذ بخناق المعارضين لنظام الإنقاذ في السودان اليوم ليست أزمة صحافة، ولا أزمة كتابة، وإنما هي في أصل وجودها وجوهر محتواها أزمةٌ سياسية. والكتابة الصحافية النارية الملتهبة في حد ذاتها لا تحل الازمات السياسية الوطنية المستحكمة دون توافر الشروط الموضوعية والمطلوبات البنيوية، إلا كما يحل الحشيش مصاعب الحياة وتعقيداتها عند الدهماء في قاع المدينة. وعلى المتسكعين فى عوالم المعارضة المدّعاة، واولئك الذين ظلوا "يعاقرون" النضال على مدى اكثر من عقدين من الزمان، وأضرابهم ممن يمقتون نظام الإنقاذ ويكرهون أحشاءه، ويحلمون أن يروه ذات صباح وقد غادرنا الى مزبلة التاريخ، محمولاً على "وريقات صحيفةٍ" حدباء، أن يدركوا أن تسكعهم أمام أكشاك بيع الصحف بحثاً عن المفرقعات الكلامية والمقالات النارية لن يقضي لمعارضتهم وطراً ولن يرد عن وطنهم خطرا. على هؤلاء الأشاوس، من المتسربلين بسرابيل الوهم أن يدركوا أن هناك ثلاثة طرق عرفتها الشعوب الحرة، لا بديل لها، لتغيير الأنظمة: الأول هو الكفاح المسلح، والثاني هو الانتفاضة الشعبية، والثالث هو العمل السياسي السلمي المنظم. فليحمل هؤلاء السلاح إذن وليحرروا السودان من قبضة العصبة الاسلاموية، او فليحمل السلاح عنهم ابناؤهم (لا ان يرسلوا أبناءهم الى جامعات كاليفورنيا وميتشيغان، ثم يغوون أبناء المسغبة من البسطاء والمعوزين الى موارد التهلكة، كما فعل اقوام من قبلهم). أو ليخرجوا الى الشارع فيقودون الجماهير على طريق الانتفاضة. أو لعلهم ينخرطون في كياناتٍ سياسية أو مدنية، تعبر عن أفكارهم وتطلعاتهم ورؤاهم، فيؤدون واجبهم في تفعيل هذه الكيانات، مدافعةً يوميةً مثابرة بين صفوف الجماهير، بعزيمةٍ باسلة، وبصيرةٍ نافذة، ورغبةٍ مختبرة فى التضحية والايثار، فيعبّون من معين هذه الجماهير كفاحاً، ويعرضون عليها بضاعتهم، ابتاعتها أو ردّتها. وتلك بدائل مهرها الإقدام، لا الكلام. ولذا فانها تشقُّ على الناس، لأن الاقدام قتّال (لولا المشقةُ ساد الناسُ كلّهمُ / الجودُ يُفقرُ والاقدام قتّالُ).
(6)
أيها الناس: كاتب هذه الكلمات يقريكم السلام، ويبلغكم انه قد غلب، وغلب حماره، من كثرة ما حمل عليه أصحاب الشعارات الطنانة الرنانة بغير علمٍ ولا هدىً ولا كتابٍ منير. ويُنبئكم بأنه من الذين يؤمنون بمبدأ فصل الدين عن الدولة، وهو المبدأ الذي تصفه وتعبر عنه لفظة "العلمانية". وتلك لفظة أصبح العلمانيون أنفسهم يتحامونها ويتحاشون عقابيلها في سودان الإسلاموية الراهن، فيستخدمون بدلاً عنها مصطلح "الدولة المدنية". والذين ينادون بمبدأ فصل الدين عن الدولة، شأن المفتقر لمولاه، لا يلتقون مع العصبة المنقذة على صعيدٍ واحد، ولا يجمعهم معها لا عيش ولا ملح ولا شاورمة ولا بطيخ ولا قواسم مشتركة. كاتب هذه الكلمات عمل فى ظلال العديد من الحكومات منذ شبّ عن طوق التعليم، على سُنّة غيره من ابناء الوطن. ولكنه ما دقّ طبلاً لحاكمٍ قط، ولا نفخ مزماراً لنظام، ولا حرق بخوراً لجماعةٍ سياسية، او غير سياسية.
ومع ذلك فإنني، ولا فخر، من دعاة الحوار المفتوح غير المشروط مع الشيطان نفسه. دعوت للحوار مع إسرائيل، وأيّدت مبادرة السلام، واتفاقية كامب ديفيد، وأنا طالب في أول سني الدراسة بجامعة محمد الخامس بالمغرب، في وقت كانت فيه الجامعة والشارع السياسي في ذلك البلد العربي المضياف يغلي غلياناً، وشعارات "الصمود والتصدي" تسد عين الشمس. ولم يكن قد دعا للحوار والصلح مع إسرائيل من قبل ذلك غير شهيد الفكر محمود محمد طه، والحبيب بورقيبة، ثم أنور السادات في عام 1977م. وقد دعوت في العام 1997م، من خلال المنابر الالكترونية الناطقة بالإنجليزية، جميع القوى السودانية بالخارج لإنهاء معارضة المَهاجر والعودة الى السودان وممارسة المعارضة السياسية الحقيقية من داخل الوطن، بما فيها القوى التي كانت تحمل السلاح وتزعم انها ستحرر السودان من قبضة الإسلامويين عن طريق الكفاح المسلح، فانقلبت فوق رأسي دنيا الأسافير، حتى أصبح عاليها سافلها. وقد دعتني العصبة المنقذة الى مؤتمر للحوار الإعلامي منتصف العام الماضي، وأنا مغتربٌ بالولايات المتحدة، فركبت الطائرة الحبشية من فوري قاصداً عاصمة النيلين، لم ألوِ على شيء، وضجيج مناضلي الكيبورد وعجيجهم يصدّع رأسي تصديعاً.
أنا إنسانٌ حر، ذو فكرٍ مستقل، منذ عرفت قدماي الوقوف على الأرض، واستقر رأسي بين كتفي. لا وصاية لأحد علىّ. لست من هواة تسجيل المواقف والمزايدات وارتياد مقامات البطولات الوهمية. وأنا إذ أشارك في الحياة العامة ككاتبٍ صحافي إنما أطرح نفسي بتلك الصفة اسماً وذاتاً وعيناً، لا بغيرها. ولم يسبق لي قط أن قدمت نفسي لأحد تحت لافتة "مناضل سياسي". ولو أردت أن أنشط الى غاية النضال فأنا أعرف سككها ودروبها، تماما كما اعرف الفيصل الفارق بين "المناضل السياسى" و"الكاتب الصحفى". فليكفَّ أهل الطنين والرنين، والباحثين عن مكانٍ تحت الشمس، عن هذا الهذر المُمض الذي ما ينفكون يملأون به الأرض، كلما طرقتُ بسنّ قلمى مطرقاً ً ندّ عن هواهم، فلم يصادف رغائبهم ولم يقع منهم موقع الرضا.
يا هؤلاء، على رسلكم، إنما أنا رجلٌ بين الرجال يجتهد فيصيب، ويجتهد ويخطئ، ويرجو أن يكون عند الله من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، الذين لا يشهدون الزور وإذا مرُّوا باللغو مرُّوا كراما.
نقلاً عن صحيفة (الاحداث)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.