5-7 لماذا نجحوا حيث فشلنا: على ضوء ما أسلفنا، لن يكون من العسير فهم أن لا ينجز السودان سوى أقل الممكن خلال ما يزيد عن نصف قرن من الاستقلال،،، فقد انشغل السودان المستقل لمدى خمسين سنة بفض الاشتباك بين الحكومات الحزبية والانقلابات العسكرية والانتفاضات الشعبية والحروب الأهلية واتفاقيات السلام. والغريب أن كل ذلك كان يتم تحت لافتات بالغة الجاذبية،،،، وكل جديد على الحكم يدّعي أن عهده يؤرّخ لختام الأحزان والشقاء ويدشّن بدء الرخاء والعدالة وحكم الشعب لنفسه،،، ثم تنقضي عهود الحكم الواحد بعد الآخر وتدخل في ذمّة التاريخ بطرق متشابهة وبمعاول ومسوغات لا تختلف عن بعضها. لم يكن هناك ما يمنع من تأسيس حكم راسخ منذ الاستقلال،،، كما فعل تنكو عبد الرحمن ورفاقه في ماليزيا،،، بتحالف قطبي السياسة السودانية،،، بيت المهدي وبيت الميرغني،،، الاتحادي والأمة،،، الذين تقاسما النفوذ السياسي على نطاق البلاد،،، كان ذلك في أيديهم في تلك السنوات،،، حين كانوا يملكون تقرير كل شيء،،، تفويض سياسي لم يتسن لكيان حزبي/سياسي بعد ذلك،،،، وميزة أضاعت فرصة استغلالها الغفلة،،،، والأنانية،،، والافتقار إلى "الرؤية". فلم يكن بين هاتين القوتين الرئيسيتين خلاف يذكر بعد أن حسم أمر "الاستقلال" أو "الاتحاد مع مصر" الذي فرّق بينهما قبل الاستقلال،،، وما كان قد تبقى من الاختلاف بين الكيانين هو فقط التنافس على النفوذ والسلطة والثروة والجاه بين البيتين العتيدين. وفيما كان الساسة والعسكر يلعبون لاهين لعبة الكراسي،،، لم تسكت جبهة الجنوب منذ تمرد حامية توريت في أغسطس 1955 قبل موعد الاستقلال بقليل،،، وتواصل مع حكومة الأزهري الأولى،،، وعبد الله خليل،،، وحكومة عبود،،، ثم مع حكومة أكتوبر سر الختم الخليفة والمحجوب والصادق،،، ثم النميري،،، لتسكت المدافع لحين بعد اتفاقية أديس أبابا في العهد المايوي،،، للتواصل بعد ذلك عبر حكومات الانتفاضة ثم إلى عهد الإنقاذ. فهل كان مما يستعصي على فهم القوى السياسية أن تستبين منذ تمرد توريت وما قبله أن الجنوب يحتاج إلى معالجة مختلفة،،، فالحكومات العسكرية المختلفة عالجته بالرصاص وحرق الغابات والقرى،،، والحكومات الحزبية الديمقراطية عالجته بالمؤتمرات المستديرة والمستطيلة،،، بالحكي،،، مؤتمر جوبا،،، مؤتمر الدائرة المستديرة،،، وبالمؤامرات التي تنتهي أحياناً بتسليم الحكم إلى العسكر. فقد ظل الجنوب جرحاً نازفاً ،،، تتفاقم دمامله المتسرطنة بمرور السنوات وعبر الحكومات،،، ظل كعب أخيل،،، يشد البلاد إلى الوراء لتراوح مكانها،،، تسقط الحكومات المدنية،،، ويطاح بالأنظمة العسكرية،،، وتشتعل الانتفاضات وتخمد على خلفية النار المستعرة في الجنوب،،، وبعد نصف قرن من الدم والنار ومئات ألوف الضحايا تكتشف النخب السودانية أن الجنوب كان يستحق وضعاً مختلفاً في سياق وطن موحّد،،،، ربما حكماً ذاتياً محدوداً أو موسعاً،،، وربما أن يكون فيدرالية ضمن فدراليات أخرى،،، وربما حتى أن يقرر مصيره بنفسه كما يجري الآن،،، كما قرر السودان ذاته مصيره في 1956،،،، واختار لحسرة أكثر المصريين أن يستقل عن التاج المصري. ولكن كان مجرد الحديث يومها حتى عن الفيدرالية (التي أصبحت الآن أمنية بعيدة المنال للوحدويين) مثل النطق بالكفر،،، كما قال لام أكول،،، في ندوة تلفزيونية مؤخراً. كم كنا وفرنا يا إلهي لو بادرنا قبل خمسين سنة بالمعالجة المثلى لوضع الجنوب في تاريخ الاستقلال أو بعيده،،، دون مكابرة،،، ودون أنانية،،، ودون خوف،،، ودون استخفاف بإرادة الشعوب وتطلعاتها المشروعة المستحقة،،، بدلاً من العودة إلى محطة البداية بعد نصف قرن من المراوحة في المكان ونكتشف أنه لم يتبق أمامنا من خيار سوى الجراحة المؤلمة: أن يختار الجنوب بين المضي مع شقه الآخر في الشمال،،، والتحليق منفرداً،،،،،،،، ونعلم جميعاً اختيارهم قبل يصوتوا في الاستفتاء،،، لقد شاركنا جميعاً شماليين وجنوبيين طوال نصف قرن في صياغة "الاختيار" المؤلم بالدم والدموع. A. Munim Moh. Ali [[email protected]]