في إطار هذه السلسلة التي لا تعدو أن تكون خواطر وتأملات زائر لبلد أجنبي،،، فإن هناك ثمة أسباب تغري بإجراء مقارنة بين التجربة الماليزية في الحكم والتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي مع تجربتنا في السودان،،، وبالرغم من وجود بعض الاختلافات بين البلدين من حيث مدى التعقيد الأثني والثقافي وحجم الرقعة الجغرافية،،، إلا أن هناك مساحات كافية من الأرضية المشتركة التي تتيح مثل هذه المقارنة،،، فقد استقل البلدان في تاريخ واحد تقريباً، بفارق سنة واحدة (استقلت ماليزيا عام 1957 والسودان في 1956)،،، كما أنهما يشتركان في الخلفية التي تتشكل من تاريخ طويل من الخضوع لحكم المستعمرين الأجانب،،، ويضاف لذلك تماثل ظروف الفقر والتخلف الاجتماعي والاقتصادي التي كانت تسود هنا وهناك إبان خروج المستعمر. وكمواطن سوداني،،، فإن ما يهمني بوجه خاص في سياق هذه المقارنة هو تحديد أين ولماذا نجحوا حيث فشلنا؟؟؟ في محاولة لاستخلاص العبر من نجاحات وإخفاقات الآخرين،،، والإسهام بجهد مقلً غير مختص في ساحة تزدحم سلفاً بأقدام المئات من المختصين الراسخين ممن عكفوا لعقود على تشخيص أدواء الوطن ووصف الدواء، ورسم مسارات الخروج من أزماته واللحاق بركب الأمم. الوطن الذي ورثه آباء الاستقلال في السودان كان بلداً بمساحة مليون ميل مربع تقريباً،،، يضم ما يزيد عن 600 قبيلة،،، وحوالي 100-120 لغة،،، تسوده ديانات ومعتقدات وثقافات عديدة تعادل تنوعه البشري وتوزعه الجغرافي،،، وقد كان أكبر إخفاقات النخبة التي حكمت السودان بعد خروج المستعمر البريطاني هو الإصرار على حكم بلد بحجم وتنوع السودان بنفس نظام الحكم المركزي الذي انتهجه المستعمر البريطاني،،، وعلى نفس نمط ديمقراطية وستمنستر كما مارسها "الخواجات" في بريطانيا،،، وعلى خطى الديمقراطيات الليبرالية في أوربا الغربية والولايات المتحدة. أغفل الآباء المؤسسون الفروق الهائلة التي بين بلد فقير ومتخلف في كل الصعد، وخارج لتوه من حكم المستعمر، وبلد آخر أوربي نشأ واستوى نظامه السياسي عبر قرون من التجارب والتطور ومحاولات الإخفاق والنجاح،،، ويعتمد بالأساس على أحزاب سياسية ناضجة ترتكز على قواعد شعبية واعية،،، واستقر بمنتصف القرن العشرين (وقت استقلال السودان) في صورة بناء سياسي متكامل يستند إلى قاعدة اقتصادية واجتماعية صلبة. ففيما اعتمدت ماليزيا،،، التي مساحتها حوالي سبع مساحة السودان وتضم ثلاثة قوميات فقط،،، نظاماً فيدرالياً للحكم يشتمل على 13 ولاية بحكام ولائيين مستقلين،،، مع إدماج الكيانات التقليدية المتمثلة في حكم السلاطين في صلب نظام الحكم،،، بالاضافة إلى اختيار صيغة حزبية تحالفية تتمثل فيها كافة القوميات والتنوعات الثقافية الأساسية،،، رأى الآباء المؤسسون في السودان حكم بلد مساحته مليون ميل مربع ويضم عشرات المجموعات العرقية والثقافية والكيانات التقليدية والأهلية بحزب واحد،،، رأسه ثلة من المثقفين المنفصمين وقاعدته العريضة مناصرون أميون يصوتون للحزب بالإشارة على أساس الانتماء الطائفي. وفي تشويه صارخ لديمقراطية وستمنستر،،، تمثلت المعارضة السودانية عبر الحكومات الديمقراطية في صورة أحزاب تقف في الجهة المقابلة للحكومة،،، مهمتها الترصد للحزب الحاكم وحكومته بكل الوسائل التي في جعبتها لإفساد حكم الحزب الحاكم والإجهاز على حكومته،،، فيما ظلت غالبية مكونات الوطن من أعراق وأقاليم تتفرج محرومة من أي مشاركة في الحكم،،، ودون أن تحصل على نصيب من الثروة أو حصة من التنمية،،، ودون أن تملك شيئاً في اللعبة التي يزاولها رؤساء الطوائف والأحزاب وقادة الجيش وزعماء الإدارة الأهلية والكيانات العقائدية،،، ودون أن يتخلّق لديها إحساس الانتماء إلى وطن. فلا غرابة إذن، في ظل أوضاع كهذه، إذا تتابعت الانقلابات العسكرية والانتفاضات الشعبية،،، وحركات التمرد في الجنوب والشرق والغرب،،، والصراعات القبلية والجهوية،،، لنقف اليوم على أعتاب مشروع أوليّ سينقسم الوطن الواحد وفقاً له إلى وطنين،،، وينشطر الشعب الذي كان شعباً واحداً إلى شعبين،،، مع مشاريع أخرى تقف في الطابور،،، قد ينقسم بموجبها المقسوم سلفاً إلى شظايا أصغر. عبد المنعم محمد علي- الدوحة A. Munim Moh. Ali [[email protected]]