شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    مطار دنقلا.. مناشدة عاجلة إلى رئيس مجلس السيادة    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    تنويه هام من السفارة السودانية في القاهرة اليوم للمقيمين بمصر    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    نتنياهو يتهم مصر باحتجاز سكان غزة "رهائن" برفضها التعاون    شاهد بالصورة والفيديو.. في مقطع مؤثر.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبكي بحرقة وتذرف الدموع حزناً على وفاة صديقها جوان الخطيب    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يلتقي اللجنة العليا للإستنفار والمقاومة الشعبية بولاية الخرطوم    شاهد بالصورة والفيديو.. في أول ظهور لها.. مطربة سودانية صاعدة تغني في أحد "الكافيهات" بالقاهرة وتصرخ أثناء وصلتها الغنائية (وب علي) وساخرون: (أربطوا الحزام قونة جديدة فاكة العرش)    قطر تستضيف بطولة كأس العرب للدورات الثلاثة القادمة    الدفعة الثانية من "رأس الحكمة".. مصر تتسلم 14 مليار دولار    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني في أوروبا يهدي فتاة حسناء فائقة الجمال "وردة" كتب عليها عبارات غزل رومانسية والحسناء تتجاوب معه بلقطة "سيلفي" وساخرون: (الجنقو مسامير الأرض)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    سعر الدولار في السودان اليوم الأربعاء 14 مايو 2024 .. السوق الموازي    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    أموال المريخ متى يفك الحظر عنها؟؟    قطر والقروش مطر.. في ناس أكلو كترت عدس ما أكلو في حياتهم كلها في السودان    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أدروب: السيرة والمسيرة في متاهات دروب السلام ! ... بقلم: محمد أحمد عبد الرحيم
نشر في سودانيل يوم 14 - 08 - 2010

بلادي وإن جارت عليَ عزيزة *** وأهلي وإن ضنَوا عليَ كرام
أقول والحق يقال : لقد سعدت كثيراً – كغيري من الحادبين على وحدة الوطن – بتوقيع إتفاقية الشرق . ولكن لا أحد يدري هل ستكون المحطة الأخيرة لإكتمال عقد سلام السودان أم سيصيبها الداء العضال الذي أصاب الأخريات فنقول كأننا يا عمرو لا رحنا ولا جئنا ، وتعود القضية برمتها إلى ركزها الأول أو كما تعودنا أن نقول بالعودة إلى المربع الأول . وعندها تتبدد الآمال وتتجدد الأحزان وتغتم النفوس ومعاذ الله من ذلك المآل . و كما لا يخفى على الجميع – ذلك هو داء الخلاف الذي يبدد الجهود ويضرم نيران الحنق والحقد في الصدور ويثير الشكوك في النفوس فتنتهي الأمور إلى مآلات لا نحسد عليها . فتلك مسميات اتفاقيات سلام انتظمت ربوع الوطن بدءاً بالجنوب ومروراً بجبال النوبة ودارفور وأبيي والنيل الأزرق و الشرق أخيراً وقد يكون محط رحالها بالشمال كما تشير بوادر الأحداث إلى ذلك . في واقع الأمر تلك اتفاقيات أطالت إنتظارنا ليوم الفرحة فجعلته كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء . ولكن رغم هذه الصورة الضبابية القاتمة للسلام لابد أن نتيقن إنه لا حياة مع اليأس و لا يأس مع الحياة . ولسان الحال يردد مع القائل قوله :
لو كنت أعجب من شئ لأعجبني *** سعي الفتى وهو مخبوء له القدر
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها *** والنفس واحدة والهم منتشر
وخلاصة القول لابد أن تبذل الجهود وتتصل المساعي في مضمار السلام ونسأل الله أن يسهل لنا مناله إنه على ذلك لقدير .
لا أذيع سراً إن قلت سعدت أكثر من غيري بهذا الحدث بحكم الانتماء , ولكنني تريثت وتأملت وفكرت مليا وعدت أدراجي بالذاكرة إلى ماض قريب عشت فيه في حجر حان لوطن موحد رغم تعدد مناطقه وإثنياته العرقية واختلاف ألسنته التي تربو على المئة في عددها وتعدادها . كان وطناً تساوت فيه الحقوق والواجبات وبذل فيه قصارى الجهد لتربية النشء على حب الوطن منذ البدايات الأولى للتعليم . وبما إنني من رعيل تدثر بتلك الأهداف والمعاني لطالما رددنا خلف معلمينا نشيد منقو زمبيري ببساطة نظمه وسمِو معناه :
أنت سوداني *** و سوداني أنا
ضمنا الوادي *** فمن يفصلنا
نحن روحان *** حللنا بدنا
منقو قل لا *** عاش من يفصلنا
قل معي لا *** عاش من يفصلنا
بل ولطالما أنشدنا منظومة أمير الشعراء الرمزية في قصيدته ( الوطن ) التي استنطق فيها الكائنات الأخرى من العصافير والرياح لتكون أكثر جذباً للانتباه حيث يقول :
عصفورتان في الحجاز *** حلتا على فنن
في خامل من الرياض *** لا ندٍ ولا حسن
مر على أيكيهما *** ريح سرى من اليمن
حىً وقال درتان *** في وعاء ممتهن
لقد رأيت حول *** صنعاء وفي ظل عدن
خمائلا كأنها بقية *** من ذي يزن
الحب فيها سكر *** والماء شهد ولبن
هيا أركباني نأتها *** في ساعة من الزمن
قالت له إحداهما *** والطير فيهنَ الفطن
يا ريح أنت ابن الس*** بيل ما عرفت ما السكن
هب جنة الخلد اليمن *** لا شئ يعدل الوطن
لا شئ يعدل الوطن
فقلت في وليجة نفسي واحسرتاه أيكون الطير أكثر محبة منا لموطنه ؟ ولم لا نستفيد من تلك الدروس والعبر ؟ فعَنت علىَ خاطرة لأعبر عن مشاعر وأحاسيس الفرحة بهذا الحدث من خلال تلك المعاني الوطنية ، ولكن يا للعجب طرأ على النفس ما لم يكن في الحسبان إذ تقاطر عليها شريط من الأحداث وفوجئت بطيف الصبي أدروب يقتحم عليّ محراب مخيلتي ( جاني طيفو طايف في توب من الطرائف ) فأوجست في نفسي خيفة وقلت ما جاء إلا ليعكر علي صفو تلك الفرحة فقررت إرجاء الكتابة إلى حين آخر . ولكن أعقب ذلك أن تتابعت عليً إطلالاته وصارت تجوب بي أرجاء الشرق الحبيب وعبثاً حاولت إبعاد ذلك الطيف عنيّ ولكن دون جدوى لأنه أصبح يؤرقني ويعكر علي صفو المنام فاحتلت عليه بقولي هامساً لقد صرفت النظر عن ذلك فحل عني ودعني أنعم بنوم هانئ . ولكنه بادرني بلهجة ملؤها السخرية والاستنكار قائلاً : و أين شرف مهنة المتاعب أم أصبحت من الذين ينتمون إلى تلك المهنة زوراً وبهتاناً ؟ فتحاملت على نفسي وتحملت مرارة وقع أثار إسلوبه الساخر وعقدت العزم في قرارة نفسي على إجراء لقاء صحفي معه لعلي أرتاح من أرق كثرة إطلالاته وأملاً في أن أسجل من خلال ذلك سبقاً صحفياً في مجال اللقاءات الصحفية بالانتقال بها من الأشخاص إلى عالم الأطياف لأبرهن له أنه يمكن أن يرى في مجال الصحافة العجب العجاب .
فأعددت العدة وهيأت النفس لذلك الاستطلاع وصرت أترقب قدومه وأصبحت النفس تتوق إلى إطلالة من إطلالاته فتباطأ علىّ حتى ظننت إنه قد قلاني وعلم بما أضمرت في نفسي وحسبت أنه ولن يجرؤ على المعاودة ثانية . ولكنه خيب ظني بإطلاله مباغته وعاجلني بقوله : هل ما زلت متردداً في أمرك أم بقيت فيك بقية من حب الانتماء لتلك المهنة ؟ فعاجلته بالرد قائلاً : هلا أرجأت تطوافك في أرجاء الشرق إلى حين لنسبر غور أفكارك ؟ لأنني عقدت العزم على إجراء لقاء صحفي معك لأعلم بما يجول في خاطرك و دخيلة نفسك من أفكار وآراء ليطلع عليها القراء . فرد متبسماًَ وقال : ( كنت على يقين من أنك ستوافق على ذلك لأن أبواب حرية الصحافة مفتوحة على مصراعيها ويمكن ولوجها بكل ثقة واعتزاز ) .
فكان الحوار التالي :
1: أخي أدروب مرحباً بك في هذا اللقاء , ونحن كصحفيين جرت العادة عندنا على تعريف القارئ بالشخصية الاعتبارية التي نجري معها مثل تلك اللقاءات فهلا تفضلت مشكوراً بتعريفنا بنفسك وحبذا لو شرحت لنا معنى كلمة أدروب في لغتكم البجاوية ؟
* في البداية لا يسعني إلا أن أشكرك على إتاحة هذه الفرصة الطيبة ولا شك إنها سانحة كريمة لتمليك القارئ جملة من المعلومات والحقائق التي أرجو أن تكون مفيدة وتساعدنا وإياه على تكريس أواصر الود والمحبة ووصل ماانقطع من حبالها لمحبة هذا الوطن المعطاء . وللإجابة على سؤالك أقول : اسمي أدروب محمد نفر انتمي إلى الشبيبة البجاوية المثقفة . حاميُ الجذور بجاوي الأصل و المنبت شرقي المسكن سوداني الوطن وفي النفس طموحات ورغبات جادة للحاق بركب التحضر و التقدم المتقوقع في ظل دوحة العاصمة الوارفة وسكانها الكرام الذين يعيشون في أبراجهم العاجية يحسبون كل صيحة عليهم ، ولا يكاد يعاودهم الحنين إلى معرفة أحوال الآخرين في فيافي وغفار بلد المليون ميل مربع لأنال نصيبا متواضعا من رغد العيش وراحة البال التي يتمرغون فيها دون غيرهم .وإن شئت سمها(قسمة الراحات والإمتيازات) بعد قسمة الثروة والسلطة التي لا طائل من ورائها فوعودها براقة و حبلها قصير إذ سيتفرق هذا المنتدى بعد الإنتخابات الوشيكة لتصبح تلك الإتفاقيات حبرا على ورق حيث عودنا سياسيونا بسرعة بديهتهم في إعداد الإجابات الحاضرة عند المطالبة بالحقوق والعقود المبرمة بقولهم نحن مالنا ومالكم شوفوا الناس اللي وقعتو معاهم تلك الاتفاقيات فتصبح تلك طعنة نجلاء لتبدد مجرد الشعور بالإنتماء إلى الوطن فيتعطل المنطق وينقطع الحوار ويخيم الظلام وتتبدد الأحلام الوردية للسلام (وحليمة رجعت لي قديمها ) لنعود إلى إسلوب الحرابة والإقتتال ليضرب بعضنا رقاب بعض ، فنعوذ بالله من هذا المآل بعدما رأينا ويلات الحرب واكتوينا بنارها ردحا من الزمن . ومن سنن الحرب أن يشعللها أصحاب السطوة والإقتدار فأصبحنا كلنا ذلك الرجل فأتت على الأخضر و اليابس وذقنا مرارة ويلاتها على حد قول زهير بن أبي سلمى:
الحرب يشعلها القوي تجبرا *** ويموت تحت لوائها الضعفاء
أما كلمة أدروب اسم رمزي يطلق على الإنسان البجاوي كغيره من الأسماء الرمزية التي تطلق على أبناء المناطق الأخرى . ومعناها في اللغة البجاوية (الأحمر) ويمكن المناداة به على كل من يراد لفت انتباهه حتى ولو لم يسم به .
2: ولكن دعني أسألك , يلاحظ في بعض الأحايين إنك تعتريك بعض ملامح الاستياء وتنتابك نوبة من الامتعاض وتعلو أسارير وجهك غضبة نكراء , فهل يعقل أن يستنكر الإنسان أن ينادى باسمه , وكيف تفسر لنا أسباب هذا التصرف ؟
* دعني أذكرك وأذكر القارئ الكريم أننا في السودان ننطلق في مثل تلك المسميات من تركة مثقلة أورثنا إياها المستعمر الذي كان ينتهج سياسة فرق تسد . فتعودنا على التنابز بالألقاب وعلى سوء استخدام تلك الأسماء والمسميات الرمزية من قبيل السخرية والاستخفاف بالآخرين نكاية بالقبائل التي ينتمون إليها فأصبحت لها أدبياتها التي يتندر بها البعض فطغى عليها الخيال الفكاهي , وعليه عندما تتم مناداتي به في هذا الإطار لا غرابة في أن تظهر علىّ بوادر الانفعال كدليل على استنكار ذلك إذ الحكمة تقول من إستغضب ولم يغضب فهو حمار .
3: إذن يجب علىَ أن ألزم جانب الحيطة والحذر و أرجو ألا تفهمني غلط لأنني سأناديك بهذا الاسم طوال مدة هذا اللقاء . الأخ أدروب بما إنك سبق أن أوضحت لنا إنك تنتمي إلى فئة المثقفين من أبناء البجا فهلا ألقيت بعض الأضواء على مسيرتك التعليمية ؟
* نعم إنني أعتز و أفتخر بالانتماء إلى شبيبة المثقفين وأستأنس بتذوق حلاوة طعمها لأن العلم نور والجهل ظلمات وكما يقال عدو عاقل خير من صديق جاهل , وسبب ذلك الافتخار إنني مازلت أتذكر تلك الفرصة النادرة التي سبق أن أتيحت لي و ساعدتني على الإنعتاق من براثن الجهل بأعجوبة . كنت أنتمي إلى أسرة غلبت عليها الحياة الرعوية وهي حياة تتميز بالحل والترحال الدائم بحثاً عن الماء والكلأ ولا تعرف معنى للاستقرار وحدث أن تعاقبت عليها سنوات عجاف فنفقت معظم الأنعام و ساءت الأحوال فلم يكن أمامها من سبيل للخروج من هذا المأزق سوى اللحاق على استحياء بناحية من ضواحي الحضر وذلك مما أعتقني من استمرارية الانتماء إلى الحياة البدوية الرعوية ورب ضارة نافعة . وبذلك أصبحت حياة الأسرة في منزلة بين المنزلتين لا هي بدوية تجوب الفيافي والغفار ولاهي متحضرة تنعم بمتطلبات الحياة الحضرية وذلك مما مهد لي فرصة نادرة للتسلل لواذا نحو خلوة من الخلاوي التي كان يتولى أمرها أهل الخير ووافق والدي على إلتحاقي بها على مضض لأن أثار الحياة البدوية كانت لا تزال ملازمة لنا إذ لا يطيب العيش دون امتلاك غنيمات يوفرن قدراً لا بأس به من الحليب دعماً لتوفير قوت الأسرة
ولعلك تعجب إن علمت سبب موافقة والدي لذهابي إلى الخلوة . تم ذلك لشئ في نفس يعقوب و هو العائد المادي الذي كان يعود في نهاية الأسبوع إلى الأسرة التي تنشط في مراقبة أبنائها للانتظام في الحضور إلى الخلوة ، وهي عبارة عن مكافآت عينية كالذرة والزيت والسكر وفي بعض الأحيان أمتاًرا من الدمورية والفوط . فأصبح والدي أشد حرصاً مني على قضية الالتزام بالمواعيد وذلك مما هيأ لي فرصة نادرة لحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب دون أن أفهم معنى كلمة واحدة من كلماته . هذا بالإضافة إلى تعلم مبادئ الحساب والإملاء التي كنا نسطرها على سطح قيزان الرمال الناعمة المحيطة بالخلوة وذلك مما مهد لي اجتياز الاختبار الأولي للالتحاق بالفصل التأهيلي ( الكتَاب ) ومن ثم الالتحاق بالمدرسة الأولية ( الابتدائية ) .
ومن العجيب في الأمر إنني لم أجد فرصة للالتحاق بالمرحلة الأولية لاكتظاظ الفصول بالتلاميذ فلم يبتأس والدي كثيراً وطلب مني العودة إلى البيت ولسان حاله يقول ( رضينا بالهم والهم ما راضي بينا ) وقرر عدم تكبد المزيد من المشاق وطرق أبواب المدارس لبعدها عن موقع دارنا الكائن في الضاحية القاصية من المدينة . وكما يقولون رزقاً يكوسك ولا رزقاً تكوسه ومن حيث لا أدري لقد حالفني الحظ للمرة الثانية إذ زارنا أحد قرابتنا الذين استقر بهم المقام في قلب المدينة ويبدو انه دار بينه وبين والدي الحديث عن أمر التحاقي بالمدرسة وقد قضي الأمر بليل وأنا ألعب وأمرح مع أقراني وعند انتهاء الزيارة استدعاني والدي وأمرني بالذهاب معه لعله يجد لي فرصة للذهاب إلى المدرسة . وكانت تلك لحظة عصبية للأهل والصحاب فاغرورقت أعينهم بالدموع وأطبقت عليهم حالة من الحزن والكآبة . ولكن باءت محاولات عمي أيضاً بالفشل للحصول على الفرصة المنشودة فقرر أن يرسلني إلى مدرسة داخلية في إحدى الأرياف البعيدة فكانت الانطلاقة التعليمية حتى أكملت المرحلة الجامعية . وكنت أذوب خجلاً في تلك المرحلة واستحي من أن أسأل والديَ المصاريف التي تساعدني على توفير بعض متطلبات الحياة الجامعية وأصبحت أتألم و أتحسر أكثر و أكثر حينما لاحظت إصرار والدتي على بيع أسورتها الفضية حرصاً منها على المساهمة في توفير تلك المتطلبات فكان ذلك من ضمن الدوافع التي ساعدتني على الحرص والمثابرة في التحصيل العلمي حتى تخرجت وتوظفت ووفقت في رد الجميل لتلك الأسرة الكريمة التي كافحت وكابدت ما كابدت من المصاعب وأبدت روحا طيبة من التضحية ونكران الذات في سبيل تعليمي أرجو أن يثيبهم الله أجر صنيعهم هذا إنه سميع قريب مجيب الدعاء. تلك رحلتي التعليمية باختصار شديد ويبقى أن أوضح لك أن مشاعر وأحاسيس الأسى والحزن تقطع أنياط قلبي كلما شاهدت الدمى البشرية ذات الوجوه الكالحة والثياب الرثة البالية و الأقدام الحافية التي تحترف بيع المساويك والعنقريببة والبرش في المحطات والأسواق فتعيد إلى ذاكرتي الأقزام الاستراليين الذين تعرضهم ملاهي والت ديزني في متحف طبيعي لسلالة من البشر تكاد أن تنقرض وأزداد أسفاً لأن هؤلاء لا يجدون حتى الملاهي التي يمكن أن تأويهم وتوفر عليهم مصاعب التسول و التجوال بين الأسواق بحثا عن قوت اليوم الضروري , وأنهم متروكون للمساعدات الخارجية التي لا تسمن ولا تغني من جوع . أليس هؤلاء وصمة عار تلحق بهذا الوطن وهم لا يحركون ساكنا في عواطفنا المتبلدة نحوهم وكأنهم صورة سريالية رسمت بمواد طبيعية ليتفرج عليها الجميع وهم يعودون إلى أكواخهم البالية في سفوح الجبال فلا بأس إن كنا لا نراهم ولكن أصابتهم صروف الدهر فنفقت ثرواتهم الحيوانية فاستوطنوا في سفوح الجبال دون أن يعبأ بهم أحد فإلى الله المشتكى . وعندها أحس بأنالله قد أحسن بي إذ أفاض على نعمة التعليم وإلا لكنت أحد هؤلاء البائسين .
4: لاشك أن تلك ملامح عصامية في مجال تعليمك ولكنها تعكس تجربة فردية لمسيرتك التعليمية , فما رأيك أن تحدثنا عن بعض قضايا التعليم العامة على مستوى الشرق !
*لا بأس من ذلك ولكن يتحتم عليَ أن أبدا بتقدمه عن التعليم على مستوى السودان عامة . و كما هو معلوم السودان قطرمترامي الأطراف و متعدد الاثنيات وتبعاً لذلك تعددت لغاته ولهجاته ، وتؤكد الدراسات إنها تربو على المئة واللغة القومية هي اللغة العربية , و اللغة إحدى مقومات الدولة وهي واسطة عقد هذا الوطن وهي لغة التفاهم بين جميع السودانيين ولكن لا بد من الإشارة إلى المعاناة التي يكابدها أصحاب اللغات الأعجمية عند التحاقهم بالمدارس إذ عليهم تعلم اللغة العربية أولاً لأنها الوسيلة التي يفهمون بها بقية العلوم . فأبناء البجا كغيرهم يشكل لهم هذا الحاجز اللغوي معضلة كبيرة خاصة في مجال التعليم . ففي عهد الاستعمار حظي التعليم باهتمام خاص فيما يتعلق بأبناء البجا . فالانجليز علمتهم إمبراطوريتهم التي ما كانت تغيب عليها الشمس كسر هذا الحاجز اللغوي وما كانوا يولون أحداً من رجالهم إدارة شعب من الشعوب دون أن يتعلم لغتهم وذلك ما حدث عندنا و لدّى عدة أدلة على ذلك .
الأول : العلماء الذين كانوا يدعون أنهم لديهم دراسات أنثروبولوجية و يجوبون الفيافي مع البجا الرعاة ويعودون وهم يتحدثون لغة هؤلاء بطلاقة .
الثاني : العديد من رجال الإرساليات الذين يدَعون مساعدة المحتاجين يأتون إلينا وهم يتحدثون البجاوية بطلاقة ويباشرون الأعمال الموكلة إليهم بحرية دون أن يطلبوا مساعدة من الآخرين ودون أن يطلع أحد على الأساليب التي يتبعونها في تنصير الآخرين.
الثالث : أوكلت مهمة إدارة إقليم البجا الذي سمى رسمياً بهذا الاسم ( و الممتد من القضارف جنوبا وإلى الحدود المصرية شمالاً ) إلى أحد أبناء البجا تفضيلاً له على الإداري الانجليزي لعدم معرفته للغة البجاوية وهو وزير الإسكان الأسبق حامد علي شاش أطال الله في عمره .
الرابع : تم الحصول على قاموس انجليزي بجاوي مع أحد الإداريين الانجليز يعود تأريخه الى عشرينيات القرن الماضي ، وذلك إن دل على شئ إنما يدل على مدى اهتمام هؤلاء بهذا الأمر .
وعندما جاء الإداري الوطني لهذا الإقليم وجد نفسه مضطراً للتعامل مع أناس لا دراية له بلغتهم ولا معرفة له بتأريخهم وعاداتهم وتقاليدهم فحرص على التمسك بأداء وظيفته والتمتع بالامتيازات التي توفرها له دون أن يتمكن من تقديم المساعدات اللازمة لهم في إطار المهام الموكلة إليه، فأصبحوا ينظرون إليه نظرة أسوا من تلك التي كانوا ينظرون بها إلى المستعمر فانعدمت الثقة بينهما . ويروي لنا سعادة وزير الإسكان الأسبق حامد علي شاش أن أحد الإداريين الانجليز الحادبين على تلميع سمعة إمبراطورية قال له : إنني أعلم جيداً أن بريطانيا ما عادت إمبراطورية عظمى كما كان يطلق عليها سابقاً ولكننا مازلنا على قدر كاف من الكفاءة الإدارية لنتمكن من تقديم الخدمة للبجاوية العجوز التي تهيم على وجهها في الفيافي وراء غنينماتها. ويبدو صدق تلك الكلمات في السياسة التي اتبعها هؤلاء في رشهم لتقاوي القش بالطائرات قبل فترة كافية من هطول الأمطار. كما نلمس صدق تلك الكلمات أيضاَ في سياستهم التعليمية في هذا الإقليم. إذ كانوا في متابعة مستمرة لأبناء الإقليم للتأكد من مواظبتهم على الدراسة و إجراء الإحصاءات الدورية ومعرفة أسباب التسرب بينهم وكانوا يعطونهم فرصة خمس مقاعد للسماح لإبنائهم في الدخول إلى المدارس حتى ولو كانوا غير متفوقين . وهذا الحرص حملهم أيضاً على تعيين الأستاذ عبد القادر أوكير وزيراَ للتعليم لمتابعة تنفيذ تلك السياسات. ومن الطريف في الأمر أن أحد إداريي التعليم من أبناء الوطن تقدم بشكوى ضد أوكير متهما إياه بعدم الإلتزام بالنظم واللوائح الادارية ، فجمع بينهما المفتش الأجنبي في جلسة محاسبة وطلب من الاداري الوطني أن يوضح فحوى شكواه ضد سعادة الوزير و من ثم بين للاداري الوطني بأنه جمع بينهما ليؤكد له بأن ما قام به أوكير من ضمن سياستهم التعليمية لإلحاق أبنا البجا بالركب الحضاري للآخرين. فكان أوكير – طيب الله ثراه- يحرص حرصاً شديداً في تعيين أبناء البجا الناجحين في وظائف التعليم ويبعثهم إلى بخت الرضا ليعودوا ويدرَسوا في مناطق الشدة من ذلك الإقليم ليؤدوا المهمة التي لا يكاد يتصورها الآخرون إذ كانوا يقومون بتدريس الحصة مرتين مرة باللغة العربية و أخرى باللغة البجاوية ليفهم الذين لا يعرفون العربية الدرس. بل من حرصه على اتباع تلك السياسة التي ورثها من المستعمرفي توعية أهله ، كان يقدم برنامجاً اسبوعياً يبث من الاذاعة السودانية باللغة البجاوية لتكون لديهم وحدة فكرية وطنية وأن يحسوا بالانتماء إلى الوطن الأم . و في العهود الوطنية ضرب بتلك السياسات عرض الحائط وأصبح البجا لا ينالون من التعليم سوى التوبيخ والاتهام بالبلادة والجمود لعدم مقدرتهم على فهم الدروس التي ما كان للمعلم الوطني يستطيع أن يقدمها لهم بلغتهم البجاوية . فاتسعت رقعة تسرب أبنائهم من المدارس واستنكف الآباء عن إرسال أبنائهم إلى المدارس فأورثهم ذلك تخلفاً مزمناً وبعدت الشقة بينهم وبين التقدم والتحضر واللحاق بركب الآخرين ليتم الانتقال من الحياة البدوية الرعوية إلي الحياة الحضرية فتلك أعقد المصاعب التعليمية التي أثَرت على أبناء البجا تأثيراً سلبياً ووضعتهم تحت طائلة بند التهميش دونما قصد وذلك بتجاهلهم للسياسات التعليمية التي سبق أن وضعت للحد من تلك المشكلة . فقضية التعليم في الشرق أمرها عظيم لأن الآخر ما زال لا يفهم حقيقة المشكلة بل أصبح لديه مفهوماً خاطئاً ببلادة هؤلاء وعدم مقدرتهم على الفهم ويجب ألا يخفى علينا أهمية دور اللغة العربية في حياتهم لأنها الوسيلة الوحيدة التي تفهم بها بقية العلوم و لا نرى أي توجه أو مبادرات لتدارك هذا الموقف . ومن العجيب في الأمر تجري مفاوضات السلام وينصب جل اهتمامها على إيقاف صوت السلاح وينسون بؤرة المشكلة التي تتسبب في عملية التهميش وهي اللغة البجاوية وقد فات على المفاوضين الحكوميين أن حملة السلاح معهم أبناءهم وشرعوا عملياً في وضع المناهج التعليمية باللغة البجاوية وتمكنوا من طباعة الكتب المنهجية باللغة البجاوية فهلا التفت المسئولون لخطورة الأمر وأن اتفاقيتهم لا تكاد توجد حلاً جذرياً للمشكلة . أما القضية الأخرى التي أدت إلى تأزم الموقف هي الكثافة السكانية التي تبددها الحياة الرعوية ويجد القائمون بأمر التعليم صعوبة شديدة في تحديد مواقع المدارس لعدم توفر العدد الكافي من التلاميذ لفتح الفصول الجديدة . وحتى في حل هذه المشكلة فات عليهم إتباع السياسة التعليمية التي أقرت سياسة المدرسة المتنقلة وقد نفَذت عمليا بين القبائل المتنقلة في الغرب و قد ذكر ذلك في كتاب ذكرياتي في البادية للاستاذ حسن نجيلة وقد بدأ تنفيذها وزير التعليم الأسبق أوكير ولكن الأمرتنوسي وآلت الأمور إلى ما هو أسوأ مما كانت عليه في السابق وتعتبر تلك بؤرة المشاكل التي تجذر عملية التهميش و لا حياة لمن تنادي .
وثالثة الأثافي في مشكلة التعليم هي إلغاء صندوق البجا الذى أسس خصيصاً لمساعدة أبناء البجا في دفع الرسوم المدرسية وتوفير الزي المدرسي ومدهم بمصروف الجيب ، وكان مصدر تمويله الرئيسي يتكون من نسبة بسيطة كانت تخصم من عائدات مشروعي القاش و طوكر بالإضافة إلي الضريبة والعشور المفروضة على زعماء القبائل لتسهيل عملية مواصلة تعليمهم، وكان يتم ذلك تحت بند ( من دقنو و أفتلوا ) إذ لم تكن الدولة تتحمل شيئا من تلك التبعات المادية . ومن الوطنيين من لا يرحم ولايترك رحمة الخالق تنزل على العباد وعلى رأس هؤلاء الرئيس نميري - عفا الله عنا وعنه- إذ بادربإصدار قرارمفاجئ بإلغاء هذا الصندوق دون أسباب تذكر فكانت تلك طامة كبرى حيث يعود تأريخ تأسيسه إلى عام 1920 فكان مؤشراً واضحاً يؤكد ما سبق أن أوردناه من أصابع الإتهام التي تشيرإلى جهل الآخرللإحتياجات الضرورية لأبناء البجا مما أدى إلى حرمان الغالبية العظمى منهم من التعليم .و مما زاد الطين بلة يدأت الآثار السلبية لهذا القرارتطالهم حتى في المرحلة الجامعية إذ إضطر الكثيرون إلى مغادرة مقاعد التعليم الجامعي دون أن تمد إليهم يد العون من أي جهة كانت . أبعد هذا ننكر عليهم مطالبتهم بالمساواة في تقسيم الثروة التي تذخر بها منطقتهم والتي تذكر كتب التأريخ مجابهتهم للقادمين لأخذها كالفراعنة وغيرهم ؟ وصدق من قال :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ***على النفس من وقع الحسام المهند
أخي إسمح لي أن أزيد القارئ من الشعر بيتاً إذ عمد أبناء البجا في المهجر إلى انشاء جمعيه خيرية لمساعدة هؤلاء الغلابة لتوفر لهم السكن في العاصمة الوطنية وذلك تحت اشراف مولانا القاضي محمد طاهر علي عيسى – عليه شآبيب الرحمة والغفران - و لكن عاقت تنفيذ هذا التوجة بعض السياسات الادارية المتعنتة حيث رفض تقديم المساعدات الرسمية لهم كبقية الطلبة الجامعيين من بطاطين وأسرة لمجرد أنهم اختاروا لتجمعهم أسم جمعية البجا و اشترط عليهم اختيار اسم آخر والا سيحرموا من المساعدات وتم تنفيذ ذلك بالفعل. فالذين يقوموا بمثل تلك الاشتراطات هم سفهاء أحلام ولا يدركون كنه المشكلة بل يزيدونها تعقيدها ويحرمونهم حتى من أبسط الحقوق التي تقدم لأقرانهم من الطلبة الآخرين وذلك مما يوغر الصدور إذ أنهم لا يدركون حجم المعاناة التي كان يعانيها هؤلاء للوصول لتلك المراحل فتؤكد لهم مثل تلك الممارسات الرعناء أنهم كانوا أسعد حالا في عهد المستعمر عنه في العهد الوطني فحق لهم أن ينفروا إلى حمل السلاح لتحقيق أبسط حقوقهم الوطنية . أخي تلك بعض المشاكل التعليمية التي لا زالت تنتظر حلولاً جذرية لإيقاف عملية التسرب وحفظ الحقوق المشروعة لهم ورد الاعتبارات الوطنية لهم ليلتأم الجرح وتحل المشكلة وتعود الثقة بالمسئولين الوطنيين في مثل تلك القضايا . أخي معذرة للاسهاب في هذا الأمر لأنه قليل من كثير يجب أن يفهمه الآخرون لوضع تلك المشاكل في بؤرة الاهتمام.
5/ أخي أدروب لقد أسهبت في أمر التعليم ويثبت لنا ذلك العديد من الحقائق التي لم تكن في الحسبان فدعنا ننصرف عن قضايا التعليم لتلقي لنا بعض الأضواء على مسيرتك الوظيفية والنتائج التي ترتبت على تلك التجربة العملية .
* لا شك أنها تجربة مهمة للانخراط في سلك الحياة العملية ولها مذاق طيب و خاصة لأنها جاءت بعد رحلة طويلة من الصبر والاجتهاد في مجال التعليم . ومن المواقف التي جابهتني في الانخراط في سلك الخدمة المدنية ظهور السلوكيات الجهوية من بعض القائمين على تنفيذ المسؤوليات الإدارية ، أمر الوساطات والمحسوبيات التي أقل ما يمكن أن توصف به إنها جهوية وعنصرية ولم نعهدها من قبل. وكان في كثير من الأحيان يتضح بما لا يدع مجالاً للشك أن بعض المواقع أصبح يسيطر عليها أبناء قبيلة بعينها . فكان أحدنا يتقدم للوظائف مع الآخرين فلا يجد ترحاباً لدى المسؤولين لدرجة أنه في بعض الأعمال التي لا تحتاج إلى مؤهلات تعليمية والتي أصبحت تشغل بأناس مجلوبين من مناطق أخرى بعيدة بحكم وجود أقربائهم هنا وعند الاعتراص على ذلك الاسلوب أصبح الآخرون يسلقوننا بألسنة حداد بقولهم المعهود ( انتو جبتونا من وين ) فينطبق عليهم المثل القائل : دجاجة الوادي طردت جدادة البيت.
و نتيجة لذلك كتب علينا أن نعيش على هامش الحياة العملية ونجوب في أرجاء المدينة على غير هدى و ذلك أمر مؤسف حقاً.
6/ أخي أدروب لا شك أنك على علم بأن الناس أصبحوا يتباكون على تدهور الخدمة المدنية في السودان والتي كانت تعتبر أفضل خدمة مدنية في أفريقيا، ولعل ما ذكرت نتيجة حتمية ترتبت على تدهور واضمحلال الخدمة المدنية ألا توافقني على ذلك ؟
• أسمح لي أن أختلف معك فيما ذهبت إليه في هذا الصدد ولا بد أن تعلم أن هناك صراعات خفية وتنافساً مصلحياً محموماً سواء أكان على مستوي الأفراد أو الأحزاب . وتستطيع أن تدرك خطورة هذا الأمر بما آلت إليه أحوال عمال الشحن و التفريغ ببورتسودان . وكذلك سياسة الابعاد التي تلت ذلك بين أبناء البجا في وظائف هيئة الموانئ البحرية وكذلك العديد منهم يشكون من صور المحاباة والمحسوبية حتى على مستوى الترقيات التي تستدعي في بعض الأحيان جلب موظفين من مناطق أخرى لتفويت فرص الترقية على إبن المنطقة . بل إننا بدأنا نلاحظ ذلك على مستوى السلطات العليا . خذ مثلاً بعض المواقف التي بدرت من سيادة الرئيس وذلك عندما حضر لافتتاح مرسى أوسيف طلب منه أبناء البجا أن يمهد لهم الطريق لشغل بعض الوظائف الإدارية فما كان منه إلا أن أفحمهم بقوله: إنتو ما عندكم كوادر مؤهله و لا نوليها إلا القوي الأمين، وأردفها بطامة كبرى عندما جاء يفتتح ميناء بشائر غمرته نشوة الفرحة فتفاجأ الحضور بقوله : نحن أخذنا السلطة بالسلاح و العاوز السلطه فليحمل السلاح فكان ذلك من العوامل التي دفعت الكثيرين من الشبيبة البجاوية الى التسابق لحمل السلاح .
يضاف إلى ذلك ما حل بأهل منطقة هوشيري حين تم نزع أراضيهم الزراعية لإقامة ميناء بشائرلتصدير البترول وقطعت أرزاقهم وما عاد عليهم من تعويض في نزع أراضيهم سوى قطعة أرض غرب شارع الزلط و لاحقتهم فيها السلطات الولائية تطلب منهم دفع قيمة الأرض . و إذا قارنا ذلك بالتعويضات التي منحت لمواطني المربع 9 بالقرب من جبل أولياء يتأكد لنا أنَ حقوق المواطنين تكال بمكيالين حيث بنيت لهم المساكن والمستشفيات ووعدوا بالكثير مما سيقدم لهم في المستقبل القريب ، أحرام على ببلابله الدوح وحلال على الطير من كل جنس ؟
أما سعادة وزير المالية الاتحادي في مؤتمر تنمية الشرق عندما طالبة المؤتمرون بتحديد نسبة من دخل الميناء ومناجم ذهب آرياب لتطوير المنطقة فاستنكر عليهم ذلك وقال: لا تفكروا في ذلك بجهوية ولا قبلية ولا تعصب وناس الشرق يلزمهم أن يتحركوا إلى المناطق الأخرى وألا يتقوقعوا في أماكنهم . وعندما ذكر وزير المالية الولائي – بالطبع ليس من أبناء البجا- أن البند الأول في ميزانية البحر الأحمر وهو بند الرواتب غير مدعوم مما يسبب لهم مشكلة تأخير رواتب العاملين فقال: سعادته ليكن معلوماً لديكم أن ولاية البحر الأحمر احدى ولايتين من دون الولايات الأخرى ( 26 ) لن تقدم لهم مساعدة في هذا البند لماذا الله أعلم تحجب عنهم نسبة من الإنتاج ويحرمون من الدعم الاتحادي ويطالب سكان المنطقة بالهجرة إلى المناطق الأخرى وما علم سعادة الوزير أن أدروب له تجارب سابقة ذهب إلى الغرب وفشل في الحصول على كشك كبقية المواطنين وذهب إلى الشمال وفشل في الحصول على قطعة سكنية وإحتج على منحه إياها لأنه اسم أدروب لا يريدونه بينهم وذهب إلى العاصمة فصودرت منه السكاكين والسيوف التي يعتمد عليها في كسب رزقه فماذا تسمي ذلك غير عدم الإعتراف به والإنتقاص من حقه الذي يتمتع به الآخرون ؟
أما مؤتمر تنمية الشرق المنعقد في كسلا فحدث ولا حرج فأبرز ماورد فيه من تجاهل لهؤلاء أن الأخ بابكر دقنه- كثّر الله من أمثاله - تقدم باقتراح للمؤتمرين بمنح كل أسرة رعوية مبلغ 50 ألف دينار لتقابل به المتطلبات المدرسية لأن أسرهم لا تستطيع أن توفر لهم هذا وذلك مما سيحرم أبناءها من التعليم فتجوهل الامر برمته. وهناك الكثير من المظالم التي يشكو منها أهل أدروب . فمثل هذه التصرفات إن كانت غير مقصودة ولا علم للآخر بها فتلك مصيبة وإن كانت مقصودة كما يحدث من بعض الإداريين فالمصيبة أكبر .
7/أخي أدروب يبدو أنَ عقلك الباطن مترع بمشاكل لا تحصى ولا تعد ولكن الوقت يمضي سراعاً ، فهل من كلمة أخيرة تختتم بها هذا اللقاء ؟
نعم فتلك سانحة كريمة أؤكد فيها للقارئ الكريم بأن لسان حال أهل المنطقة يردد المثل القائل : ( إياك أعني واسمعي ياجارة ) فتلك مشاكل تراكمت منذ إستقلال السودان عام 1956 فتلبدت غيومها عبر الحكومات الوطنية المتعاقبة وبادر أهل الشرق منذ البداية بعرض قضيتهم بتكوين حزب سياسي في إكتوبر عام 1958وانعقدت جمعيته العمومية الأولى في بورتسودان بقيادة نخبة من المثقفين على رأسهم الدكتور طه عثمان بليه واخوته الكرام - رحمهم الله جميعاً - و بحضور كل من سعادة السيد رئيس الوزراء عبد الله خليل وسعادة السيد علي عبد الرحمن وزير الداخلية وتم إعلان تكوين(حزب مؤتمر البجا ) وألقيت فيه قصيدة عصماء من قريض الشاعر البجاوي الطبيب محمد عثمان الجرتلي – رحمه الله – فأبدع فيها غاية الإبداع مشخصاً أبعاد المشكلة فلنستمع إلى صدى صوته السحيق الذي مضى عليه أكثر من نصف قرن من الزمان حيث يقول :
وتعاقبت فيه حكومات فلم *** تلقي لكم غير الفتات المجهد
فالجوع يجتاح البلاد مخرباً *** والفقر والآلام والعيش الردي
والجهل والأمراض تفتك جمة *** والموت بينكم لكم بالمرصد
ضاقت بنا الدنيا وقلَ نصيرنا *** ونسير حتماً للفناء الأسود
إن لم تنيلونا الحق وتلفتوا *** أنظاركم نحو الشقاء الزائد
بالعلم والإصلاح والحق الذي *** هو حقنا بل حق كل مجاهد
وتوفروا سبل الحياة وتوجدوا *** خير العلاج لعاجز ومسهد
ومن ثم يقتبس المثل السوداني القائل ( المادارك مالامك ) فيفزع إلى اسلوب العتاب ودفع تهم الانفصال عنهم قائلاً :
إخواننا هذا عتاب صارخ *** من مهجة الشرق الكليم المقعد
أنتم تفوقتم فشدوا أزرنا *** فنشد أزرمكو ولن نتردد
ودعوا كلام المفسدين ولغوهم *** إنا بني السودان فخر المولد
قد أول الحساد مؤتمراتنا *** دعوى إنفصال بئس قول الحسد
إنا نطالب حقنا من أهلنا *** وبني عمومتنا كرام المحتد
فتلك رؤية ثاقبة توارثوها الجيل بعد الاخر إلى أن نفد الصبر وتبخرت الآمال فهرعوا إلى حمل السلاح مستعيدين صدى قول شاعرهم :
إن تتركونا للردى سنذود عن *** أرواحنا في يومنا أو في غد
فشريعة الدنيا نضال دائم *** والنصر للحر الكريم الماجد
ومعذرة للإسهاب فالقصيدة تتكون من ستين بيتاً جادت بها قريحة الشاعر بشرح تفصيلي لجميع جوانب المشكلة . وقول أخير أوجهه للإخوة الذين ترتفع أصواتهم بين الفينة والأخرى مطالبين بتغيير إسم مؤتمر البجا بحجة أن الشرق به مواطنون من عرقيات أخرى ولايريدون الإنضواء تحته وهذا من حقهم ونوضح لهم التالى :
أولاً : ليعلم الذين لايعلمون أن هذا الإسم مضمن في أضابير دار الوثائق المركزية و كان يمثل الإقليم الممتد من القضارف جنوباً إلى الحدود المصرية شمالاً و مسماه الإداري ( إقليم البجا ) .
ثانياً : أما إسم ( مؤتمر البجا ) فهو ماركة تجارية مسجلة منذ بدايات الإستقلال لأنه ضمن الأحزاب التي أخذت بزمام المبادرة في الولوج إلى الساحة السياسية وعن طريقه تم الدخول إلى دهاليز البرلمان الأول ولايفوتنا أن نذكرهم –لأن الذكرى تنفع المؤمنين – بأنه حزب مفتوح للجميع كغيره من الأحزاب ولكنه حزب على رأس أولوياته إنقاذ البجا من براثن الجهل والعري والفقر والمرض فالذين لاتروق لهم تلك الأهداف والإستراتيجيات لهم مطلق الحرية للإنتماء للحزب الذي يروق لهم وإن كان منهم من أنكروا على شبابنا حمل السلاح وكانوا ينظرون إليهم شذراً عندما كانت ترتفع الأسنة ويقعقع السلاح وسرعان ما تصدروا المجالس وجاهروا بلإنتماء إلى الشرق عندما وضعت الحرب أوزارها وإنتهى الأمر إلى توقيع الاتفاقيات. وإعترافاً لهم بهذا الحق تمت الموافقة على تسميته المسمى الجامع بجبهة الشرق وجدير بالذكر أن الإنتخابات على الأبواب وسينصرف هذا المنتدى إلى مغريات جديدة في مواقع أخرى ولكن يجب ألا ينسوا أن هنالك من هم في واقع الأمر من يعز عليهم أن يتركوا أهلهم في هذا الضياع دون مد يد العون لهم لأنهم ينحدرون من أصلاب الحفاة العراة الذين يجوبون الفيافي والغفار والجمرة تحرق الواطيها ولن تباع القضية لأننا ما زلنا في بؤرة الحدث .
ثالثاً : فشعار المرحلة ( لن يحك جلدك مثل ظفرك ) فأبناء البجا أولى من غيرهم بمتابعة ملفات مشاكلهم التي يعانون منها منذ بداية الإستقلال .
وبقي أن يعلم القارئ الكريم أن حيثيات هذا الحوار مصادرها منتديات المثقفين من شباب البجا فأردت أن أجمل بعضها عبر هذا الحوار المهني وأرجوا أن أكون قد وفقت في تسليط الأضواء على بعض المحاذير التي تتربص بنجاح إتفاقية جبهة الشرق ونسأل الله أن يعجل لنا بنجاحها وليعلم الجميع إنها قضية مفتوحة النهايات ولاتخص عهداً دون آخر وليعلم الجميع إنها قضية سيواجه بها كل من يأتي إلى سدة الحكم أياً كانت وسيلته فقد نفذ الصبر وبلغ السيل الزبا. و لا يسعني في النهاية إلا أن أردد مع الشاعر البجاوي حيث يؤكد الإنتماء إلى أرض الوطن الموحد قائلاً :
سوداننا تفديه كل قلوبنا *** يوم الردى جل الفدى والمفتدي
إنا لنهوى أن نراه مخلداً *** يختال فخراً فوق هام الفرقد
ونرى بنيه الفاضلين تبوأوا *** في عالم الأحرار أحسن مقعد
وإلى لقاء والله الموفق !!!
محمد أحمد عبد الرحيم
دافع الضرائب
الرياض
سونا سابقاً
muhammad hydrabi [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.