ص الرأي – التيار – يوم الأربعاء 18/8/2010 بحصافة يجد الزائر الى مستشفى الزيتونة التخصصي في الخرطوم، مريضاً كان أم مرافقاً قلقاً، أو حتى سائحاً متفرجاً، نفسه أمام صرح معماري حضاري، تعتمل في دواخلهم جملة تساؤلات، ويثير فيهم الدهشة والتأمل، والاستغراق في الحيرة والاستغراب. فالمريض ينسى ولو إلى حين آلام المرض، وابتلاءات اعتلال الصحة، والمرافق القلق يتناسى لبعض من الوقت قلقه على مريضه، والسائح المتفرج يتساءل بدهشة وانبهار عن حقيقة هذا المعلم الطبي الأبرز في السودان. ولتبيان حقيقة هذا الاندهاش، وذلك الانبهار الذي حدث في نفوس الزائرين، أحسب أنّه من الضروري التوقف عند جملة ملاحظات تثير في دواخل المرء سودانياً كان أم أجنبياً عدة تساؤلات، ولقد أتيح لي زيارة مستشفى الزيتونة التخصصي زائراً متفرجاً أكثر من مرة، لذلك ينبغي بسط القول فيها برفق وتؤدة منها التساؤل الأبرز، وهو هل هذا المستشفى التخصصي صناعة سودانية؟، بدءاً من الفكرة النيرة في البحث العلمي والعملي في المساهمة الفاعلة في توطين العلاج في الداخل، مروراً بالطراز المعماري الفخيم، وانتهاء بالإنسان الهميم في مواقع المستشفى المختلفة. إذ لم يألف السودانيون أن يقوم مستشفى خاص في بناءٍ صمم بمواصفات معمارية متميزة على غرار مستشفيات العالم الحديثة من حيث المباني والمعاني. فقد أسست الكثير من المستشفيات والمراكز الطبية الخاصة في مبانٍ لم تصمم خصيصاً لهذا الغرض، لذلك تجد مباني هذه المستشفيات والمراكز الطبية الخاصة ينعدم فيها التناسق المعماري والهدف المقصود من المنشأة. أما في مستشفى الزيتونة التخصصي تجد نفسك من الوهلة الأولى أنك أمام مستشفى مكتمل المواصفات المعمارية المقاربة لمستشفيات أوروبية وأميركية حديثة التي لا تغفل اللمسات المعمارية المتطورة، لجعلها معالم معمارية متقدمة وعصرية. وفي رأيي الخاص الزائر المتأمل لمستشفى الزيتونة التخصصي يجد المريض مطمئناً، والمرافق مندهشاً، والطبيب مرتاحاً، والممرضة ملاكاً إنسانياً رفيقاً، والإداري بشوشاً لطيفاً، والحارس قوياً أميناً، والزائر حائراً فرحاً. وقد أصبح هذا المستشفى، في فترة وجيزة، معلماً حضارياً بارزاً، فسابق الزمن عُمراً، وتطاول في البنيان سموقاً، وذاع صيته شهرةً وحديثاً. وأحسب بقليل من الجهد الإعلامي، وبالتسويق الذكي، وبالإعلان الحصيف، سيكون لمستشفى الزيتونة التخصصي شأن عظيم في المساهمة الفعالة في الجهود المخلصة المبذولة لتوطين علاج السودانيين في الداخل. وكذلك بتضافر جهود المستشفى الإعلامية والتسويقية والإعلانية تجاه استقطاب طالبي العلاج في الخارج من دول الجوار الذين يعانون حالياً الأمرين، رهق تكلفة العلاج، وعناء طول الأسفار. ولما كان الحديث في هذه العُجالة عن مستشفى الزيتونة التخصصي في الخرطوم، وكيفية المساهمة الفاعلة في جهود توطين العلاج في السودان، ينبغي التطرق بإيجاز، لتكلفة العلاج في الخارج وإرهاقها للخزانة العامة، بالإضافة إلى فقدان الثقة في النظام الطبي والصحي في السودان، لذلك اعتبر الدكتور كمال عبد القادر وكيل وزارة الصحة الاتحادية، خلال مخاطبته ندوة "العلاج بالخارج لماذا؟" في 17 أكتوبر الماضي، زيادة السفر طلباً للعلاج في الخارج، فقدان ثقة في النظام الصحي بالبلاد، مطالباً بضرورة توفير نظام صحي منسق وكامل، ووضع معالجات عاجلة لسد الثغرات، وتصنيف الأمراض عبر المجالس الاستشارية لتحديد إمكانية علاجها في الداخل من عدمه، وإعلان الحالات التي لا شفاء منها، مؤكداً أهمية ايجاد قطاع خاص في البلاد يماثل القطاع الخاص في الخارج لإصلاح النظام الصحي، وإعادة الثقة في الطب بالبلاد، مشيراً الى أنه لا يمكن علاج كل السودانيين في الداخل، وأن أعداد المسافرين بغرض العلاج لا تعكس النظام الصحي في الداخل، مبيناً أن دور وزارته جعل السفر للخارج بغرض العلاج خياراً وليس ضرورة. بينما أوضح الدكتور محجوب مكي رئيس القومسيون الطبي، في الندوة نفسها، أن متوسط التكلفة المالية للعلاج في الخارج بلغ أكثر من 12 مليون دولار في العام الماضي، فيما بلغت الحالات المحولة عن طريق القومسيون الطبي 1396 حالة، وذلك وفقاً للتقديرات المرسلة بواسطة السفارات. وليس بخافٍ على أحدٍ أن هنالك عدة مشاكل تواجه المرضى السودانيين في الخارج، أبرزها عدم وجود متابعة للمساءلة القانونية عن الأخطاء الطبية، ونتيجة للتكلفة المالية الباهظة، يحرص المريض ومرافقوه على استعجال العودة دون المتابعة الطبية الكافية للتأكد من التشافي والسلامة من أي تداعيات من جراء العملية العلاجية.. الخ، بالإضافة الى انتشار ظاهرة سماسرة العلاج الذين قد يوجهون المرضى ومرافقيهم الى أماكن غير موثوق فيها، مما يؤثر سلباً على حالة المريض، ويعجز عن المقاضاة واسترداد حقوقه، ولات ساعة مندم. ومن المعلوم أن سفارة الأردن في الخرطوم وحدها تصدر أكثر من 2000 تأشيرة لسودانيين شهرياً، معظم هذه التأشيرات تمنح بغرض العلاج في المستشفيات والمراكز الطبية بالأردن، وأن التكلفة المالية للعلاج في الأردن فقط لا تقل عن 500 مليون دولار سنوياً، في حين أوضح تقرير لبنك السودان المركزي أن تكلفة العلاج في الخارج توازي حجم صادرات البلاد في غير المواد البترولية. فيما أكد الأخ الدكتور صابر محمد الحسن محافظ بنك السودان المركزي في ندوة "العلاج في الخارج لماذا؟" استعداد البنك لمراجعة سياساته الخاصة بتمويل القطاع الخاص والنقد الأجنبي، مشيراً إلى أهمية مراجعة مؤسسات الدولة ذات الصلة لسياساتها بما يدعم العلاج في الداخل. أخلص الى أن هذه التقدمة كانت مهمة للفهم الصحيح لأهمية المجاهدات الرسمية وغير الرسمية في سبيل توطين العلاج في الداخل، للانعكاسات المنظورة وغير المنظورة على الاقتصاد الوطني، من هنا كان التفكير العميق المتأني عند الأخ البروفيسور مأمون محمد علي حميدة رئيس جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا في مزاوجة هذه المؤسسة التعليمية الحديثة التي أصبحت شهاداتها الجامعية وفوق الجامعية معادلة للشهادات الجامعية وفوق الجامعية للجامعات الأوروبية والأميركية، بمؤسسة علاجية متطورة، تنطبق عليها المواصفات العالمية الحديثة، علاجاً وتطبيباً وتطوراً، وحداثةً وريادةً في المباني والمعاني، فعمل جاهداً، فكراً خلاقاً، وجهداً مخلصاً، وتخطيطاً محكماً، وتنفيذاً صارماً، لتأسيس مستشفى الزيتونة التخصصي في الخرطوم الذي صار معلماً بارزاً، وصرحاً شامخاً، تتلألا به الخرطوم ليلاً، ويزدان به شارع السيد عبد الرحمن المهدي في صبحه والمساء. والبروفيسور مأمون حميدة لمن لا يعرفه شعلة متّقدة من النشاط، ومعروف عنه كثرة المبادرات، تواقٌ الى الجديد والعصرية في كل مرحلة من المراحل، عاشق للتميّز. كان أستاذنا الجليل البروفيسور صديق أحمد إسماعيل عميد كلية الدراسات العليا الأسبق في جامعة الخرطوم، والنطاسي الشهير - شفاه الله تعالى - قليل الحديث عن تزكية الناس، فهو في ذلك لا يزكي أحداً على الله ، ولكن في أكثر من مجلس سمعته يتحدث عن مأمون بخير ويشيد بمبادراته وتميزه في الطب والتعليم العالي، حتى من اختلف معه شهد له بالروح المبادرة والاشرئباب الى التفوق والتميز. ولا نزكي أحداً على الله، ولكننا مأمورون بشهادة الحق، لهذا لا أحسب شهادتي به مجروحة حتى بالمعنى الخاطيء المتداول بين كثير من الناس، وهي "أن شهادتي به مجروحة"، أي لا يمكن قبولها بحجة أنني غير محايد في هذه الشهادة بسبب محبتي أو معزتي له، فهذا قول منكور، لأن الأصل في شهادة المسلم، وهي مطلب شرعي، أن يقول الحق ولو على نفسه. لهذا نشهد بالحق كله، حتى لا يتنزل فينا قول الله تعالى: "وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ". وفي علم الحديث الجرح والتعديل علم يبحث فيه عن جرح الرواة وتعديلهم بألفاظ مخصوصة، وعن مراتب تلك الألفاظ. وهو يستمد شرعيته من باب صون الشريعة وقصد النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم، وعامة المسلمين، لا طعناً في الناس على جهة التنقيص المجرد عن المصلحة الشرعية، ولا غيبة لأعراضهم فيما ليس مباحاً من هذا الجانب، وكما جاز الجرح في الشهادة "الشهود" جاز في الرواية "الرواة " فإن التثبت في أمر الدين أولى من التثبت في الحقوق والأموال. لذلك من الضروري ألا نكتم الشهادة بحجج واهية وأقوال غير شرعية. أردنا من كل ذلك تبيان حقيقة أن مبادرة الأخ البروفيسور مأمون حميدة لإنشاء مستشفى الزيتونة التخصصي في الخرطوم جهدٌ مقدرٌ في الإسهام الفاعل في توطين العلاج في الداخل، ويهدف أيضاً ضمن جملة أهداف الى تقديم خدمات طبية عالية على درجة متقدمة ومتميزة من الكفاءة المهنية، في إطار مستشفى متكامل للخدمات الطبية يعمل على مدار الساعة، بخبرات طبية سودانية مؤهلة تأهيلاً أكاديمياً ومهنياً عالياً في المملكة المتحدة وايرلندا والولايات المتحدة الأميركية، ومارست العمل في بعض الدول الغربية والعربية. وفوق هذا وذاك يهدف المستشفى الى تقديم خدمات متطورة ومتميزة للمرضى، باعتبار أنهم الهدف الرئيسي من تشييد هذا المستشفى، وبالضرورة أن تبنى هذه الخدمات الطبية المتميزة على رؤية متقدمة للخدمة العلاجية، حيث يكون المريض هو محور اهتمام المستشفى. وسنستعرض غداً بإذن الله تعالى في الحلقة الثانية من هذه العُجالة بقية الأهداف، ثم نعرج الى المعاني التي انبثق منها مسمى مستشفى الزيتونة، ونتطرق أيضاً الى مغزى عنوان هذه العُجالة بشيء من الإيجاز والإفهام. ولنستذكر في هذا الخصوص، قول الله تعالى: "يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ". وقول الشاعر العربي عمر بن أبي ربيعة: فتضاحكن وقد قلن لها حسن في كل عين من تود حسداً حملنه من أجلها وقديماً كان في الناس الحسد Imam Imam [[email protected]]