أود أن أقف بك – عزيزي القارئ – على شفا معضلة تنتشر في صحفنا وتستشري في منابرنا , أعني بها ظاهرة شخصنة القضايا العامة واختزالها في أفراد بعينهم فترتبط بشخوصهم , لاتذكر إلا ويذكرون معها , فيصبحان – القضية والشخص – كمترادفين أوطريقين لايؤديان إلا إلى بعضهما , حتى ليخيل لنا بأن القضية المعينة أبصرت النور على يدي ذلك الشخص , ولن توأد إلا على يديه . وكمنتج تلقائي لمثل هذا الربط التعسفي بين القضية والشخص تجد كثيرا من الناس ينصرفون عن القضية الأم وجوهرها وينخرطون في أحاديث جانبية , تتصل بالشخص وتتناول أبعاداً تحيد عن المشكل وأُسِّه , وتأخذ في مجملها الطابع الشخصي الضيق .
يجد البعض في ذلك فرصة للإصطياد في الماء العكر , لتصفية حسابات شخصية , أو إفشاء غبائن حزبية ؛ فتراهم يحاصرون الفرد وشخصيته , يتصيدون حركاته ويترصدون سكناته, يحللون كتاباته ويفسرون تصريحاته , وقد شحذوا أسنة أقلامهم , حتى اذا أبدى رأيه – مقالاً أو تصريحاً – إنتفضوا مجتمعين , وتكالبوا عليه من كل حدب وصوب , وانهالوا عليه همزاً ولمزاً وطعناً ولعنا ؛ فتقع عينك – وقاك الله - على أصنافٍ وألوانٍ شتى من العبارات المسيئة , والمصطلحات القميئة , نسأل الله لهم ولنا الهداية . الغريب في هذا أن جُلّ أولئك الحانقين من حملة الشهادات العلمية العليا والمثقفاتية ؛ منهم – نقتبس عن الأستاذ مصطفى البطل - رجال يتحلقون حول حرف الدال , وآخرون يختمون أسمائهم بألقاب وتعاريف من شاكلة: زيد بن عبيد/ المحامي , وعلقمة ابن مُرّة: المحاضر بجامعة الزراف الدولية - قندهار. بمثال يوضح المقال؛ أنظر – أخي - إلى قضية الاستفتاء على مصير الجنوب , فهي على عظيم شأنها وجسامة أمرها , فإنك تلاحظ أنها ومنذ أن أصبحت القضية الأولى وطنياً – بعد اسدال ستائر الانتخابات – تلاحظ أنها تحولت الى ملهاةٍ بطل جزئها الأول : "الباشمهندس" الطيب مصطفى رئيس مجلس ادارة صحيفة الانتباهة , أو "الخال الرئاسي" كما يحلو للبعض تسميته ؛ فبين ليلة وضحاها أصبح الرجل وبلا منازع نجم الصحف المطبوعة الأول , وشاغل المنابر الاسفيرية الأوحد ، تجده على رأس كل مقال عن الاستفتاء , وبين ثنايا كل تعليق عن الانفصال ؛ حتى ليخيل إليك أنه واضع نظرية الانفصال ومن سنّ سنته , وأن أهلنا في الجنوب سيختارون الوحدة لولا الرجل وصحيفته , تعرض الباشمهندس في تلك الصفحات الى وابل من الانتقادات , ما لبث أن تحول الى سيلٍ جارفٍ من الإساءات , لم يسلم منها هو ولا منبره ولا حتى عشيرته الأقربين , ومن بعدهم أهل الشمال أجمعين . لم يُترك الرجل لحال سبيله إلا بعد أن كُسِر قلمه وأغلقت صحيفته بأن ذُبِح قرباناً على عتبات معبد اتفاقية السلام الشامل , وأريق دمه تنفيذاً لبنود استحقاقاتها , التي طالما جاهر الرجل برفضها – تأمل سخرية القدر!!! أمّا في الجزء الثاني من تراجيديا الإستفتاء , فقد توهج نجم الأمين العام للحركة الشعبية, ووزير السلام في حكومتها القيادي فاقان أموم ؛ بين يوم وليلة أمسى الرجل - بتصريحاته المثيرة للجدل – هدفاً لقصفٍ عنيفٍ من منصات المواقع الاسفيرية والأعمدة اليومية : حُمّل فيها الوزير ما لاطاقة لهُ به , حتى صور لنا أنه لوحده يجر الوطن الى أتون الحرب والإقتتال ، أو - في أضعف الايمان - إلى هاوية الإنفصال , ليس له غرض من ذلك إلا خراب وتدمير الشمال . لم يكتف بعض أولئك بهذا القدر , فأبوا إلا وأن ينحدروا بأنفسهم الى القعر ؛ وإلا فما رأيك في أحدهم كتب واصفاً الرجل بأنه : "عبلانج في مستودع خزف" , فهل سمعت – أخي – أقبح من ذلك تشبيها ؟؟ لست من المدافعين عن كتابات الطيب مصطفى , ولا من المعجبين بتصريحات باقان أموم ؛ ولكني أستغرب للذين يتخذون الرجلين مطية للوصول الى الشهرة السريعة , أو الذين يرتقون مناكبهما إبتغاء مظهريات ثوريةٍ أو إكتساب شرعية نضالية . والرجلان في بداية الأمر ومنتهاه , هدفان مكشوفان لا يحتاج الكتابة عنهما الى بذل عناء ولا الى اصابة وعثاء . ماترك هؤلاء بينهم مساحة للعقلاء , حتى علا صوتهم وكثر هرجهم , في كل صحيفة ومنبر, فاذا ألفيتهم على حالهم تلك ؛ نصيحتي لك : لا تنخ ناقتك أمام منابرهم , ولا تربط رسنها براتب أعمدتهم . * الطالب بجامعة جوبا