نائب رئيس حركة التحرير و العدالة للشؤون السياسية و الإعلامية نقلا عن القدساللندنية المتأمل في سيرورة وتتبعات الحقل السياسوي السوداني وبعد مضي أكثر من نصف قرن ونيف من الزمن يستطيع أن يوثق أن الكيان السوداني غير المتفق عليه شكلا ومحتوى يعيش في هذه المساحة التأريخية من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أحد مظاهر الاحتباس السياسي التاريخي من تأريخه الحديث، هذا الاحتباس كادت أن تصل مفارقاته ومفاصلاته وتشكيلاته العقلانية أو غير العقلانية لترسم أو تحدد الملامح العامة لبداية تاريخ أو تكوين أو تنشئة جديدة، وهي بلا شك تختلف ميكانيزماتها التحتية والفوقية والوظائفية عما هو سائد أو أريد له أن يسود، لتنتج وطنا أو أوطانا مختلفة أو متوائمة ومتسقة مع معطياتها وأدواتها المكونة، وهو الشيء الذي دفع بالعقل الجمعي السوداني هذه الأيام وفي اتجاه مواز إلى تحليلات وتمنيات وجدليات ومساءلات عنيفة بدأ يطرحها التفكير الجمعي السوداني في شارعه العام ولدى أنتلجنسيته الثقافية والسياسية والفكرية والدينية، وهي أنتلجنسيا المؤسسة التي حكمت ووظفت السودان لصالح أجندتها السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية والمعرفية طوال تأريخ السودان. اضافة إلى ذلك فان هذا الاحتباس السياسي وجد امتداداته في منتوج المؤسسة المسيطرة في السودان، فبدأت اليوم من خلال ما تطرحه وتقدمه من منتوج نلحظها تمارس نقدا للذات، في ردة سياسية لكل مسوغاتها وتابواتها الأيديولوجية والثقافية السابقة، وكأنها بذلك تطلب صكوكا للغفران والرحمة من ماضوية كانت رثة ومخلة، حولت فيها كل استحقاقات الاستقلال السوداني في العام 1956 وصانعيه إلى ملهاة ومتاهة إنسانية، فكان رد الفعل السياسي والاجتماعي والديني والثقافي في السودان عنيفا تجاه مؤسسة التمركز الرسمية والفاعلة تاريخيا في السودان وإن اختلفت قنوات شرعنتها ونعوتها ما بين الطائفية والعسكرتاريا المؤدلجة، ستظل كذلك ما لم تصل مجموع الثقافات السودانية والشعوب والتواريخ السودانية إلى عقد اجتماعي جديد يؤمن لها الوطن والمواطنة والوطنية بشكل مغاير. جلد الذات التاريخية وفي إطار رزنامة نقد المؤسسة السودانية الرسمية النافذة تاريخيا لذاتها، بل جلد لها، جاءت على شكل اعتراف أو اعتذار أو مراجعة لماضيها المؤسسي في إدارة الدولة السودانية، وعلى غير المألوف قدمت فضائية 'الشروق' السودانية التي تبث من دبي سلسلة من الدراما السودانية المحلية جاءت تحت عنوان 'حكايات سودانية' أو بالأحرى هي محن أو عقد أو أمراض منتوج المؤسسة الرسمية التاريخية في السودان، هذه الدراما جاءت نقدية لبعض الأفكار السائدة في السودان والتي تقسم الشعوب السودانية إلى نافعين وآخرين غير نافعين، مواطنين سودانيين وآخرين غير مواطنين أو مواطنين بالهبة، مواطنين يتمتعون بالتاريخ والثقافة وآخرين لا يمتلكون تراثا بل حتى وجودا في سلم القيم الإنسانية... إلخ. ففي سلسلة هذه الدراما شاهدت حلقة تحكي وتجسد الهم الجمعي في المفارقة التي يمكن ان تقع بين الشمال السوداني وجنوبه وقد تمتد، كانت أحداثها تدور بين صديقين حميمين من الشمال والجنوب يسكنان منزلا واحدا ويعيشان مع أبنائهما، فإذا بموضوع الاستفتاء وحق تقرير المصير يدفع بأبنائهما إلى التفكير جديا في بيع المنزل أو بناء جدار فولاذي بينهما، ومساءلات نقدية كثيرة لواقع الحال والمآل، فرفض الأبوان الفكرة وهجرا المنزل وبدا كل منهما يقدم نقدا لأسس التعايش الماضوي وبناءاته في أسلوب حكائي بسيط وحزين وسوداوي وفي رمزية سياسية تحمل دلالات ومضامين توحي بمراجعة المؤسسة الرسمية الثقافية لذاتها بعدما وصل الطوفان أشده، في محاولة لمعالجة الخلل الكبير الذي سوف يؤدي إلى السقوط الكبير لماهية السودان، وهذا معناه تعريفا جديدا للسودان وأسسه وأطره ومكوناته، التي تدفع جميعها باتجاه إعادة قراءة التاريخ ومراجعته وتركيبه من جديد، بمعنى تقرير مصير السودان والشعوب السودانية المنضوية تحت لوائها من كل أشكال الهيمنة والاستبداد والاستعلاء والتهميش كأركان وأعمدة أساسية لأية كولونيالية داخلية او خارجية. هذه الثيمة الدرامية التي تحمل معها عاطفة حزينة هي جزء من ثيمات عديدة سوف يعرفها المشهد السوداني في جزئياته وكلياته خلال الفترة القادمة من سنوات الحسم، كانت ذات علاقة وارتباط وثيق باحد المشخصات الصورية التي باتت العنوان الابرز للصحافة المرئية والمكتوبة السودانية خلال هذه الأيام، وأعني بها صورة توقيع اتفاق سلام الجنوب في العاصمة الكينية نيروبي قبل خمس سنوات، التي جمعت بين موقعي الاتفاقية، وهما النائب الأول لرئيس الجمهورية آنذاك علي عثمان طه وزعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان جون قرنق وإيماءاتهما، ويتوسطهما الرئيس السوداني والرئيس الكيني وخلفهما حشد دولي وإقليمي كبيران. مسلم وبخاري السودانيان ففي مقاربة جدلية بين المشهدين، مشهد الثيمة الدرامية النقدية والمحزنة لمصير تقسيم الوطن ومشهد صورة توقيع الاتفاق وإيماءات موقعيه وقلميهما الموقعان بهما، فثمة قراءة تقول ان المشهدين منتجان بل ومكملان لهما، فالدلالة الأولى تفيد بانه عندما مهر الزعيم جون قرنق اتفاق سلام الجنوب بقلمه ومداده لا يعني اتفاقا فقط لحسم المعضلة الجنوبية السودانية بل يعتبره مدخلا لإرساء أسس تعايش جديد في الكيان السوداني وما الجنوب إلا مدخل موضوعي للمعالجة السودانية بنقد ابستمولوجي كامل لما روته مؤسسة 'البخاري ومسلم' السودانية الرسمية طوال تاريخ السودان الحديث في تجاوب عملي مع النص الدرامي الناقد لمنظومة الفعل السودانية، بل جاء - أي النص الدرامي - متماشيا مع الحتمية لبلوغ معاني السودان الجديد، الذي يحمل قيما إنسانية للإنسان السوداني في انتمائه ووجوده بمعان فلسفية وتاريخية وثقافية واجتماعية ودينية واقتصادية وكشرط ضرورة لأي ترتيب وحدوي مرتقب في بقاء السودان كيانا جامعا ليس على مستوى توظيف اللغة النمطية للخطاب السياسي وإنما تطبيق نمطية الخطاب السياسي على مستوى الفعل اليومي والحياتي للإنسان السوداني. هذا التكامل التاريخي مع المشروع الفكري والسياسي للمفكر قرنق برز وتبين بشكل جلي عندما اصطف الملايين من سواد الشعب ومؤسساته لاستقباله في الخرطوم في قطيعة تاريخية لكل منطلقات السودان الآثم، أو كما اعتقد كثيرون بمثابة الفتح الجديد للسودان كما 'فتح' عبدالله بن السرح السودان لنشر الدين الإسلامي، وفي رواية أخرى تقول - 'غزوا' - للسودان وليس فتحا، بدون تعليق! لتبقى طروحات قرنق ومشروعه السياسي هو الموضوع الرئيس لعصر الأنوار السوداني وهو المحفز لوحدة بين أجزاء السودان المختلفة، هذا من جانب تطابق الرؤى الدرامية الناقدة الجديدة ومشروع السودان الجديد الذي يطمح إليه قلم الدكتور قرنق أثناء توقيعه للاتفاق من طرف أول. فيما الطرف الثاني ويمثله نائب رئيس الجمهورية علي عثمان طه، فمهر بقلمه التوقيع نيابة عن الحكومة السودانية والمؤتمر الحاكم، وبذلك ترى المؤسسة وموقع الاتفاق بأنهما أنهيا حربا عميقة بين الشمال والجنوب ولتفتح معه أسئلة عديدة، كما يعتبر امتصاصا لأزمة مستعصية ومهددة لنظام الحكم في البلاد، ليزيد من قوة ونفوذ حكومته فيما عرفت بعد ذلك بثقافة الشريكين السودانيين المختلفين منهجا لإدارة دولة متعددة السياقات التاريخية والثقافية، اضافة إلى ذلك أيضا صور بعض السودانيين نائب الرئيس طه بأنه 'المهدي المنتظر' لحسم إشكال الجنوب عبر مؤسسته التي كان نافذا فيها على حد بعيد، حيث لولا نفوذه لعرقل له صقور المؤتمر الوطني المضي قدما فيها، حيث مازال البعض منهم يتحدث عن اتفاق الجنوب باعتباره 'ورطة' أدخلهم فيها طه، رغم هالة التهليل والتكبير وسياسة الكل لله على طريقة المؤتمر الوطني 'حيث يضعون فيها الأيدي في اتجاه الجيوب، في إشارة رمزية إلى كل شيء إلى الجيب من أموال ونفائس ليأتي عكس الشعار والخطاب القائلين كل شيء لله!' فضلا عن التمجيد والتباهي بصناعة سلام السودان وفك لغز الجنوب السوداني، ليبقى أمر سلام الجنوب في شروطه الدولية والإقليمية المساعدة أو الضاغطة أو الوطنية وبغض النظر عن وقعه وكيف ولماذا هو إنجاز، ليتجاوز اليوم الإنجاز والفعل إلى منهج لإدارته لخلق وحدة مكتملة ومعممة على أجزاء الوطن قبيل انفراط العقد. هكذا يرى موقع الاتفاق ومؤسسته الحاكمة رغم علامات التغيير التي بدت في خطاب موقع الاتفاق بعدما لازم قرنق طوال فترة مفاوضات نيفاشا ومشاكوس، أن تغييرا طرأ عليه، حيث بدا مقتنعا بشكل محدود بالحراك السوداني رغم أنه يمثل أحد وجوه مركزية الحزام العرقي والديني المهيمن والرافض لكل نتاجات المحيط السوداني، فأعتقد اليوم أن قلمه الذي وقع به الاتفاق متسائلا سؤالا ذاتيا وعميقا لصاحبه بالدرجة الاولى ومساءلة شاملة أيضا على مستوى الوطن، فهل القلم الذي وقع به نائب الرئيس علي عثمان نجح في ارساء أسس جديدة لوحدة السودان مع قلم قرنق الذي ذهب وبقي مشروعه حيا، أم أن قلم طه هو القلم الذي دفع بانفصال الجنوب عن الشمال أو الشمال عن الجنوب، وفي كل الأحول وحدة أو انفصالا كما يتراءى للعيان، من المفترض أن يوضع قلم طه في أسواق المزاد العالمية، فابحثوا أيها الموثقون السودانيون من اليوم عن قلم نائب الرئيس السوداني بعد التاسع من كانون الثاني/يناير من العام القادم ستجدونه في المزاد العلني! مع العلم أن قلم الزعيم قرنق فقد هو وطائرته! محجوب حسين/ لندن نائب رئيس حركة التحرير و العدالة للشؤون السياسية و الإعلامية