باريس التي وصفها الشاعرحافظ إبراهيم بأنها مدينة الجن و الملائكة مدينة الملائكة لأنها بلد الحضارات و الحضارة تهذب الطباع وبلد الجن لأن كل ما ينشده الإنسان يجده في باريس يكفي أنني عندما كنت أتجول في شارع الشانزليه أكثر الشوارع الباريسية شهرة في أوربا رأيت عددًا من الرقشات تحمل بعض السواح من قوس النصر حتى ساحة الكونكورد تحمل المشاهير و رجال المال والأعمال قلت في نفسي الرقشة عندنا في السودان إتمقلبت كما هو حال النيل في السودان. في هذا الشارع العجيب التي تزينه اأشهر الماركات العالمية وبيوت العطور و الموضات و آخر الصيحات في عالم الجمال و الأناقة يمكنك أن تقابل جميع المشاهير دون سابق موعد و تشاهد فيه جميع الماركات العالمية من بيير كاردا و ديور وكوكو شانيل إلى هوغو بوس توجد رقشات لتقديم رحلة ترفيهية من قوص النصر حتى ساحة الكونكورد . عند تلك الساحة التي أعدمت فيها الملكة ماري إنطوانيت تقف المسلة المصرية شاهد على العصر لتؤكد عراقة الحضارة الفرعونية التي بدأت من السودان و إنتهت في شمال الوادي و المسلة هي هدية من محمد علي باشا للملك لويس فيليب ومن سخريات القدر أنه في الوقت الذي أرسل فيه محمد على باشا المسلة المصرية هدية لملوك ونبلاء فرنسا أرسل جيوش مصرية مدججة بالسلاح الى بلاد الشام. لم تكن المسلة المصرية هي خبر بالنسبة لي كصحفي و إنمال الخبر هو وجود رقشات (تك تك) في شارع الشانزليه ( ليس الخبر أن يعضي الكلب إنساناً وإنما الخبر أن يعضي الإنسان كلباً)
الرقشة في السودان ليس لديها الحق في أن تمتطي شارع الأسفلت فهي تتوارى خجلاً بين الأزقة والحارات و يعتبرها رجال الدولة خارجة عن القانون و أحياناً قد تكون مطاردة و مطلوبة للعدالة من أجل غرامات مرور ومخالفات. في إحدى إجازاتي في الخرطوم سمعت أن الرقشة ممنوع أن تقطع الكبري يجب أن تظل حبيسة أزقة أم درمان وحواري الخرطوم بحري . لماذا لا نوظف تلك الحسناء الهندية و نجعلها إحدى مقومات السياحة (لا أدري إن كانت لدينا سياحة أم لا ولكني متأكد من وجود وزارة سياحة ووزير ووزير دولة ووكيل ) نوظفها لنقل السوا ح و الضيوف الذين يأتوا للعاصمة القومية زائيرين أو غايرين تنقلهم من الفيلل الرئاسية سابقاُ عبر شارع النيل مروراً ببرج الفاتح و إنتهاءاً بقاعة الصداقة ليستمتعوا بعظمة النيل و بالمناسبة كثير من الخواجات غير متأكدين من وجود النيل في السودان.
زيارتي الأخيرة إلى مدينة الريفيرا (باريس) التي بدأت في منتصف اغسطس و إنتهت في بداية سبتمبر الجاري كانت بغرض تصوير برنامج سفراؤنا في الخارج للقناة الأولى لتلفزيون المملكة العربية السعودية رغم أن المهمة كانت شاقة لكنها لم تخلو من المتعة خاصة و أنك تتجول في شوارع وحدائق وساحت باريس ومعالمها التاريخية رغم أن باريس هي متحف اللوفر و قصر فرساي و كنيسة نوتردام وبرج إيفل و وحديقة ديزني لاند والحي اللاتيني إلا أن باريس هي عمارات قديمة ظهرت على ضفة نهر السين قبل قرون وظلت قائمة, لم تسقط . لم تهدمها الثورة الفرنسية. لم تدمرها حروب بونابرت. و لا الحرب العالمية الأولى, ولا الرياح العاتية التي عصفت أوربا أبان الحرب العالمية الثانية. احترق بعضها ثم رُمِم. لكن الشوارع ظلت محافظة على طابعها القديم .
تعرف باريس باسم "مدينة النور" (la Ville de Lumière) وذلك لأنها في عام 1828 كانت أول مدينة في أوروبا تضاء طرقاتها بمصابيح تعمل بالكيروسين ومن ذلك الحين أدمن أهلها السهر في الشانزليزيه وسان ميشيل ومونمارتر وسان جرمان وموفطار ومونبارناس السهر أرهق أجساد الباريسيين ... وزحمة ميترو الأنفاق تحت الأرض إستنفدت طاقاتهم , من أراد أن يشاهد جميع شعوب العالم الثالث فليتجول في شوارع الافنيو مونتين وسان اونوريه أو سانت هونور أو ليدخل تحت الأرض في محطة شاتليه. أهل باريس يسمون خط المترو الذي يربط مدينتهم بمطار شارل ديغول: RER. للوصول الى مدينة هوغو عليك أن تتقن فن الشعر والاستعارة , فن استعمال أكثر من عبارة للإشارة الى المعنى الواحد حتى تصل إلى هناك. من باحة كنيسة (SACRE COEUR), واقفاً أعلى الدرج الذي رسمه الانطباعيون في عشرات اللوحات عند سقف الهضبة المشرفة على المدينة, تستطيع أن ترى باريس كلها, وان تحدد بسهولة برج ايفل أو برج مونبارناس, و حديقة اللوكسمبورغ, أو البانثيون, أو"بريزان", أو ساحة "دنفير - روشيرو", أو حتى شارع جورج ساشيه القريب من محطة "موتون". باريس. مدينة فوق الأرض وأخرى تحت الأرض. مترو باريس لا يلمع نظافة مثل المترو السويدي. تحت أرض المدينة الموسيقى تتعالى من آلة سوداء بين الركاب أمام الآلة يرقص رجل مجري قصير يشبه دب الباندا بكنزته الصوفية البيضاء ذات اللياقة السوداء العالية و أمامه ترقص امرأة شقراء من أوربا الشرقية تبدو عليها أثار الماركسية التي تحاول إخفاءها ببودرة و مساحيق العولمة. الماشي في "شارع فيكتور هوغو" شمال نهرالسين يرى تظاهرة صغيرة هادئة ضد العولمة أوضد أميركا أوضد تأخير المسافرين في المطارات. رجال ونساء في العقد الخامس و السادس, تحت رزاز المطر الصيفي منددين بالسياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط . عندما تجلس في مكتبة جيبير تنظر من النافذة مسترقاً النظر إلى المدينة: ترى باريس وترى طوكيو و اسطنبول و بوينس ايرس و بكين و بيروت وترى كيوتو وترى الجزائر و مراكش و أكرا وبرازافيل ترى كل شعوب العالم .ترى كل هذه المدن, كل هذا الصخب, كل هذا الليل الذي يفور بالسيارات و الأجساد والأصوات. هدير بلا نهاية.
الارجنتينيون المنفيون إلى باريس يشربون المتّة التي تردّهم الى البامبا وإلى هضاب بتاغونيا وإلى البيت البعيد. في "بولفار جوردان" وراء "المدينة الجامعية" رجل أفغاني يبيع "هوت دوغ", ويتكلم بعض الكلمات العربية. سندويشته زهيدة الثمن: يورو ونصف اليورو فقط. في حي باربيص Barbès حيث يسكن العرب تشتم رائحة الفلافل وعبق دخان النارجيلة. وفي حي بل فيل Belleville تتنافس مطاعم Sushi لتقديم أرقى الخدمات للزبائن.
يبقى السؤال ..... إذا زالت باريس من الوجود من يحفظها من النسيان؟ هوغو؟ أم كامو؟ أم بيريك؟. ربما ساركوزي ولله في خلقه شؤون. Taha Hasan [[email protected]]