في احدي زياراتي العملية من جوبا الى االخرطوم في أواخر ايام الرئيس السوداني الراحل، جعفر محمد نميري، وقد اشتدت الحرب في الجنوب بعد تمرد العقيد الراحل، دكتور جون قرانق دي مابيور ورفاقه الاشاوس في مدينه بور بولاية اعالى النيل وقتذاك، والتي كانت تبعد بضع كيلو مترات من مقر عملي بجوبا حيث كنت في العشرينات من عمري، وموظفا باحدي البنوك التجاريه. و ذهبت الى الخرطوم لحضور كورسات تاهيليه بمركز الدراسات المصرفية. حظيت باللقاء مع بعض االزملاء من مناطق مختلفة من أنحاء السودان، بعضهم من مدني بالاقليم الاوسط حينئذ، كما ان البعض الاخر من شرق السودان والابيض. واذكر أن هذا الكورس كان في شهر رمضان، طبعآ كنت الوحيد الذي كان يتناول طعام الافطار في فترة الراحة ثم تستانف الدراسات الى بعد الظهر ثم ينصرف الجميع الى بيوتهم ليعودا الى قاعة المحاضرات صباح اليوم التالي، ذلك ما عدا نحن الذين جئنا من خارج العاصمة القومية اذ نقيم في نفس البناية التي يتم فيها التدريب. كنت اشعر بالحرج لاني كنت أفطر بحكم إني لست مسلما، لكن المرشد على التدريس قد شجعني بأن لا اهتم لكوني غير مسلمآ. ثم اضاف ساخرآ: لاسيما انت من الجنوب. ابتلعت هذا التعليق العنصري التي لاداعي له البتة.
وذات يوم، اثناء فترة الراحة والاستجمام واحد من الزملاء بعد مقدمة قصيرة انه لا يقصد الإساءة إلي، ولا يعني شيئآ، ثم استطرد قائلا: هل لاقيت اسداً في طريقك للبنك يوم من الايام ؟!
لم اشعر باي حرج كما كانوا يتوقعون، بل قلت لنفسي هذه فرصتي لألقن هؤلاء الجهلة درسآ لن ينسوه عن الجنوب لانني قد يئست من اسئلتهم الغير منطقية. مثلا كيف تعلمت اللغة العربية؟! هل هناك اساتذة من الشمال في الجنوب؟! وهل هناك مسلمون في الجنوب؟!، وزاداحدهم بالقول: ما قالوا كلكم بتعبدوا الاصنام. وقالوا عايشين مع الحيوانات، واسئلة اخرى كثيرة لا يمكن حصرها . وهذا الأمر إن دل على شئ فانما يدل على جهلهم الشديد حتى بصغائر الامور في هذا الجزء من السودان.
بعد محاضرة طويلة عن الجنوب وعن سكانه، وأن كل الاشياء الموجودة هنا كذلك موجودة بالجنوب ولدينا اساتذة اجلاء تخرجوا بكلية المعلمين ببخت الرضا بالدويم. كما انني لم ارى اسدآ او اي من الحيوانات المتوحشة الا في حديقة الحيوان بمدينة ملكال عندما كنت طفلا . قد صدق بعضهم هذا الأمر، ورأيت في وجوه الاخرين كثيرا من علامات الاستفهام، ولكن بعد هذا الدرس لم يتجرأ احدهم على سؤالي اى ساذجة حتى نهاية الكورس.
بعد توقيع اتفاقية نيفاشا للسلام، وفي جلسة الانس مع بعض قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان بمدينة فينيكس ولاية اريزونا بالولايات المتحدةالامريكية كنا في جلسة خاصة حيث سأل احد الحضور الاستاذ الرفيق، ياسر سعيد عرمان عما اذا كان سيشغل اي منصب دستوري سواء كان بالجنوب او بالحكومة الاتحادية ؟
اجاب البطل ببساطة شديدة وقال: لا اريد ان اكون وزيرآ الان او بعد استتاب الامن تمامآ بالبلاد. فردت عليه مجموعة منا بصوت رجل واحد: ليه بس كده؟ هل زعلك حد لا سمح الله ؟ تململ الرفيق في جلسته وبعد برهة خرج عن صمته وقال بجدية وجراءة تحكى عن شخصه القوي وطابعه الحاد الزي لايهتز وقال: حقيقة انا عندي حلم ولازم احققه ان شاء الله . قد قطعت عهدآ على نفسي بان لا أشغل اى منصب دستوري، وكل ما احلم به هو ان املك محطة اذاعة وتلفزيون في السودان ليكونا صوتآ لمن لاصوت لهم من ابناء الشعب السوداني المقهور والمغلوب على امرهم، وتطبيق سياسة الانفتاح بالبلاد، و تنوير الشعب وتعليمهم عن الثقافات والعادات والتقاليد بمختلف ولايات السودان المختلفة. تابع:" لاني اري نحن في الشمال لا نعرف الا القليل عن الجنوب والعكس صحيح. بهذا العمل سنقرب شقة الخلاف ونضمد الجراح.
ثم استمر في حديثه قائلا: بعد تجوالنا بالريف الشمالي مؤكدين للعامة رؤية الحركة الشعبية للسودان الجديد وان الحركة لا تحارب لطرد العرب من السودان او محاربة الاسلام كما تزعم الجبهة الاسلامية القومية، بل لعرب والمسلمين لديهم يشكلون نسبة مقدرة لا يستهان بها بين صفوف مقاتلي الجيش الشعبي لتحرير السودان. وارسال الجبهة الإسلامية ابناء الشعب السوداني الى الجنوب بما يسمى بالجهاد كان نفاقآ ومحض افتراء. وقال أن زياراتهم لعدة مناطق في شمال السودان تلك كانت بلسما للجراح بين ابناء الوطن الواحد خاصة وسط الائمة ومشايخ طرق الصوفية وكبار رجالات الدين الاسلامي.
و تصريحات د. مصطفى اسماعيل، كمال عببد، وكرتي وهم يدقون طبول الحرب ومحاولة تعبئة القبائل العربية ضد اخوتهم ابناء جلدهم بالحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان باسم الاسلام ناسين بان البساط قد سحب من تحت ارجلهم، بعد ان تخلى عنهم احفاد عبدالله التعاشي بعد استخدامهم وقوداً للحرب ضد ابناء عمومتهم الجنوبيون، فهم الان يعبئون الناس لحرب شرسة ضد النظام الحاكم في الخرطوم. و بشير واعوانه قد حفروا الأن قبورهم بايديهم، والحساب قادم عاجلا ولا أجلاً. و الاسئلة التي تطرح نفسها في الساحة السياسية السودانية الان هي: هل ستدخل حكومة الجبهة الاسلامية القومية في حرب حقيقية مع جيش الحركة الشعبية لتحرير السودان؟ ام انها مجرد قوقائية وحرب كلامية ؟ وهل ستتغير اساليب الحرب بين الخرطوم والمناطق المهمشة في السودان هذه المرة؟ وهل حكومة الجبهة على الاستعداد لفتح العديد من جبهات القتال مع فصائل دارفورية بجانب جبهة الجنوب ؟ نصيحتي للبشير وطغمته الحاكمة في الخرطوم التريث وجعل انفصال جنوب السودان جاذبا وميسرا حقنا لدمائهم قبل دماء الغلابة من ابناء الشعب السوداني.