لعل من طرائف المصادفات اللغوية أن كلمة مصير المتداولة هذه الأيام بإسراف في جميع البورصات السياسية والاقتصادية محلياً، اقليمياً، دولياً وكلمة عصير ذلك الشراب المتداول والمتعاطَى يومياً منذ أزمانٍ سحيقة والي يومنا هذا، تجتمعان في قالب واحد يجمع بينهما في المعنى لتقدَّما بعد ذلك في كوبٍ أو مقلب واحد سائغ الشراب، يشربه من يشربه ويعافه، أي يلاوز منه، من شك في الأمر وراودته الظنون والريب. فالمصير مشتقة من الفعل صار، حيث ينتهي الأمر بصار والمصير معاً الي الصيرورة، أي التحول من شيء أو وضع سابق الي وضع راهن أو مرهون أو خيارات أخرى حسب لغة السوق السياسية والاقتصادية السائدة، ولستم سادتي بحاجة مني الي دورات في لغة التفاوض والمقايضة لكي أتمطَّى في سهول الكلام شارحاً لكم المصير أو المآل الذي تنتهي اليه المادة المعصورة، سواء كانت أنناس، سمسم، فول، ذرة، خروع، كركدي وحتى لو كانت فلاً وياسمينا، فهي في النهاية سوف تنتهي الي مسمَّى أو مصير واحد اسمه العصير. أيضاً من لطائف لغتنا العامية أننا نستعمل كلمة المصر بمعنى العصر مشيرين الي سياسة ليِّ الذراع التي نستعملها في عصر الملابس عند غسلها لتخليصها من الزوائد والفوائض المالية أقصد المائية، بينما نستخدم العصر للإشارة الي اعتصار أو استخلاص العصائر أو الزيوت من المواد القابلة للعصر، إذاً فعاميتنا هنا غلبت شيختها الفصحى فجمعت بين المصير والعصير قلباً وقالباً، لفظاً ومعنى ومبنى، فإذا بالمصائر والعصائر الطازجة والمعتقة تنتهي الي مصيرٍ واحد، وبمناسبة المصائر التي ينتهي اليها المصر أو العصر أحكي لكم هذه الطرفة، قيل إن طفلاً مدللاً زار مع أسرته منزل أسرة أخرى وجد فيه أرنباً صغيراً أليفاً ظريفاً، فإذا به يطلبه بإلحاح ( كيما يسر به ويلعب )، فما كان من المستضيفين إلا إكرامه به علي سبيل الإعارة والانتداب لا المنح، شرط إعادته سالماً ونظيفاً، أي غير قابل للمرمطة في تراب اللعب والمسخرة والأمور المقددة بلغة أجدادنا القدماء، ولكن أي جبل يعصم الأطفال من اللعب في التراب وبالطين؟ فما هي إلا دقائق من أول مباراة لعب بين الطفل والأرنب إلا وقد اغبرَّ لون الأرنب الناصع البياض، ولما كان الطفل سودانياً شهماً لا يخون العهود والأمانات قرر أن يعالج خطأه أو خطيئته بغسل الأرنب وتسليمه نظيفاً لأصحابه وذويه، وبالفعل شرع للتو والحين في غسله بالماء والصابون ثم المصر، أي العصر لتخليصه من فائض العمالة المائية ثم الشر، أي النشر كما تنشر الملابس بعد غسلها، ( لاحظ كيف انتهى مصير المصر الي الشر في سودانيتنا الحبيبة )، ولكن ما هي إلا فتلة أو لوية ذراع واحدة إلا وقد فارق الأرنب الحياة وودع الأحباب، وقرر الطفل إعادة ضيفه العزيز الي أهله، أياً كانت النتائج والمآلات والمصائر، فتناوشه الناس متسائلين: غسلتو ليه، كتلتو ليه، وليه؟ فإذا به يجيب بمنطقه البريء، ( يا اخوانا، ما كتلو الغسيل، كتلو المصر )، أي كان حياً عند الغسيل ولم يمت إلا في مرحلة المصر، أي العصر. بمعنى لم يلق حتفه أو مصيره المحتوم إلا عند المَصْر. امبراطوريات ودول ودويلات العالم القديم والجديد ظلت تتشكل وتتبلور، تنشأ وتضمحل، تتوحد وتتمزق بقانون المصر والعصر الديالكتيكي السوداني هذا، أي كان بعضها يتشكل بعصرات ومصرات طبيعية خفيفة الوطأة فيعيش منسجماً متناغماً ما لم يخطئ ( يدقس ) فيغزو الآخرين أو يخطئ الآخرون فيغزونه في عقر داره، أو دار جاره، فتأتيه رياح الخارج بما لا تشتهي سفنه، فتتعرض وحدته للشد والجذب والجاذبية والنفور و( ألفاظ تاني كتير )، وبعضها الآخر يتشكل بعصرات ومصرات وعصوات وجزرات جامدة فيتوسع علي حساب الآخرين فيصبح شكله منبعجاً يستعصي علي رسامي الخرائط رسم خريطته الجغرافية، كما هو الحال في دولتي امريكا وبريطانيا ( أحد أبرز النماذج الحية للامبراطوريات القديمة في العصر الحديث، عصر الألفية الثالثة )، حيث تمتلك الأولى أراضي تابعة لها خارج حدودها كألسكا التي تفصلها عنها دولة كندا، وجزر هاواي الأقرب الي اليابان أرضاً وبشراً، أما الثانية فضلاً عن جزرها وإماراتها غير المتجانسة عرقياً ولا لغوياً واستعمارها المستديم لايرلندا الشمالية تملك بالحق الاستعماري جزر الفولكلاند التي هي جغرافياً واثنياً جزء من دولة الارجنتين، ولها أيضاً جبل طارق الذي هو كما درسنا في التاريخ جزء من اسبانيا اليوم والتي بدورها تحتل سبتة ومليلية المغربيتين. قانون المصر والعصر، كما أسلفنا، قديم قدم الدول والدويلات، فمن لدن تشكيل أقدم الدول والجمهوريات كدول المدن في اليونان ثم الامبراطورية الضخمة للاسكندر الأكبر ( بالمناسبة من هو الاسكندر الأصغر؟ ) والي بريطانيا الكبرى قبل وبعد مغيب الشمس عنها وحتى دويلة كوسوفو وبقية دويلات يوغسلافيا والاتحاد السوفيتي السابق ظل العالم يتشكل، يتركب ويتفكك، ثم يتفكك ويتركب، وتكوين الولاياتالمتحدةالامريكية زعيمة العالم الحر والمالك والناشر السريع والوحيد والفعال لعقار الديمقراطية لم تستقر علي شكلها الحالي بانبعاجاته وزوائده الدودية المشار اليها أعلاه إلا بعد كمية مهولة ( كما يقول شباب وكهول اليوم ) من عمليات مصرٍ وعصرٍ غاية في الرعونة وحمرة العين، فقد ضمت اليها الكثير من ولاياتها الحالية بقوة المساومة اللينة حيناً والعنيفة أحياناً ( العصا والجزرة ) مع القوى الاستعمارية التي كانت تقاسمها أراضي امتلكتها بوضع اليد، أي ألحقت بها الكثير من تلك الولايات الغنية والمواقع البحرية والبرية الاستراتيجية في العهود الاستعمارية المتأخرة، أي في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات ومتصف العشرين، فهي وإن لم تكن قوة استعمارية تقليدية كما هي اليوم، إلا أنها كانت تبتز الدول الاستعمارية بإجبارها علي التنازل لها من كل ما ترنو اليه عينها، خاصةً إذا كان لصيقاً بها في الجوار، أي أنها لم تكن تختلف في منطقها الاستعماري مع منطق الحزب النازي في المانيا حزب هتلر الذي جاء في برنامجه السياسي ذي الخمس وعشرين بنداً المطالبة بحق المانيا في استعمار المزيد من الأراضي لتصرف اليها فائض شعوبها، وبالفعل كانت المانيا والشعوب ذات الأصل الالماني أو الجرماني كبيرة العدد بالمقارنة مع دول استعمارية تقليدية كبرى حينها كفرنسا وايطاليا مثلاً، وهتلر شخصياً لم يكن المانياً بالمعنى الحرفي الضيق للالمانية وإنما هو نمساوي ينتمي اليها بالانتماء العرقي الجرماني أو ما كان يفضل تسميته بالعرق الآري، بل قفز يوماً أحد كبار مسئولي هتلر في الحرب العالمية الثانية بطائرته الي بريطانيا في عز الحرب متوسلاً الي البريطانيين بحرمة الدم الانجلو سكسوني الذي يجمع البلدين، المانيا وبريطانيا، أن يوقفوا الحرب، فراح ضحية سذاجته العنصرية. من هنا نعلم، ونبدأ نفهم، أن ما تلوكه الألسن في سوداننا اليوم من شيء اسمه ( حق تقرير المصير )، ما هو إلا عمليات داخلية وخارجية تتفاعل كيميائياً وفيزيائياً وتتماصر وتتعاصر لتؤول وتصير الي واحد من اثنين (كما ينكِّت أخونا ناصر ادروب)، إما مصر، أي عصر ثقيل مرة وايد فتكون النتيجة مصير أو عصير صناعي بنسبة مائة بالمائة ومستورد كمان، وبالتالي عصير ليس فيه نكهة الأنناس ولا حلاوة البلح ولا لون الأبنوس ولا حتى الحلو مر، أي بين بين، مصير أو عصير يعيش اكلينيكياً بِدِرِبَّات الجيوش والحشود العسكرية المحلية، الولائية، الاقليمية والدولية، يعني جيش بين كل قرية والأخرى، بين كل حي والآخر في الدولتين وعلي طول الحدود بينهما وجيرانهما....وإنت ماشي. أو مصر، أي عصر معقول نوعاً ما يان سوية، سوية فتكون النتيجة مصير أو عصير طبيعي الي حدٍّ ما ( يان ما بتال )، فيه مصرات أو عصرات مرة بالجنبة الشمال، مرة بالجنبة الجنوب، فنجان جبنة بالشمال، كباية شاي باليمين وكوب أو قرعة عصير ليمون جامد من بارا، وبخلط منتجاتنا المحلية هذه نستطيع صنع مصير، عصير طبيعي الي حد كبير نستمتع بمذاقه العذب متفيئين ظلال راكوبة، تبلدية، أبنوسة، هجليجة، لالوبة دولة واحدة، لا يهم محمد أحمد أدروب دينق تية كوكو في شيء ولا فارقة معاهو، أن يحكمها البشير، سلفاكير، أوكير، كافي جبريل، فهلا عدنا الي رشدنا وحلَّلنا مشاكلنا وأعدناها الي عناصرها البسيطة الأولى في ظل لالوبة الدولة الواحدة في مؤتمر قومي جامع يعقد تحت شعار ( لالوب بلدنا ولا تمر الناس ) نبعث فيه روح نيفاشا وليس نصوصها، وبالمناسبة أجيبوني: هل جاءت نيفاشا تنشر السلام والوحدة في ربوع السودان الذي هو كل متماسك إذا اشتعل منه طرف تداعت له سائر الأطراف بالمعاناة من ألسنة اللهيب، أم جاءت لتفصل منه الجنوب ولتقم بعده أو تقعد قيامة الحرب والتمزق والتلتلة الي ما لا نهاية وفي كل أرجاء السودان بما فيه الجنوب الحبيب؟ يا جماعة ليه بنهرب من مصيرنا، أعني مصرنا وعصرنا الذي من صنعنا، ونختار مصير غيرنا، أي مصر وعصر الآخرين الذي لن تسلم منه أضلاع أحد، بمعنى آخر وأخير لماذا نحصر بنود نيفاشا في تقرير المصير الذي هو وبالٌ علي الماصر والممصور والعاصر والمعصور، وأخشى أن يكون المستفيد الوحيد من هذا المصر، العصر الصناعي طرف ثالث، أي لا الماصر ولا الممصور، بل الممصور أو المعصور له.