في صدر عهد الانقاذ، وهي تتحسس طريقها للحكم بطريقة مفرطة في الحساسية، لم تكن تسمح بهامش للهظار الصحفي أو الأدبي، لا في السياسة، الاجتماع، الاقتصاد ولا حتى في شؤون التدبير المنزلي كالحوار البريء بين البصلة وقشرتها مثلاً وما يتخلله من قطيعة "نميمة" النساء، هذا رغم أن العهد بالجهات المحسوبة عليها ملأت دنيا العهد الديمقراطي فكاهةً وتنكيتاً وتبكيتاً علي الناس، كما أن غرفة عمليات التنكيت والتبخيس هذه والمعروفة بهيئة حلمنتيش العليا انتقلت الي التلفزيون الانقاذي بكامل طاقمها تحاول أن تسلِّي الناس وتخفف عنهم مأساة غياب الصحف، بما فيها الصحف الحلمنتيشية، هذا فضلاً عن حظر المسلسلات المصرية وغياب الأطباق والفضائيات الحديثة وإن وجدت فالمتوفر منها كان قليلاً وباهظ الثمن. في ذلك الزمان الأغبر وبعد صبر وصمت سنوات بدأت الإنقاذ تفتح كُوَى صغيرة للهواء، وقد فعلت ذلك مضطرة لأن حزبها الظهير، أو قل حاضنها ومفرخها – حزب الجبهة الاسلامية القومية – كان يعج بالمثقفين والأدباء والكتاب والصحفيين الموهوبين الي حد التخمة وذلك بشهادة خصومهم السياسيين قبل مناصريهم، وتلك الأقلام حتى لو كانت مؤيدةً للنظام وصانعةً ومناصرةً لسياساته وداعيةً اليها ومنافحةً عنها، إلا أنها مثلها مثل كل العقليات الإبداعية لابد أن تتبكم وتتبلد في زمان الطريق ذي الاتجاه الواحد واللغة ذات اللسان الواحد والسير علي قضبان حديدية، كما لابد أن يصنع ذلك تمرداً صامتاً أو ناطقاً داخلها، وأنه لما كان لابد لكلامها من يومٍ يخش فيه الحوش، حوش المنشية أو حوش ود بانقا، وزعت علي طاقم كتابها الأدوار والمسئوليات في صحفها الرسمية وشبه الرسمية، وأخيراً وسعت هامش الحريات بقدرٍ معلوم، فسمحت للصحف الخاصة بالصدور، علي أن ترعى بقيدها، كما غضت الطرف عن مط صحفها الرسمية والموالية لهامش حرياتها، فكان الشهيد/ محمد طه زعيم المعارضة ورئيس هيئة الاتهام في هذا المنبر الصحفي الحر والأستاذ/ إسحق فضل الله حفظه الله ومتعه بالصحة والعافية يترأس الهيئة البرلمانية للكتلة الحاكمة ورأس الرمح في الدفاع عنها، وتمت تلفزة الأستاذ/ حسين خوجلي لطغيان مواهبه الأدبية والفنية في الحوار التلفزيوني علي مواهبه الكتابية، فأصبح منذ ذلك اليوم كائناً تلفزيونياً أكثر منه كاتباً صحفياً، وفقدته الصحافة أيما فقد. نعود الي عمنا إسحاق وهو كما زكَّتْه صحيفة ( الإنقاذ الوطني )، صحيفة الانقاذ الأولى يومها، قائلةً: إنه يكتب ما يكتب بميزة أسلوبية تحسب له وليس عليه، أو هكذا قالت مدافعةً عنه عندما تعرض لهجمة أو غارة من الجناح المحافظ في الإنقاذ أيام معركة الشمبانيا المثلجة الشهيرة، وأنا أشرح تلك الميزة الأسلوبية فأقول: إن الروح الإبداعية وعقلها الباطن لا تحتمل التقليدية والرتابة والقاموس المحفوظ في بطون الكتب وصدور الناس، فتجنح قليلاً عما تواضع عليه عامة الناس وأواسط مثقفيهم، وأستاذنا إسحاق الي جانب تمتعه بهذه الروح بكثافة عالية فهو مهندس طرق وكباري، إن لم تخني الذاكرة، وكأي مهندس طرق قد تنزلق من يده علبة الزفت فتندلق وتزيد نسبة الزفت ويتجلبط الطريق فترتبك حسابات الشركة المقاولة لبرهة علي الأقل، وتتعطل حركة سير أفراد قوات المشاة أو الكائنات الماشية والراجلة أمثالنا فنضطر الي القيام بتكتيكات التفافية وانسحاب مؤقت من تلك الناحية وقد نلغي المشوار برمته إن لم يكن ذا أهمية استراتيجية، أو مزايا جاذبة، أو قد يخطئ ذلك المهندس (الطرائقي ) في رسم خارطة الطريق فلا يُعرف شمالها من جنوبها أو أعلاها من أسفلها...الخ. وهذه الكائنات الروحية التي تسكن المبدع قد تنجرف بالكاتب في أحيان نادرة ومن حيث يدري ولا يدري الي زيادة جرعة الزفت المطلوب بقدرٍ معقول لطلاء بعض المواقف والطرق المُزفِّتة والملتوية، وهذه الانزلاقات غير المقصودة هي ما حدث من الأستاذ/ إسحاق قديماً في مقال الشمبانيا المثلجة واليوم في مقاله الأخير في عموده / آخر الليل الذي تنشره أكثر من صحيفة يومية وأكثر من موقع الكتروني والذي أتت فيه كلمة زفتية عابرة تتعلق بما يسمونه في أدب اللذة باللذة العابرة التي قد تعبر بصاحبها الي مرافئ أو ملاذات وملذات غير آمنة.
معركة أو كأس أو مباراة الشمبانيا المثلجة المشار اليها قامت في السنوات الأولى للأنقاذ وكان ميدانها صحيفة ( الإنقاذ الوطني )، وفرقاؤها، طرف أول، الأستاذ اسحق ومن خلفه سلطات الصحيفة، أو قل سلطات الإنقاذ الصحفي علي غرار الإنقاذ الصحي وغيره من الأناقيذ إذا جازالتعبير، وفي الطرف الآخر تمترست عمائم الانقاذ من النوع الأصلي الما عندو نمرة وتراصت مشكِّلةً حائط صد أمام أهداف إسحاق في عرينها. وإسحق لم يكن يخوض معركة فساد أو إفساد، أو يطلق فتاوى التحليل والإجازة إطلاق الألعاب النارية كما يحدث اليوم وفي كل مسجدٍ علي حدة، هذا رغم إمامة إسحاق لمسجد، لكنه كان ولا يزال يخوض معركة تنوير وتجديد وعصف للأذهان ذوداً عن عرين مشروعه الحضاري، أقول هذا بالرغم من أن الكثيرين يحسبونه من محافظي الانقاذ وصقورها، وفي مقال له في هذا الحقل في ذلك الوضع الراهن حينها، أتى علي ذكرٍ عابر لقصة نجاح القائد الباكستاني / محمد علي جناح في التفاوض مع الانجليز علي فصل باكستان المسلمة الشرقية والغربية عن الهند وهو يضع في ثلاجته زجاجة من الشمبانيا المعتقة الخارجة لتوها من أعماق الأرض التي ظلت تتعتق بها لما يربو علي الاثني عشر عاماً علي حد علمي، وفيما أذكر أن هذه كانت خلاصة القصة أو كما دافع إسحاق عن نفسه بأن المسألة لا تتعدى مجرد تحرير المسألة بلغة الفقهاء، وحتى الصفات العلمية التاريخية والمعاصرة عن عتاقة الشمبانيا هي ذيول وحواشي توضيحية من عندنا سقناها لفائدة القارئ الأحادي النظرة والثقافة من باب العلم بالشيء ولا الجهل به، وحينها ودنيا الإنقاذ في عز إسلامها لم تعطل الصحيفة ولم يمنع إسحاق من الكتابة، بل حقق إنجازات ملموسة ومفيدة عبر كتاباته الناقدة والمنبهة والمنتبهة الي مواطن القصور والخلل، وإن أنسى لا أنسى مقاله أو مقالاته عن ضرورة إقامة هيئة وطنية للمواصفات والمقاييس وأن انعدام مثل هذه الهيئة قد يأتي الينا ببضائع قد تعتقت في مخازن بلاد المنشأ بطريقة مخالفة لأصول وقواعد العتق والتعتيق، أي أن العتاقة نوعان، عتاقة حميدة تزيد الشيء المراد تعتيقه عتاقةً ونبلاً وشهامةً وشفافية وأخرى خبيثة تفسد المعتق وتزيده خبثاً وضبابية تصيب أعيننا بالزغللة ورأسنا بالدوار وأمخاخنا بالتبلُّد. ذلك المقال التاريخي الذي أدى فوراً الي تأسيس هيئة المواصفات والمقاييس لمؤسسها العالم القدير الدكتور/ محمد عبد القادر الذي استمتعنا بكتاباته العملية السلسة بأسلوبه السهل الممتنع في صحيفة الأيام حياها الله وأبقاها، وألهمنا وأسرة تحريرها الصبر والسلوان في فقيد الأيام والأمة السودانية جمعاء أستاذ الأجيال السياسية والصحفية / محجوب عثمان رحمه الله وجعل الجنة مثواه، ومدَّ الله في أيام محجوبنا الثاني، أستاذنا وصاحب الوقت الصحفي/ محجوب محمد صالح أصلح الله أحواله الصحية والصحفية وحجبه من شرور الحجب والانقطاع. أما الأستاذ/ عادل الباز الغني عن التعريف، فقد أرجأ في مقاله ( شِين إسحاق ونبيذ ود الباز ) المنشور في أكثر من مصدر، ما وعدنا به من قصة لمانديلا وشعب جنوب إفريقيا مع شعب السودان تستحق أن تُروى كما قال، ليعترف بدلاً من ذلك وهو في كامل قواه وصحته العقلية والجسدية والمزاجية المعتبرة شرعاً، مختاراً غير مكره، بأنه بالفعل قد طلب خلال الأيام القليلة الماضية ولكن خارج حدود السودان، أي في جنوب افريقيا، كأساً من النبيذ المعتق وصفها بالبااااااااااااااااااااااردة حتى كادت أسنانا تصطك منها برداً وقشعريرة، ووصف الكأس والظروف والملابسات المحيطة بها بطريقة تجهجه الواحد، أو بتلك الطريقة التي وصف فيها البحتري الربيع في بيته الشهير/ أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً ---- من الحسن حتى كاد أن يتكلما. ومع ذلك فاجأنا في نهاية ذلك المقال ونحن في قمة اشرئباب الأعناق والتشابي لذروة تلك الحبكة الدرامية للحدث المفصلي في تاريخ أبو الباز، أنه طلب إنفاذ الأمر بصب النبيذ علي الكأس، ليلحقه بأمرٍ آخر بتخفيف الحكم وقصره علي الصب فقط مع وقف تنفيذ تبعات وملاحق الأمر الرئاسي وهي في العتبة الأخيرة من سلم التنفيذ حتى لا تأخذ المسألة أبعاداً محلية، اقليمية ودولية الكل في غنىً عنها، وأنه لم يقدم علي ما أقدم عليه من مناورات شبه عسكرية من شقلبة الكأس في الهواء علي رؤوس الندماء وصعقهم بتيار الدهشة الكهربائي إلا من باب ( إغاظة أخو سيد الدكان )، تلك الحكاية التي يوردها أستاذنا الكبير/ عبد الله علي ابراهيم في أسانيد روايته للأحداث وهو يؤرخ لما يمكن أن نطلق عليه ( الفلكلور السياسي )، وذلك استغلالاً لوجود الاثنين معاً، سيد الدكان/ الأستاذ الأكبر/ علي شمو وأخيه الأستاذ/ هاشم الجاز، في تلك المائدة الجنوب افريقية العامرة أو الكاربة حسب وصف إسحاق لليلة المشار اليها في مقاله المشار اليه بدوره في عنوان مقال الباز، وبالتالي صاد الباز العصفورين/ شمو والجاز بحجر واحد وقدمهما، قاتله الله، شواءاً وقرابين غفران علي تلك المائدة المستديرة في محاولة انتقامية بااااااااااااااااردة رداً علي ما اقترفته مقصات الرقابة في عهدهما بمجلس الرقابة علي الصحف، وهذه صفة المجلس وليس اسمه. وهكذا دارت دورة الأيام بالأستاذين/ الباز وإسحاق وألقت بينهما كرة المنع والإيقاف ليتنافسا علي كأس نبيذ الباز وعلي شرف شمبانيا إسحاق المثلجة والتي تكون اليوم قد بلغت درجة لا توصف من التعتُّق، فهنيئاً لهما، كل امرئٍ يأكل زاده.