برغم أن نظام نميري كان نظاما شموليا بغيضا إلا أن ظروف العمل الصحفي في تلك الأيام كانت تختلف اختلافا واضحا وصريحا عن ظروف العمل الصحفي في ظل نظام الإنقاذ الذي يفوقه شمولية واستبدادا وتسلطا ولم يكن احدهما بأفضل من الأخر وكليهما متساويان في قمع وكبت الرأي الأخر ولكن ثمة ملاحظات وشواهد يجب الوقوف عندها . لم يكن في تلك الأيام رقابة قبلية على العمل الصحفي مثل تلك التي تنتشر في هذا العهد ، ولم يكن هناك سببا يمنع الصحيفة من الصدور إلا انقطاع التيار الكهربائي ولم تصل الرقابة إلى هذا الحد البشع من العقاب لان نظام نميري وببساطة شديدة كان لا ينكر أحاديته المتمثلة في منهجه السياسي الذي كان يرتكز على تنظيم الاتحاد الاشتراكي ومن أراد إن يمارس العمل السياسي او ان يعبر عن أرائه فلا سبيل إلى ذلك الا عبر هذا التنظيم ،ولم ينشط أبدا للترويج لثقافات مثل التحول الديمقراطي أو التوالي السياسي أو غيرها من مثل هذه المصطلحات السياسية ، بل لم يرى في ذلك عيبا ، وحتى عندما يضطر لعقد اتفاقيات سياسية مع خصومه السياسيين لم يكن يقبل مشاركة هولاء الخصوم بصفة أحزابهم السياسية وإنما المشاركة تتم لزاما وقسرا عبر الدخول في مؤسسات الاتحاد الاشتراكي السوداني .هكذا قادت اتفاقيات المصالحة الوطنية المعروفة السيد الصادق المهدي ليكون عضوا في المكتب السياسي والدكتور حسن الترابي مساعدا للامين العام للمنظمات بالاتحاد الاشتراكي واحمد السيد حمد رحمه الله عضوا في المكتب السياسي ثم بعد ذلك وزيرا للمواصلات . تبعا لهذا المناخ الشمولي لم يسمح لأكثر من صحيفتين للعمل في المجال الإعلامي هما صحيفتي الأيام والصحافة ، وكان لزاما على الصحيفتين أن تتصدر صفحتهما الأولى صورة الرئيس نميري . الشاهد في الأمر أن المقالات الصحفية والأعمدة في هذا المناخ لم تكن تتجاوز المسموح به ولم يكن احد ليتجرا على كتابة مقال يخالف الخط السياسي المتبع ، غير ان بعض الصحفيين كان يلجاوون أحيانا إلى استخدام الرمزية للتعبير عن بعض الأفكار التي لا تسمح الرقابة بالاقتراب منها . وقد برعت في هذا المجال في ذلك الوقت بالتحديد في عام 1980م الزميلة الأستاذة سعدية عبد الرحيم " أحيى هذه القامة الصحفية الفذة التي لا اعلم أين حطت رحالها في هذا الكون الواسع الفسيح " أتذكر أن الأستاذة سعدية كتبت مقالا بعنوان " تايوتا الخرطوم امدرمان وبالعكس " وفكرة المقال ان لم تخني الذاكرة كان يرتكز على انتقاد صريح لاستخدام " البوكسي "كوسيلة لترحيل المواطنين حيث من المفترض ان مهمة استخدامه تتوقف عند حد نقل البضائع المختلفة فقط ، ومن ثم كالت سيلا من النقد والهجوم اللاذع لذلك الشخص الذي جلب هذا "البوكسي " وانه جلب لنا الشقاء والتعاسة والفقر والضنك ومضت مواصلة نقدها لهذه الشخصية المتوهمة في مقالها ولكنها في الحقيقة كانت تقصد بها منظومة النظام المايوي بأكملها معددة إخفاقاته في كل المجالات ومن أبرزها مجال الحريات . وكتبت بعد ذلك مقالا بعنوان " قطتي سميرة " واستخدمت أيضا في هذا المقال الرمزية لكشف وفضح عيوب النظام المايوي ومن ثم توصيل رسالتها التي كانت ترمي إليها من وراء السطور . أفلتت هذه المقالات بسهولة من سكرتارية التحرير في ذلك الوقت ولم تفطن لمعانيها البعيدة ووجدت حظها من الانتشار الواسع ولكنها لم تفلت من عين الرقيب ولكن بعد فوات الأوان ! ! لم يكن الرقيب ضابطا من جهاز امن النميري كما يتبادر إلى الأذهان قياسا على هذه الأيام . . ولكنه للأسف كان زميلا في الصحيفة وكان يمثل تيارا من كوادر الحزب الشيوعي التي قبلت الانخراط في العمل مع نظام مايو بعد الانقسام الذي شهده الحزب عقب فشل انقلاب هاشم العطا وكان نصيبه ان يعمل صحفيا بجريدة الأيام ، وانتقل بعموده من جريدة الميدان لسان حال الحزب الشيوعي التي بالطبع لم يكن يسمح لها بالصدور في ذلك الوقت إلى جريدة الأيام ، ولكن بتعديل طفيف في اسم العمود . انبرى هذا الزميل في إحدى اجتماعات التحرير للحديث عن هذين المقالين المشار إليهما أعلاه وطرح تساؤلات حول كيف سمحت سكرتارية التحرير لهذين المقالين ان يجدا طريقهما إلى النشر برغم مفارقتهما الصريحة للخط السياسي الذي يتبناه الاتحاد الاشتراكي مضيفا أنهما يحملان بداخلهما من الحقد والكراهية لنظام مايو ما تنوء الجبال عن حمله ، ولم ينسى ان يذكر الزملاء بالدور المنوط بهم لحمل رسالة مايو والدفاع عن مبادئها ! ! وطالب في الاجتماع بتحديد المسؤولية في المرات القادمة عند مرور مثل هذه المقالات . . وللمفارقة اضطر في الاجتماع لكشف القناع عن الرمزية التي استخدمتها الأستاذة سعدية عبد الرحيم وكان يثير علامات من الاستفهام وهو يسعى الى تفسير مقاصدها . . مثل : ماذا تقصد الزميلة من هذه العبارة ؟ وهكذا . . الخ . على ما اذكر انتهى الاجتماع بتوجيه من رئيس التحرير في ذلك الوقت الأستاذ إبراهيم عبد القيوم أطال الله في عمره بان تتولى جهة ما مراجعة مقالات الأستاذة سعدية عبد الرحيم ، او انه وجه بإيقافها من الكتابة في الصحيفة لا اذكر بالضبط ما تمخض عنه الاجتماع حول هذا الموضوع ، وأظن أن الأستاذة سعدية عبدا لرحيم تم إبعادها بعد فترة من الزمن من جريدة الأيام ، أو أنها اختارت الابتعاد بنفسها لا اذكر ذلك جيدا . بعد هذه السياحة الخاطفة عن الرقابة الصحفية أيام نظام النميري أتساءل بكل بساطة . . أيهما أفضل . . رقابة تفرض عليك مباشرة عبر أجهزة الأمن ليأتون إليك برجالهم ويحجبون وينزعون ما يشاءون من المقالات والأعمدة والصفحات للأسف كما يحدث في هذه الأيام ؟ ؟ أم رقابة يقوم بها زميلك في الصحيفة . . كما فعل استأذنا المشار إليه مع زميلته في ذلك العهد الغابر ؟ ؟ أي أن يتم الحجر على رأيك . . ويا للهول . . من زميلك في العمل الصحفي بدلا من أن تقوم بذلك السلطة الحاكمة عبر جهاز امن منوط به انجاز هذه المهمة البشعة ! ! نتابع في المقال القادم نماذج أخرى من الرقابة الصحفية إبان حقبة النظام المايوي وما انتهت إليه مسيرة الرقيب الصحفي الذي تحدثنا عنه لنتعرف على العجب العجاب الذي يخلب الألباب وكيف أن تغيير المبادئ يصبح أسهل من شرب كاس من الماء البارد . ع اطيب تحياتي وتقديري كمال الدين محمد [[email protected]]