من يريد أن يقرأ مستقبل السودان القريب فليبدأ بالتأمل في تصريح الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي حذر من حرب مدمرة تودي بحياة الملايين، وليتأكد أكثر فليضف إلى تحذير أوباما تصريح الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي الدكتور حسن الترابي الذي نبّه إلى أن السودان مهدد بأن يكون صومالا آخر، وما يجمع التحذيرين الذين ينطلقان من مرجعيتين مختلفتين هو التحديات المرعبة التي تنتظر أبناء السودان بسبب موعد الاستفتاء على مصير جنوب البلاد. والوضع ليس معقدا كثيرا، كما أن أوباما والترابي لم يكن كل واحد منهما يضرب بالرمل أو يفك طلسما، فالرئيس الأمريكي يبدو أثبت وهو يحذر مما يعلم حق العلم أنه السيناريو الأقرب للوقوع، بينما الترابي فإن موقفه نابع من خشيته على بلد عاش فيه موحدا وربما يموت ويتركه ليس مقسوما على إثنين بل على أربعة مع الأخذ بعين الاعتبار قضيتي دارفور في الغرب وأزمة "شعب البجا" الخامدة في الشرق. وفي الساحة من المخاوف والمحاذير، ما قد يجعل السودان يذهب إلى مصير مجهول، بعد أن أصبح انفصال الجنوب كابوسا وشيك التحول إلى واقع مرير، بعدما حزم الجنوبيون أمرهم باتجاه التقسيم وتأسيس كيانهم المستقل بعيدا عن حكومة الخرطوم بقيادة الرئيس عمر البشير، ومع اقتراب موعد الاستفتاء في بداية 2011 ، أصبحت نذر الانفصال أكثر من بشائر الوحدة، فمطالب الجنوبيين من الأممالمتحدة نشر قوات دولية على الحدود بين الشمال والجنوب وجدت القبول من الدول الكبرى، و يبدو أن هذه القوات ستنتشر لتكون شاهدة على الانفجار المتوقع، وربما ستقوم هي بالحرب على الشمال لحماية الأقلية الجنوبية التي ستصور مهددة بالإبادة من نظام الرئيس البشير المتهم سابقا من المحكمة الدولية بالإبادة المزعومة في دارفور. وفي حين أن الجنوبيين حزموا أمرهم للانفصال، حزمت الدوائر الصهيونية في الغرب وفي أفريقيا أيضا أمرها لتأسيس "دولة مسيحية" وسط أفريقيا، ولكنها أيضا على حوض النيل وهو خطر وتحد آخر قائم بذاته. وإذا كانت السيناريوهات المرسومة في قضية السودان تراوحت ما بين ثلاثية "نظام علماني بتوجيهات أمريكية أو انفصال بين شطري البلاد أو تأجيل لسنوات أخرى في إطار نظام الاتحاد"، إلا أن السيناريو الذي بات اقرب إلى التنفيذ هو "فك الارتباط" بين شمال وجنوب البلاد، بعدما أقدمت حكومة الجنوب على بناء تحالفات تعمق قرارها الانفصالي. وهكذا يبدو أن الانقسام بات يقينا، يحمل خطرا وشيكا ليس على السودان وحده بل والمنطقة العربية كلها، لينجح بذلك المشروع الصهيوني في مخططه الرهيب لاستكمال مشاريع التقسيم والتفتيت ليس على أساس المصالح السياسية بل لأسباب طائفية، فالحرب، التي نسأل الله أن لا تقع، ستكون أخطر وأفظع، لأنها ستكون حربا طائفية تحت شعارات "إسلامية- مسيحية" بين شمال السودان المسلم وجنوبه المسيحي، وهذا ما يدخل في إطار إذكاء النزعات الطائفية التي نشهدها في أكثر من بلد، ولكن أبناء أمتي كأنهم لا يعلمون أو هم يعلمون ولكنهم بلا قدرة على التصدي لمخطط رهيب لن يسلم منه حتى من يظن نفسه الآن في قوة ومناعة، ويكفي أن نذكر أنه قبل ستين عاما كانت مصر والسودان بلدا واحدا، وبعد سنوات أخرى لا أحد سيعرف إلى كم بلد سيصير؟. ومن يتابع الأخبار في الإعلام الصهيوني بالتحديد يجد أن الاستفتاء على جنوب السودان يحظى بأهمية كبيرة وكأنه سيحدد مصير البشرية، وبذلك فهو يحظى بدعم غربي بامتياز، وهاهي الجهود الدولية تتحرك بفاعلية مدهشة لمناصرة الجنوبيين على حساب الشمال، وذلك ليس لأن "الشعب الجنوبي" مضطهد أو أنه صاحب حق مهضوم يجب مناصرته في تحقيق العدالة، بل إن الزخم كله سببه نجاح السياسيات الأمريكية والإسرائيلية في تقطيع المنطقة، مضافا إليه سكون النظام العربي في سبات لا يحس ولا يشعر ولا يرى. إن ما يشهده السودان قضية قومية خطيرة على نتائجها ستتحدد كثير من المسائل في قضايا أخرى، وإذا نجحت مسرحية الانفصال هناك، من يضمن لنا أن لا تتكرر نفس المسرحية في مصر أو السعودية واليمن أو الجزائر، مثلما حققت بعض النتائج في العراق، إذا انفصل جنوب السودان سيصبح "الانفصال" حقا لكل جماعة سياسية أو طائفية في البلاد العربية أن تتحرك وتنشئ دولة، على اعتبار أن هناك سابقة حصلت، وجرت وفق "الشرعية الدولية" والقانون الدولي وبالأخص الضمير الإنساني!. سلفا كير "حاكم جوبا" حث سكان الجنوب على التصويت لصالح الانفصال عن الخرطوم والاستقلال في الاستفتاء، وقال على الجنوبيين التصويت للتخلص من "استعمار الشمال" استفتاء تقرير المصير "إذا أرادوا أن يكونوا أحرارا". وسلفا كير هو خليفة جون جارنج و"المؤتمن" بعده على إقامة "الدولة"، وجارنج الذي وقّع اتفاقية السلام في نيفاشا مع الحكومة السودانية عام 2005، كان "مؤمنا" بأن "دولته" ستقوم بعد فترة انتقالية مدتها ست سنوات يتقرر بعدها المصير، وكان مدعوما في ذلك من مجمع الكنائس العالمي ومن أمريكا وإسرائيل بالذات. ولا يجب أن ننسى أن ما قاله جارنج يوما وهو أن " السودان هو بوابة الإسلام والعروبة إلى أفريقيا فلتكن مهمتنا الاحتفاظ بمفتاح هذا الباب حتى لا تقوم للإسلام والعروبة قائمة في جنوب الصحراء الكبرى"، وعندما نذكر تأكيده أيضا " نحن نرفض إعلان دولة إسلامية في السودان ونرفض تطبيق الشريعة الإسلامية لأننا نريد دولة علمانية نريد بناء سودان جديد .. سودان علماني أو سودان يغلب عليه أي طابع.. إلا الطابع الإسلامي" نتأكد أن قضية جنوب السودان بسيطة فالهدف واضح من البداية وهو التصميم على الانفصال سلما أو حربا.