في عصور ضعف الأمة وتاريخها ودخولها في لتيه يتم اقتطاع أجزاء من أطرافها وتغذية عوامل الشقاق داخلها وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية داخلها ...وهذا ما يحدث الآن في الجسد الإسلامي المريض ،فبعد أن تم اقتطاع(تيمور الشرقية )من الجسد الاندونيسي المسلم ،يتم الآن اقتطاع وفصل ثلث مساحة السودان (وهي تعادل مساحة دولة أوربية كبيرة مثل فرنسا )تمهيدا للانقضاض علي الأجزاء الأخرى من الجسد العربي والمسلم التي يجري تجهيزها وتسخينها الآن . وبصرف النظر عن الإعلان الرسمي لنتيجة الاستفتاء في منتصف يناير الحالي ،فان الجنوبيين قد حسموا أمرهم قبل ان يذهبوا الي صناديق الاستفتاء علي تقرير مصيرهم ،فالنية في الانفصال عن دولة السودان مبيتة منذ سنوات والمخطط موضوع بعناية ،وما يحدث ألان ما هو إلا التنفيذ الدقيق للسيناريو . جاء يوم الانفصال ليشهد الاحتفال الشعبي العام وسط الأفراح والأغاني وزغاريد النساء ،ووسط عظات الكنائس وخطب رجال الدين المحرضة والداعية الي الانفصال ،ففي آخر مواعظ الكهنة والقساوسة في كنائس جنوب السودان يوم الأحد السابق للاستفتاء كانت هناك دعوة جامعة شاملة لسكان الجنوب بالتصويت علي الاستقلال ،وفي أخر تصريحات زعيم الجنوب ورئيس حكومته سلفا كير ميار دعوة صريحة للاستقلال والانفصال عن الشمال وإقامة دولة الجنوب المستقلة . ومع وجود مكثف للشخصيات الغربية الكبيرة مثل "جون كيري "مرشح الرئاسة الأمريكي الأسبق ،الذي نسي نفسه كسياسي أمريكي كبير وافتخر بكاثوليكيته وقاد الجنوبيين في الصلاة مبتهجا بالنصر الذي تحقق ،مؤكدا ان الخطوة الأولي قد تحققت بانفصال الجنوب ،وسوف نفرغ بعدها للعمل علي استقلال دارفور ..وهكذا يتحدث القوم عن مخططاتهم بكل صراحة وعلانية وبال خجل . وجاء مقال الرئيس الأمريكي باراك اوباما الافتتاحي المعنون "في السودان ...انتخابات وبداية "بجريدة "نيويورك تايمز "الأمريكية الذي أكد من خلاله ان أجراء استفتاء هادئ ومنظم يمكن ان يضع السودان من جديد علي الطريق نحو إقامة علاقات طبيعية مع الولاياتالمتحدة ،وان أجراء استفتاء تسوده الفوضى سيؤدي بالضرورة الي مزيد من العزلة وجاء عرضة علي زعماء السودان ..(اذا أنجزتم تعهداتكم واخترتم السلام فهناك طريق للعلاقات الطبيعية مع الولاياتالمتحدة بما في ذلك رفع العقوبات الاقتصادية ،وبدء عملية استبعاد السودان من قائمة الدول التي ترعي الإرهاب وفقا لقانون أمريكا ،وعلي النقيض من ذلك فهؤلاء الذين يخرقون تعهداتهم الدولية سيواجهون مزيدا من الضغط والعزلة ". جاء المقال بالأصح التهديد ككلمة أخيرة وتذكير أخير وتحذير أخير للرئيس البشير ونظامه من مغبة الخروج عن النص .وبصرف النظر عن حالة الألم والشعور بالهزيمة والمهانة التي تعتصر قلب كل عربي وكل مسلم مذكرة إياه بأنه يعيش عصر الهزائم المتوالية والمستمرة ،فبعد إعلان أقامة الكيان الصهيوني في فلسطين عام 1948م،وبعد مجازر البوسنة والهرسك ،وبعد التواطؤ علي قضايا الشيشان في روسيا ،والابخاز في جورجيا ،ومسلمي مورو في الفلبين ،وبعد التواطؤ علي حقوق المسلمين في كشمير الباكستانية ،وبعد اقتطاع تيمور الشرقية من اندونيسيا ،وبعد احتلال أفغانستان مرتين متتاليتين ،وبعد احتلال العراق ...الخ ،إلا أن الأهم في هذه اللحظة التاريخية هو العمل علي ان يكون هذه هو أخر اقتطاع لأجزاء من العالم العربي . التحدي الكبير الآن هو ان تحدث حركة وعي عالية في العالم العربي،مفادها انه اذا كان جنوب السودان (غير المسلم )قد تأمر الجميع علي اقتطاعه من السودان العربي المسلم ،فانه لا ينبغي بأي شكل من الإشكال الانتظار حتى تكتمل خيوط مؤامرة اقتطاع دارفور المسلمة ،بلاد حفظة القران ،وبلاد سلطنة "الفور "الإسلامية الكبيرة . ستعلن الدولة الجنوبية ،وسوف تكون دولة جديدة طابعها الإفريقي هو الغالب ،ولا وجود للطابع العربي فيها ،ولن يكون هناك امتداد عربي لهذه الدولة ،فهي ما قامت الإكراهية للهوية العربية الإسلامية ،لذلك فان الامتداد الثقافي والعرقي والديني للدولة الجديدة سوف يكون متوافقا ومتناغما واقرب الي الدول المحيطة بها جنوبا وغربا ،وهي أثيوبيا وكينيا وأوغندا والكونغو وأفريقيا الوسطي ،حيث تنتشر المسيحية والعقائد الوثنية ،وحيث اللهجات المحلية بجانب التلاصق الجغرافي . دولة جنوب السودان سوف تكون دولة ضعيفة في كل شيء ،في الموارد والقدرات والإمكانات السياسية والاقتصادية والعسكرية ،وبالتالي فسوف تكون في حاجة الي من يوفر لها الحماية ،وبحكم أمور كثيرة ليس اقلها الترتيب والتأمر الدولي ستكون أثيوبيا هي الأقرب . وإثيوبيا معروفة بتوجهاتها الخبيثة ضد الإسلام والعروبة ،ودورها في الصومال مازال حاضرا ،ودورها الخبيث في ملف مياه النيل ضد مصر والسودان كان أهم ادوار التحريض والتعاون مع الجانبين الأمريكي والصهيوني ،لذلك فالخوف أن تتفاقم أزمة مياه النيل بعد الانفصال اذا تم توزيع حصة مياه السودان بين دولتي الشمال والجنوب ،واذا أضيرت مصر من هذا التوزيع ،وخاصة اذا انضمت دولة الجنوب لي دول حوض النيل المتحالفة ضد مصر والسودان . لنتعلم من درس الجنوب كيف نوزع خطط التنمية علي كل مناطق بلادنا ،وإذا كانت الحكومات السودانية المتعاقبة قد اهتمت بالتنمية في الشمال وأهملت الجنوب ،فالدرس القادم هو ان تنمية دارفور يجب ان تكون علي قائمة أولويات أية حكومة سودانية وكذلك الاهتمام بمناطق شرق السودان. واذا كنا متعاطفين مع نظام الرئيس البشير بتوجيهاته الإسلامية ،إلا أن انفصال الجنوب حدث في عهده وهو يتحمل هو ونظامه تبعات الأمر ،فالانفصال شهادة فشل لنظام البشير ،وهو شهادة فشل للمعارضة السودانية التي كانت في معظمها مؤيدة ومتعاونة مع الانفصاليين نكاية في البشير ونظامه ،وينبغي ان ننطلق من ان النظام السياسي الذي يستحق دعمنا هو النظام الذي يبذل الغالي والنفيس في الدفاع عن وحدة أراضي الأمة . واذا كانت دولة شمال السودان ستخسر ثلث مساحتها من المراعي والأراضي والغابات ،وسوف تخسر أهم مصادرها من البترول ،وسوف تدفع فاتورة الديون الخارجية التي تقترب من 40مليار دولار ،فان ما تبقي من ارض السودان وثرواته يكفي لانطلاق حركة تنمية واسعة ،شريطة حل مشكلة دارفور وعدم السماح بظهور مشكلة جديدة في الشرق . سيواجه السودان مشكلة كبيرة في ترسيم الحدود ،فلم يتفق الطرفان بعد علي ترسيم 20%من حدودها المشتركة رغم سنوات من الجدل وتقارير الخبراء .ومن بين النقاط الساخنه المحتملة منطقة" آبيي " التي تضم حقول البترول الرئيسية وتقسيمها بين قبائل افريقية وأخري عربية ،واحتمالات الصراع بين هذه القبائل أمر محتمل ،وقد يفتح أبواب الحرب مرة أخري بين العرب في الشمال والأفارقة في الجنوب . ومن بين المشكلات المعقدة لما بعد الانفصال مشكلة الجنوبيين الموجودين في الشمال ،والتي تشير التقديرات الي ان عددهم نحو مليونين ،وسيرغب كثيرون ممن ولدوا أو تعلموا أو عملوا أو تزوجوا في الشمال في البقاء ،لكن تصريحات عدد من كبار مسئولي الشمال تقول أنهم لن يكونوا موضع ترحيب ،أثارت مخاوف من احتمال إجبارهم علي الرحيل ،مع ما يمكن ان يمثله ذلك من توتر وتعقيد في العلاقات بين البلدين ،خوفا من تنامي العداء والكراهية بين الجانبين ،مع ما يمكن ان يؤدي إليه ذلك من مواجهات عسكرية .