قبائل وأحزاب سياسية خسرت بإتباع مشروع آل دقلو    النصر الشعديناب يعيد قيد أبرز نجومه ويدعم صفوفه استعداداً للموسم الجديد بالدامر    المريخ يواجه البوليس الرواندي وديا    فاجعة في السودان    ما حقيقة وصول الميليشيا محيط القيادة العامة بالفاشر؟..مصدر عسكري يوضّح    "المصباح" يكشف عن تطوّر مثير بشأن قيادات الميليشيا    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    أكوبام كسلا يعيد قيد لاعبه السابق عبدالسلام    الخارجية: رئيس الوزراء يعود للبلاد بعد تجاوز وعكة صحية خلال زيارته للسعودية    الأمر لا يتعلق بالإسلاميين أو الشيوعيين أو غيرهم    الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يستقبل رئيس وزراء السودان في الرياض    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية تنفجر غضباً من تحسس النساء لرأسها أثناء إحيائها حفل غنائي: (دي باروكة دا ما شعري)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    إحباط محاولة تهريب وقود ومواد تموينية إلى مناطق سيطرة الدعم السريع    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    تحالف خطير.. كييف تُسَلِّح الدعم السريع وتسير نحو الاعتراف بتأسيس!    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ريال مدريد يواجه مرسيليا في بداية مشواره بدوري أبطال أوروبا    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصالح رجل الامكنة ... بقلم: عواطف عبداللطيف
نشر في سودانيل يوم 07 - 11 - 2010

الدوحة هل تتآخى وكرمكول “ كأصيلة “ اخرى
قريته ماذا أخذ منها وماذا اعطاها !!
زارها “ النبي الخضر “ وأتكى يحادث امه “عيشه
مررت قبيل عيد الفطر المبارك بقرية كرمكول هي تنام على ضفة النيل في شمال السودان جوار قرية دبة الفقراء وليس بعيدا عن ( دنقلا العجوز ) التي انجبت اجدادي .. غاص بصري في الاسم وشخص فؤادي لذلك " التربال " المزارع الذي ما تفرجن يوما رغم اتقانة للغة بلاد بره واعتماره لربطات العنق الباريسية الحريرية لم تمنعه من التمدد داخل جلباب ابيه .. شاطر بقريته كبريات المدن العالمية وجالس حسناوات العالم .. يقول البعض ان اسمها بلغة النوبة يعني( فاكهة الكروم ) والبعض يقول انها تعني اهل الكرم والبعض يقول ان ( كول ) تعني المالك ( وكدكول ) تعني ابو جلابية ولنا ان نقول انها.. السيدة المنسية الغير محضورة إلا في رؤاياته ولمن اعتاد ركوب الصعاب بواسطة بصات سفريات امدرمان دنقلا .. والطيب صالح هو أبو جلابية لباس عموم اهل السودان.. كان يأتي اهله من لندن بالطائرة ليعتلي لوري مخصص للدواب والمحاصيل قمح وتمور وفول وسط الكتاحة وكثبان الرمال في هجير رحلة تمتد لاكثر من يومين ثلاثة او اسبوع ليعرج ممتطيا ظهر حمار حيث أمه عيشه فيتنادي الصغار " عيشه البشارة وليدك جاء " لتحشر في اياديهم حفنة تمرات او دومات .. فيتمدد الطيب داخل جلباب ابيه وبالاحرى جده باريحية العاشق الولهان المتيم بجذور اهله ونخيلات بلاده ..
في " حلة ود بركة " ولد حفظ القران وتعلم باللوح والحبر المصنوع من " سكن الدوكة " أي ما يعلق بقعر القدور بعد حرق عيدان القصب واشجار الدوم ( موقد نساء السودان قبيل تدفق البترول ونغمته ونعمته) سكب في الكتابة ما علق بذاكرته المختزنة بحكاوي جده ورصفايه اللذين فاتهم بتعلمه ونباهته وهجرته لبلاد تمود من البرد حيتانها .. عشق أكل "القراصة " من طحين قمح غير منزوع القشرة انه ليس مستورد من دول الاستكبار كما يقول اهلنا بالدواوين الحكومية كلما اشتد حصارا او تازم موقفا بين الخرطوم وعواصم المدن الكبيرة ..
رائحة دخان الموقد المغموس في طبيخ امه عيشة بنت احمد زكريا او بالاصح " القراصة " بكشنة " بصيلات مقلية بحفنة زيت " وبعض من اللحيمات كان يعشقه غير مكترس بما يخالطه من اول وثاني اكسيد الكربون.. بعض تمرات وقندول عيش ذرة يهضمن إن كان تعسرا او شبعا وكوب من ماء النهر العكران العالق به طفيلات عيدان السيسبان و ما جرفه النهر خلال مسيرته الازلية ترؤي الظمأ وتملأ اوعية المصران .. فالاعتقاد بان رطبات تمر وكوب من ماء النيل وسيلة للسمنة المضمونة وشبع حتى الكركعة ..
المكان الثاني أصيلة
شب عن الطوق وتحدثت عنه المنتديات وكبريات الصحف الاجنبية والعربية وحادثها اطلق عليه مبتدع منتدى اصيلة سعادة محمد بن عيسى وزير ثقافة وخارجية المغرب سابقا ( سيدي الزيلاشي ) وهو اسم لسكان أصيلة نسبة الى أسمها الفينقي .. حيث حج اليه والتقاه العام 1978 في فندق الخليج بالدوحة للتدارس في فكرة مشروع " أصيلة الثقافي " النابض حتى يومنا هذا برحيق كتابات ومشاركات سيد الرؤاية العربية الطيب صالح سردها باحاديث عفوية استلبها من قريته ومن افواه رصفايه وجده وامه ومن دراويش القرية ومتسكعيها وصبايا حافيات القدمين على رؤسهن صفيح ماء من نهر يتدفق ليسقي المعز والانسان والنبات انها لهن وبهن تربع الطيب على ذلك العرش الذهبي في بلاد بعيدة لا تحصى ولا تعد وحصد الشهرة والجوائز وسقطت كرمكول الحاضرة المنسية منذ ان ابتلعها النيل العام 1946 وتلك التي قامت على انقاضها حتى يومنا هذا .

والثالثة مقابر البكري..
تصادف هذه الايام مرور 600 يوما تقريبا منذ رحيله عن الفانية وقد كنت حاضرة بمقابر البكري بام درمان.. حيث دفن وعلى غير عادة النساء ساقتنا اقدامنا لحضور تشييعه في موكب صوفي حزين امه اهل السودان وسادتها وسياسييها ... ولعلنا أحسنا صنيعا حيث نسجنا على صفحة وشاهد قبره سيقان جريد اشجار النخيل التي طالما نسج من عرجونها حكاياته وقصصه التي ادهشت العالم وصنفت روياته ضمن مائة رواية عالمية متميزة .. ونحسب ان تلك الجريدات التي عصعصت من هجير نهارات الصيف ما زالت تسبح بجوار اطراف راسه الذي انهكه التسفار ووهج عدسات الكاميرات والابتسامات الجزيلة لحسناوات العالم ومتصابيات الفضائيات برغم احتباس حزن دفين بداخله لان القهقهات لم تكن لامه عيشه واخته علوية التي أحب وعشق عشقا ابديا ولم يسعفه جسده المنهك من التسفار بعيدا عن كرمكول ليعاودها فنزلت على خديه دمعات هي كل الكلام المباح في اخر اطلالة تلفزيونية له وهو في مشفاه بلندن ..
الدوحة التي أحب هل تتآخى “ وكرمكول “ كأصيلة أخرى ..
والان ننعاه في الدوحة على شرف ندوة اقيمت بالصالون الثقافي بالبدع بمناسبة الدوحة عاصمة الثقافة العربية التي أحب .. ننعاه لنعيد لكرمكول شيء من منظومة الحقوق الفكرية لتكون اصيلة سودانية بنكهة قطرية فقد فضفض البعض اسهابا اقتباسا مما كتب وسرد وحادثهم وقال لهم وحيث التقاهم او ناقشهم وجالسهم ..البعض حلل رؤاياته والاخر اكتفى بلمحات من سيرة الطيب العطرة ..
فهل نقف ابدا وطويلا عند مآثره وسيرته ونسترجع كتاباته التي دس فيها حبه الدفين لانسانيته ولاهله وطفولته التي ظلمها حين عاش بعيدا عن مرتعه وقفز بها لعالم الاضواء دون ان يضيء حوافها ويبلل بحبات عرقه حيضان اللوببيا او يقتلع باطراف انامله طفيليات “ الحلفا والعمشيب والتنضب “ التي تعلق بسيقان القمح وشجيرات النخيل فتقتال ثمراته وتمراته .. فالصالح لم يقدم لتربال كرمكول رغيف خبز او جرعة دواء أو يفتح لهم مشافي ومدارس ومسارح لم يدفع لهم حقوق الملكية الفكرية التي استقى منها وشرب منها حتى الرمق الاخير ..
هل يمكننا ان نتقدم خطوات لنرد له وعن الطيب سيد الرواية العربية دين مستحق “ لكرمكول “ ولدومة ود حامد ولنخلات تترنح وسط عواصف الصحراء تناديه في صمت وهو القريب البعيد ..
أما كفاه الطيب صالح أقوال وحكايات ومدارسات لسرده المدهش .. قال عنه جونسون ديفز ان روايته " موسم الهجرة الى الشمال " والتي ترجمت للانجليزية منذ ردح من الزمان أنها اكثر قطعة تتسم بالكفاءة تخرج من رحم افريقيا ..
وهذا الطيب الحاضر الغائب كان يقوى احساسه بالامان وهو طفل حين يحدثه جده عن الحياة قبل خمسين عاما لا بل اكثر من ثمانين عاما انه طيلة كتاباته المدهشة وباسهامه الحضاري الانساني هدم بسرده المباح وما نقل عنه حواجز وسواتر عتية بين المضمون المحلي والعالمي أنبض الروح والصوت في شخوص شخصياته الروايئة والتي هاجر بها لبلاد الانجليز وظل يأكل من سنامها اللغوي حين مزج بحرفية رفيعة مفردات العامية السودانية وفصحى العربية للدرجة التي تحسس الكثيرون من ان يكون يكون مصطفى سعيد يجاورهم او هو أحدهم او هو بعينه الطيب وكتاباته وبعضها التي منعت من الدخول لعاصمة بلاده في فترة ما .. انها كلها او بعض منها كانت من " سحارة " صندوق جده وهو يتؤكى على عصى خشبية هي ايضا من بقايا جريد النخيل واخريات من حكاوي نساء بلاده وعواجيزهم واطفالهم ودراويشهم .. ولم يكن هذا الطيب الصوفي الدرويش يخجل من طفولته فقد أمعن النظر في دواخله واسترق السمع بفن الانصات الذي كان يجيد صنعته واسترجع محطاته وحكاوي أهله منذ ان كان حافي القدمين يجالس الصبايا على قيف النهر او يرعى معيزات ذات ضرع ضامر وشعر مجعد " يتحكحكن “ بسيقان قناديل " عيش الريف " والحلفا والشوك والضريس العالق في الوبر أكل من مخزونها وهو هرم ونابغة بلا منازع في ميدان الحكايات والسرد المباح دونما ثمن مدفوع حتى ولو غذاه برحيق ارق الكتابة المرهق ..
النبي “ الخضر “ زار كرمكول حلما أم يقينا
قال "كبرت ودخلت في تعقيدات الحياة ولكن عالم الطفولة بالنسبة لي ملجأ اهرب اليه لاعيش متحررا من الهموم .. ذلك العالم الوحيد الذي أحببته دون تحفظ .. ان امي عيشة جاءت بي العام 1929 وصممت ان يكون اسمي الطيب لانها حلمت بان " النبي الخضر " أعطاها خرزة زرقاء وتنبأ لها بمولود طيب “ .. اذن " النبي الخضر " قد حط رحاله في قرية كرمكول انه أتكي جوار موقد عيشة وهي تدفىء وليدها الطيب من صقيع شتاء صحراء ناحية دنقلا دبة الفقراء .. ولما لا وغاب قوسين منها تقع دنقلا العجوز حيث تقول الآثار ان حضارة انسانية غنية مدفونة في تلك البقاع وان الصحابي عبدالله بن ابي السرح بنى مسجدا في بلاد النوبة المسيحية وكتب معهم اتفاقية البقط لرعاية المسجد ونظافته وليؤدي المسلمين الجدد عبادتهم في رحابه حيث دخل الاسلام سليما ودون اراقة للدماء .. وتلك الاثار العريقة والغنية والمنسية ما زالت تصارع للبقاء دون ان تصلها ايادي المؤسسات التي ترعى عادة الكنوز والاثار .. وطالما المثقفين هجروها ولو لحين ..

الطيب صالح هل نكرمه في قريته
هذا " الصالح " سبق عصره حين تناول في رواياته صراع الحضارات الذي بدأ باكرا في مخيلته التي اختزنها ايضا من اهله وعالجها حينما احتدت المواجهة بين مصطفى سعيد بطل احدى رؤاياته وعندما التقى بند له في بلاد الانجليز.. وحدثنا في ثنايا رواياته الموغلة في الانسانية وفن الحياة الاجتماعية عن الطب البديل فالطاهر ود الرواسي ينصح سعيد عشا البايتات " زمان قلنا ليكم عليكم بالحلبة والجنزبيل .. ( الجنزبيل الصباح على الريق والحلبة قبل النوم ) انها وصفة مجربة من هذا الطيب صالح الذي نتناول سيرته فعليكم بها في هذا الزمان الذي تعكر صفاؤه وارضه بالتهجين والتدليس واشباه المثقفين .. وناطحت المكروبات البشرية والنباتية اغصان النخيل شجرة الخلد وما عاد الطعام ذاكيا ولا صحيا ولا النفوس صافية نقية .. وبرغم ذلك يبقى وهج الشمس ساطعا كيومنا هذا في بلدنا هذا دوحة الخير التي انبت بها الطيب خيرا كثيرا في مفاصل الالة الاعلامية والثقافية وحينما ارتحل لبلاد تموت من البرد حيتانها سكب تجاربه بمصداقية نافذة يسترجعها القوم هنا وهناك ..
ولعلي أسعد حظا من الكثيرين حين اطللت قبل اسبوعين على كرمكول .. وحين شاركت في اصدار كتاب " نخلة على جدول الابداع " ان استكتب الاديب الشاعر د. حسن النعمة ود. حسن رشيد ود. احمد عبدالملك وقد كانوا أحسن رصفاء لكتاب من بقاع العالم تدفقت احبارهم في ذكرى الطيب صالح .. وكانت سانحة للاطلالة على سيل من الكتابات عن الراحل في شهره الاول الذي قادر هذه الفانية ومن هنا التحية لبنك المال المتحد بالخرطوم فقد كانت مبادرتهم بتخليد اسمه هي الاولى على الاطلاق متجاوزين المهام المصرفية لعظم المشاركات الانسانية لان الطيب قامة سودانية تستحق ان يفتح لها حسابات المصارف ..
تآخي الدوحة عروس الثقافة وكرمكول المنسية
والامكنة دايما حاضرة في خاصرة وعظم رؤايات الطيب صالح فقد شاركت ضمن مجموعة في اعداد كتاب " نخلة على جدول الابداع " والذي تولى تمويل طباعته بنك المال المتحد بالخرطوم والذي يقع في 260 صفحة صمم غلافه عميد التشكيليين السودانيين الاستاذ شبرين وكان خلاصة لما التهمنا من مما كتب عنه وبما يعادل الطن او يزيد من صحف ومجلات وما سكب من احبار تناولت سيرته مسيرته الطيبة ..
اصيلة اخرى بكرمكول بروح الدوحة وانفاسها
والطيب الذي صعدت روحه الطاهرة لباريها بعد بعاد امتد لنصف قرن او يزيد عن وطنه .. هي دعوة لان ننسج من الدوحة علاقة تماذج وتأخي مع كرمكول .. نعطي هذه القرية الوديعة التي تنام على ضفاف النيل حقها شمال السودان .. نحي دومة ود حامد .. هل نقيم مشفى او شفخانة او مدرسة اساس في تلك القرية التي طاف بأسمها واكل من سنامها وتربع على عرش الثقافة والرؤاية في انحاء العالم ودواوينه الفخيمة وفنادقه وعلى جبال الالب ساح وفي قرطاجة تقهق وفي لبنان جالس وفي الرياض وقاهرة المعز وفي فيينا واندونيسيا وفي كل بقاع العالم كان وما زال وقريته نائمة كما هي في باطن النيل حين ابتلعها فيضانات 1946 وقامت بديل لها كرمكول اخرى لتكون مزار لمن عشقوا الصالح الطيب رجل كرمكول الذي قوى عوده من رحيقها وضعف نصلها من كثرة ما ارتؤى منها ..
قال في طفولتي كنت انام حين يسكن الطير ويمتنع الذباب عن مشاكسة البقر .. وترقد الماعز على جنوبها تجتر ما جمعته في يومها من علف ( نحن وحيواناتنا سواء بسواء ) انفاسنا جميعا تتصاعد بتدابير واحد .. أحد .. وكرمكول التي اقول اليوم ليست تلك التي غادرها الطيب حافي القدمين اشعث حافي الرأس فهي الان تصلها كل العربات بعد ان تم سفلتت طريق امدرمان دنقلا " شريان الحياة " وقد وضعت لافتة لامعة تشير لبلدة كرمكول تصلها الراحلة من الخرطوم بعد حوالي الثلاث لاربع ساعات تقريبا ..
ان النيل يتدفق والنخيلات تصارع للبقاء انها بقعة خلابة تفتقد للمدنية للمشافي والمدارس انها احدى المدن المنسية تتراصص ناحية دنقلا العجوز " القدار " تلك البقعة التي تختزن حضارة بأكملها ان التاريخ يحكي انها كانت عاصمة لدولة المغرة ايام النوبة ان كثير من الاثار التي تحكي سيرة حضارة مؤغلة في القدم يمكن ان تعيد الوهج والحياة لنخيلات بلادي التي تبكي حالها ..
ان الطفيليات " الحلفا والتنضدب " والشوك تتصارع مع شجيرات النخيل فتصرعها وتغتال وليداتها من الرطب الشهي ماكولات تلك الناحية في شمال السودان .. والمايكرفونات الاذاعات والتلفزيونات الممسك بها الطعمة النافذة تقول نأكل مما نزرع .. ونلبس مما ننسج وما زال الصبايا حفاة عراه .. ومثقفي بلادي يمسكون بالمايكرفونات كلما عقدت ندوة ليشهروا على الملا صداقاتهم بذلك " التربال " الذي تغذى بحكاوي قريته ومات دون ان تسعفه الحياة ليغسل وريده من مياه طالما شربها عكرانه مليئة بالطمي ..
ان اشكالية ثلة من المثقفين هو الخروج من جلباب الاب ولكن الصالح كان يعيش في جلباب جده وسط نعاجهم وابقارهم وجريد نخيلهم لذلك كان صادقا .. إن القطيعة بين الثقافات رغم التحزب للعولمة او التناطح والتدافر بالمناكب دون ارث عميق وفكر عميق يفقد الناس وجاهتهم .. وكثير من انسانيتهم .. لكن الطيب انسانية تمثلت في رحابة خياله .. في التسامح .. في البساطة .. وروح الدعابة شأنه شأن غالبية اهل السودان الغبش المتصالحين مع دينهم ودنياهم انه كان كوة للضوء سقفه السماء .. وتخومه الكون ضياء .. فهل نحن فاعلون شيئا لتلك " الكرمكول " ليعيش الطيب حيا بين اهله وناسه ومحبيه عملا ملموسا ينفع السواد الاعظم .. اللذين ما زالوا يتشافون تحت شجيرات النخيل العتيقة ما زالوا يغايضون التمر بالسكر وزيت الطعام ويركبون الحمير ذهابنا للمدارس .. هل نرتحل لشعوب الارض المنسية من مسنين واطفال وعجزة ونساء يصارعون الحياة من أجل البقاء بعد ان غادرهم وليدهم الطيب ولم يرجع لهم منذ سنوات الدراسة او بعدها قليلا لكنه طاف بحكاياتهم كل بلاد المعمورة
هل تستطيع الدوحة ان تتآخى مع كرمكول لتكون " أصيلة " اخرى ؟
عواطف عبداللطيف
awatifderar [email protected]
اعلامية مقيمة بقطر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.