لم أتوقف كثير عند مغزى كلام البشير في القضارف عن تطبيق الشريعة الإسلامية التي من المفترض أن تكون مطبقة منذ أكثر من عقدين من زمان الإنقاذ، فلا أراه إلا رجلا كجعفر نميري في أيامه الأخيرة يوم قال: "حرّم الإسلام التجسس والتحسس لكن نحن حنتجسس ونتحسس وننط البيوت والشريعة الكعبة دي حنطقبها"... المثير أن حديثه عن رفض التنوع الإثني والثقافي جاء بعد أقل من يومين من عرضه للجنوبيين كل بترول الشمال مقابل الوحدة...إذن ما الذي حدث في خلال هذين اليومين وجعله يأتي بنقيض ما قاله من تحبيب الوحدة إلى قلوب الجنوبيين؟ هل كان ذلك ردا على علي عثمان طه الذي أكد في ذات الخبر الذي أوردته صحيفة الشرق الأوسط "إعلاء قيم التسامح الديني في السودان والتعايش الديني الأصيل الذي يُعلي لكل دين رأيته كاملة"؟ بل طلب من الذين يريدون المزايدة بحماية حرية غير المسلمين أن يأتوا إلى السودان ليأخذوا الدروس الغالية والراقية في التسامح الديني؟... د. نافع، ذكر في مقام آخر إن مجهوداته في حفظ السودان موحدا قد باءت بالفشل... لا أعتقد أن الشعب السوداني يذكر لنافع أية مجهودات نافعة في أي شيء، بل استطيع القول أن مجهوداته في تنفير الجنوبيين من البقاء في سودان موحد قد أثمرت في تبني الحركة الشعبية مبدأ الانفصال... هل نحن أمام مراهقة سياسية أم رهق؟ الاثنان معا... السياسة في السودان يديرها مراهقون لم يبلغوا سن الرشد بعد، "رايح ليهم الدرب في المويه" رغم كل السنوات التي قضوها داخل الحكم وخارجه. وأصابهم الرهق جراء سياساتهم الخاطئة حتى انطبق عليهم قول الحق عزّ وجلّ "أن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث"... على أن الذي يهمنا قوله في هذا الأمر، إن استفتاء التاسع من يناير وإن جاءت نتيجته لصالح الانفصال لا يعني تلقائيا قيام دولة معترف بها في جنوب السودان، ذلك لأن اعتراف المجتمع الدولي بتلك الدولة يقتضي اعتراف السودان بنتيجة الاستفتاء... لهذا السبب كان تركيز المجتمع الدولي على أمرين صار يرددهما حتى أصبحا كالتميمة لكل ما يقال عن اتفاقية السلام الشامل... - الأول ضرورة قيام الاستفتاء في موعده المضروب في التاسع من يناير 2011 تحت أي ظرف ورغم كل عائق حتى وإن جاء معيبا من حيث الشكل والمضمون... - الثاني أن تقبل الحكومة بنتيجة الاستفتاء وإن جاءت وفق معطيات مغلوطة.. هذان الأمران لم يتم التركيز عليهما من قبل وسائل الإعلام بصورة عامة أو من المسئولين والمحللين الإستراتيجيين الذين تمتلئ بهم القنوات الفضائية والصحف السيارة رغم أنهما يشكلان حجر الزاوية في استفتاء جنوب السودان. قد يسأل البعض ما هي أهمية الالتزام بموعد الاستفتاء إذا كانت هناك نواقص في إدارته بصورة شفافة ودون تأثير مباشر أو غير مباشر على المستفتين undue influence؟ أو إذا كانت هناك إمكانية عدم الاعتراف به من قبل الدولة السودانية بسبب تلك النواقص؟ خصوصا وأن الحركة الشعبية استبقت الاستفتاء وقررت أن 90% من الجنوبيين سيصوتون للانفصال، وهو أمر لا يمكن لعاقل القبول به في ظل أمية تصل إلى 85% يستحيل الاطمئنان معها لاختيار عقلاني بين الوحدة والانفصال. لقد سبق أن ذكرت في حوار مع صحيفة الأحداث في 26 يوليو 2009 إن انفصال الجنوب أو بقاءه ضمن السودان الواحد يعتمد على رغبة الحركة الشعبية... المواطن الجنوبي لا حول له ولا قوة في هذا الأمر تماما كالمواطن الشمالي... لوردات الحرب في المؤتمر الوطني والحركة الشعبية على حد سواء هم الذي قرروا هذا الانفصال حالما اغتنوا من غنائم الحرب وأرادوا الاستمتاع بتلك الغنائم بعد أن جف عندهم أو كاد أن يجف وقود تلك الحرب من البشر وبعد أن أحس الكثيرون بعبثيتها... نيفاشا لم تكن سوى تعبير عن عدم القدرة على مواصلة الحرب، بالتالي كان ينبغي أن تكون اتفاقية لوقف العدائيات...ولا أدري لماذا أُقحم فيها موضوع تقرير المصير...على كلٍ، تلك مسئولية يتحملها كل من ناقش ووقع ووافق على هذه الاتفاقية المشئومة. ما نود ذكره هنا أن استفتاء جنوب السودان في 9 يناير 2011 لا يتم بموجب تطبيق قواعد القانون الدولي due process of international law الذي أقر حق الشعوب المستعمرة في تقرير مصيرها، والجنوب كما نعلم ليس بدولة مستعَمَرة من قبل شمال السودان. الاستفتاء كان نتاج اتفاق بين طرفين لا يستطيع أي منهما إدعاء تمثيل أي جزء من الوطن الذي اتفقا على تقسيمه، وبالتالي هو اتفاق داخلي اكتسب شرعيته السياسية من دعم المجتمع الدولي له... ولضرورة الالتزام بما جاء في اتفاق الطرفين، وافق المجتمع الدولي على بقاء حكومة البشير، وغضّ الطرف عن تزويرها للانتخابات بوصفها الطرف الملتزم بما جاء في اتفاقية نيفاشا... ولعين السبب سحبت الحركة الشعبية في اللحظات الأخيرة ترشيح ياسر عرمان لأن فوزه سيخل باتفاقية نيفاشا...ولذات السبب يصر المجتمع الدولي على ضرورة اعتراف حكومة البشير بنتيجة الاستفتاء لأن عدم الاعتراف به سيقود إلى عدم الاعتراف الدولي به أيضاً، لأنه إبتداءا اتفاق طرفين داخليين ولم يتم بموجب القانون الدولي. تحسبا لرفض الخرطوم، يُلاحظ أن المجتمع الدولي لم يشجع الجنوبيين على إعلان الاستقلال من طرف واحد أو من داخل برلمان الجنوب كما حدث في استقلال السودان نفسه الذي أعتبره القانون الدولي دولة مستعَمَرة. تقول المادة الرابعة من ميثاق الأممالمتحدة: 1- "العضوية في الأممالمتحدة متاحة لجميع الدول الأخرى المحبة للسلام والتي تلتزم بما ورد في هذا الميثاق والتي ترى الهيئة أنها راغبة وقادرة على تنفيذ هذه الالتزامات" 2- "قبول أية دولة من هذه الدول في عضوية الأممالمتحدة يتم بقرار من الجمعية العامة بناء على توصية من مجلس الأمن". قواعد إجراءات الجمعية العامة للأمم المتحدة تنص في موادها من 134 إلى 136 على ما يلي: 134- أية دولة ترغب في الانضمام إلى الأممالمتحدة عليها تقديم طلب للأمين العام يتضمن التزام تلك الدولة بقبول ما ورد في الميثاق. 135- على الأمين العام أن يرسل نسخة للعلم للجمعية العامة أو إلى الدول الأعضاء إن لم تكن الجمعية العامة في حالة انعقاد. 136- إذا أوصى مجلس الأمن بقبول الدولة في عضوية الأممالمتحدة يُحال الأمر للجمعية العامة لتحدد ما إذا كانت الدولة مقدِمة الطلب محبة للسلام وقادرة على تحمل الالتزامات المضمنة في الميثاق، وعليها، أي الجمعية العامة، أن تقرر بأغلبية ثلثي أعضائها الحضور المصوتين على طلب الانضمام" الكلفتة التي يريد البعض بها أن يتم الاستفتاء تتيح لحكومة الإنقاذ فرصة كبيرة لعدم الاعتراف بنتيجته، ولهذا الأمر تداعياته التي تحسّب لها المجتمع الدولي عندما أصر على ضرورة اعتراف الخرطوم بالنتيجة. وفق المادة 27 من ميثاق الأممالمتحدة يتخذ مجلس الأمن قراراته بأغلبية 9 أصوات ما لم يستعمل أحد الأعضاء الدائمين حق نقض القرار، وهو أمر جائز إذا تمكنت الخرطوم من إقناع الصين بذلك... فالصين لها مشكلة مشابهة في تايوان وهونج كونج والتيبت وكلها مناطق قد تسعى يوما لطلب الانفصال من الدولة الأم... كما أن الصين على قناعة بأن استثماراتها في بترول الجنوب لن تستمر في ظل التعاون الحادث بين أمريكا ودول غربية أخرى وبين السلطة الحالية الموجودة في جوبا والتي قد تستغني عن الصين لتستفيد من التقنية الغربية المتقدمة في استخراج البترول... إذا تخطى الطلب عقبة مجلس الأمن الدولي فهناك الجمعية العامة للأمم المتحدة التي ينبغي نيل موافقة ثلثي أعضائها الحضور والمصوتين. وعلى افتراض أن جميع أعضاء الجمعية العامة البالغ عددهم 192 عضو سيحضرون ذلك الاجتماع، فينبغي أن ينال القرار موافقة 127 دولة وهو أمر يكاد يكون من المستحيلات. الخرطوم تحتاج ل 65 دولة فقط لإسقاط القرار... فإذا أخذنا في الاعتبار الرفض المبدئي لمنظمة المؤتمر الإسلامي لتفتيت السودان أو أية دولة إسلامية أخرى، فسيكون لدى السودان 56 صوتا مضمونا، ولا اعتقد أنه من الصعب إيجاد 9 أصوات أخرى من الدول المارقة أو الكارهة لأمريكا. هذا الأمر إذا تم بهذه الطريقة سيمنع الاعتراف بدولة جنوب السودان وهو أمر يخشاه المجتمع الدولي بصورة كبيرة. لكن ما الذي ستصنعه حكومة المراهقين الموجودة في الخرطوم بهذا الوضع؟ هناك خياران: الأول: إذا كانت حكومة الإنقاذ ترغب في بقاء السودان موحدا يمكنها استغلال الدول المؤيدة لموقف السودان في رفض قرار الاعتراف بدولة الجنوب في الجمعية العامة للأمم المتحدة... عدم اعتراف الجمعية العامة يعني بالتالي عدم تعاون منظمات الأممالمتحدة الأخرى مثل الصحة العالمية واليونيسيف واليونسكو وبرنامج الأممالمتحدة للتنمية وغيرها من المنظمات المتخصصة التي تحتاجها الدولة الوليدة في بناء قدراتها أو توفير التمويل لها كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وستصبح دولة الجنوب الوليدة مثل جمهورية شمال قبرص التركية أو ارض الصومال، لن يستطيع أحد التعامل معها إذا وُجدت حكومة قوية في الخرطوم... غير أن هذا الموقف يقتضي نوع من الوطنية والتجرد ونكران الذات لا أظنه يتوفر لدى الذين يحكمون السودان الآن، والذين تهمهم مصائرهم أكثر من مصير السودان...إذ يمكن إبقاء الوضع الراهن كما هو إلى أن يقيض الله للسودان رجلا راشدا يستطيع إقناع الجنوبيين بضرورة البقاء في السودان الموحد وفقا للصيغة المناسبة... فلولا اتفاقية نيفاشا، لا يستحق جنوب السودان وفق المادة (6) من إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعَمَرة أكثر من حكم ذاتي يحفظ له خصوصيته ويتيح له إمكانية تنمية موارده الطبيعية والبشرية وتنمية ثقافته الخاصة. المادة (6) تقرأ: "كل محاولة تستهدف التقويض الجزئي أو الكلي للوحدة القومية والسلامة الإقليمية لبلد ما، تكون متنافية ومقاصد ميثاق الأممالمتحدة"... الثاني: إن لم يكن لحكومة الإنقاذ رغبة في بقاء الجنوب كجزء من السودان الواحد، وهذا هو الأمر الراجح لديها، يمكنها استغلال ذلك الموقف لأخذ ما تستطيع أخذه من المجتمع الدولي بما في ذلك إعفاء الديون الخارجية ونقل التكنولوجيا، والسماح بدخول رؤوس الأموال الغربية للسودان... وسيضيف آخرون وقف ملاحقة البشير قضائيا، إن لم يجعلوها مطلبهم الأوحد رغم استحالته. فبعد أن صدعونا بأن انفصال الجنوب خطاً أحمراً وأنهم سيسلمون السودان كما استلموه في يونيو 1989، كان استسلام البشير واضحا حين قال إن انفصال الجنوب لا يعني نهاية الدنيا، مع أنه في حقيقة الأمر يعني موت دنيا بكاملها...الجنوب كجزء من أرض السودان ما كان ينبغي التفريط فيه تحت أي ذريعة كانت... في التصويت على استقلال كويبيك في العام 1995، قال جان كريتيان رئيس وزراء كندا آنذاك والمنحدر من إقليم كويبيك المطالِب بالانفصال: "لن أجعل اسمي يرد في سجل التاريخ على أنني الشخص الذي في أثناء رئاسته انفصل إقليم كويبيك"... فهل رأيتم الفرق بين المراهق السياسي ورجل الدولة؟ MOHAMED MUSA GUBARA [[email protected]] 22 ديسمبر 2010